تواصل النساءُ العمل من منتصف الطريق؛ عندما يصل القارب إلى المنزل، ويسلّمهن ما تمّ جمعه من "بَرْدي" (قصب) الهور، والأهوار هي المستنقعات ذات القصب الكثيف التي تمتد على مساحة كبيرة بين جنوب إيران وجنوب العراق. في الحقيقة ليس البرْدي نفسه هو ، بل زهرته أو كما يقول أهالي الهور "الضربوط". المادة الخام لإعداد "الـخرّيط"، تلك المادة الغذائية المذهلة.
لمس جينكوه (القارب المحلي الصغير) الأرضَ الترابية والرطبة، فوضع صادقُ قدمَه خارج القارب، فيما بقيت قدمه الأخرى وسط القارب.
سلّم أربع علب بلاستيكية كبيرة مليئة بمسحوق الكبريت الملوّن، واحدة تلو الأخرى، إلى الفتيات. انتهت وظيفته في هذا الوقت، والآن على الفتيات أن يتستمررن بالعمل.
في قارب صادق
في الصباح ذهبتُ مع صادق بنفس القارب باتّجاه "هور الدَّورق" على بعد 70 كم من جنوب الأهواز. يسكن صادق في قرية "الصراخية" في منطقة الدورق. في بداية الأمر مرّ بشِباكه الذي فرشه يوم أمس. قال إنه لا تزال هناك فرصة لدخوله المزيد من الأسماك، كما أنهم في موسم الأمطار، لا يحتاجون إلى الابتعاد كثيراً من القرية للوصول إلى "البردي"، ولكن بعد الجفاف وانخفاض حجم مياه الهور، وتدفّق نفايات قصب السكر، أصبح "البردي" شحيحاً. وهو عبارة عن غطاء البابيروس نفسه. نبتة يصل ارتفاعها في بعض الأحيان إلى خمسة أمتار، وقد كان يصنع منها المصريون الورق.
بإمكانك أن ترى من بعيد احتفالَ الألوان: خطوط الحصيرة الملوّنة والمتقاطعة خضراء وعنابية وحمراء وبرتقالية، وفساتین الفتيات ذات الألوان الفاتحة، وكُتل الخرّيْط الفوسفوریة.
"لم تكن أحوال هور الدورق جيدة لعدة سنوات، ولكنها أفضل هذا العام. وسيبقى الهورُ حياً لبضع سنوات قادمة بسبب الأمطار التي هطلت". يقول ذلك أحد أهالي قرية الصراخية، ويضيف أن المطر يجعل حال الهور جيداً، لكنه لم يصبح حيّاً تماماً دون إطلاق مياه نهر "الجراحي" نحوه. طيلة عقد انخفض حجم مياه الهور، ورحلت البركة منه، ولكن الآن نزلت عليه مياه من نهريْ "مارون" و"كارون".
حياة الهور
يقول صادق: "حياة الهور مرتبطة بالبردي، فالسمك والطيور يعشقان البرديَّ، وليس القصب، لأنه يجرحهم. في العام القادم سيتضاعف مقدار البردي".
دفع صادق القارب الضيق المعدني وسط كتلة البردي بمساعدة المجداف. الأوراق هشّة ولطيفة بلون الأخضر الداكن. كلما اقتربنا أكثر إلى البردي، كلما فاحت الروائح أكثر. مرة أخرى بمساعدة المجداف قام صادق بانحناء كتلة من البردي كي يصل إلى تاج النباتة. تاج البردي كان أخضر يميل إلى الأصفر، وهو أرقّ قليلاً من أصابع الإنسان، ويبلغ طولها 30 سم، وربما أطول بقليل.
وضع التاج بین أصابعه وجرّه بحرکة سريعة. اسم المادة مأخوذ من كيفية جرّه من التاج: خَرط، يخرط، فهو مخروط، وخِرّیْط؛ صفة مشبهة تعني المفعول به من "خرط"". تصاعدت الروائح أكثر وأكثر، وأنا أتساءل أين "کوکو شنل" من هذا؟! ثمّ بقیت کومة من الأعشاب بين يدي صادق؛ شىء يشبه بقايا الجزر بعد عصره، ولكن بشكل ألطف وأنعم. ثم أطلقها صادقُ في الوعاء بكلّ هدوء.
یقول: إن اقتطاف الخِرّيْط لا يمكن سوى في الشهر الأخير من الشتاء وأوائل الربيع. وبعد فترة قصيرة تغدو تيجانه جافة، وألوانها بنية، وتطير في الهواء بنسمة هادئة، لذلك يجب أن نسرع.
يبدو أن السومريين والبابليين كانوا يستخرجون هذه المادة الغذائية من أهوار العراق وبين النهرين، ويتناولونها كأكلة خاصة بالأشراف والأعيان.
لملء دلوٍ صغيرة عليهم أن يقتطفوا تاج البردي من مساحة كبيرة. لم انتبه کم استغرق الأمر، ولكن عندما وصلنا إلى قرية الصراخية لم يبق وقت حتى الظهر.
ترتيب الاستعدادات
کانت الفتيات جالسات من قبل في ساحة البيت الواسعة تحت ظلال النخيل، واضعات مائدة ًكي تفرش عليها المادة الخام للخرّيط. كانت المائدة البلاستيكية دون أى مخرج، خشية إهدار القليل من تلك الألياف. يجب أن تجفَّ الألياف هنا حتى لا تبقى فيها أيّ رطوبة. عندما حلّ العصر، فرشت الفتيات بمساعدة أمّهن فراش العمل فوق العرزالة.
البلّ، وهو الحصيرة المنسوجة من أوراق النخيل، أربع صوانٍ تحتوي على الموادّ الخام، أربعة أوعية صغيرة، وأربع قطع من الدانتيل المستخرج من "ثوب" مستعمل (مفردة "الثوب"تعني في هذه المنطقة، القماشَ الأسود الشفّاف الذي ترتديه النساء العربیات في محافظة خوزستان فوق أزيائهن).
بإمكانك أن ترى من بعيد احتفالَ الألوان: خطوط الحصيرة الملوّنة والمتقاطعة خضراء وعنابية وحمراء وبرتقالية، وفساتین الفتيات ذات الألوان الفاتحة، وكُتل الخرّيْط الفوسفوریة.
جلس کل شخص جنب حصّته المعينة وبدأ بالعمل دون حتى كلمة واحدة. كانوا یمسكون التيجانَ بأحجامٍ صغيرة، ویضعونها على الدانتيل، ویضغطون علیها بشكل مستدير، لتنزل من الدانتيل إلى الوعاء. عمل يجري بهدوء خشية اختلاط المسحوق بالنفايات.
تبخیر الذهب
أنهت الأمُّ عملها قبل الجميع، وذهبت لتمهيد المراحل القادمة. وضعت کؤوساً من الماء في وعاء، ثم غطّت الوعاءَ بقماشة شفافة. وقامت بشدّه على الوعاء بواسطة حبلٍ. بعد ذلك وضعت کتلةً من المسحوق على القماش، ومن خلال إحدى الكؤوس قامت بتسطيحه قلیلاً. ثم قلبت قطعة القماش الشفافة، وقامت بتغطيتها كلّها بالمسحوق. تقول إن البعض یضیف قلیلاً من السکر أو دبس التمر إليه ليجعلوه أكثر حلاوة.
والآن لقد حان الوقت لتبخيره.
کان قد تمّ بناء الفرن في ساحة البیت ببعضٍ من الكتل الأسمنتية. أشعلتْ إحدى الفتيات قطعة من السعف (غصن النخيل)، ودفعتْه نحو الحطب.
ولم یکن الحطب سوى قطعٍ من "الكرب" (القطعة الکبیرة للنخلة، ونقطة اتصالها بجذع الشجرة)، وقطع من السعف. اندلعت النار وتصاعد الدخان إلى الهواء. وهناك أتيحت فرصة للفتيات أن يتحدّثن بعضاً إلى بعض.
کانت النار تشتعل ببطء، وعندما وصل الماء إلى نقطة الغليان والبخار، بدأت المساحيق تلتصق ببعضها بعضاً، وتتخذ أشكالاً علی القماش. أشكال بسيطة وبدائية يتمّ الاكتفاء بها دون تغيير ف الماضي واليوم، وهي الأشكال الأكثر شيوعاً في السوق. فربما لم تتغیّر هذه الأشكالُ منذ فترة السومريين، والبابلیین وأهل الميسان. يبدو أنهم كانوا يستخرجون هذه المادة الغذائية من أهوار العراق وبين النهرين، ويتناولونها كأكلة خاصة بالأشراف والأعيان.
أخذ أخصائي الكيميا قطعة من الخرّيْط وبعد اختبارها، حصل على نتائج مذهلة من مشتقاته وخصائصه الغذائية؛ فكشف أنها مادة غذائية غنية بالكالسيوم والصوديوم والفوسفور.
والآن تذهب أمّ العائلة مبتهجة كي ترى نتيجة العمل. البسمة التي انطبعتْ على وجهها كانت علامة الرضاء. عندما انتهى التبخيرُ فتحتْ ربطة القماش الشفاف فكان الخريّط جاهزاً، وکأنه قطعة جبنة محلية. إنها نتیجة عمل عائلة صادق اليوم: أربع قطع من الخرّيط وزنُها كيلو واحد.
حفلٌ یشبه حفلَ استخراج ماء الورد في منطقة "قَمصَر" بمدينة "كاشان"، لكن على عكسه، يقام حفلُ استخراجِ الخريّط في صمتٍ.
عالم الکالسیوم
قبل بضع سنوات، زار أحدُ خرّيجي الكيمياء من جامعة لندن،الدكتور سعيد علوي، "هورَ الدَّورق"، وتعرّف على طعم هذا الطعام النباتي. لم يكن تعرفّاً على الخرّيْطِ، بل كما قال إنه كان قد تذوَق الخرّيط في طفولته. ولكن يبدو أنه وبعد سنوات من الابتعاد عن هذه المنطقة، نسي النكهة، ثمّ وجدها ثانيةً خلال هذه الرحلة.
في ذلك الوقت أخذ قطعة من الخريط وبعد اختبارها وتحليلها في المختبر، حصل على نتائج مذهلة من مشتقاته وخصائصه الغذائية؛ فكشف أنها مادة غذائية غنية بالكالسيوم والصوديوم والفوسفور. والكالسيوم هي المادة الأعلى نسبة في الخريط. وهي مادة غذائية مؤثرة في علاج هشاشة العظام.
قام الدكتور سعيد بالتشاور مع مجموعة من خبراء التغذية بتصميم مشروعٍ لإنتاج نوع من حبوبِ الخرّیط. ولكن یبدو أن هذا المشروع اندثر اليوم في طيّ النسيان. وقد سألتُ الدكتور سعيد في رحلته الأخيرة إلى الأهواز عن مصير المشروع، وقال إنه من أجل استكمال مثل هذا المشروع، ينبغي أن تلبس "أحذية فولاذية". أما الطريقة التقليدية لإنتاج هذه المادة الغذائية وعرضها مازال يحتفظُ بها سكّانُ المنطقة.
باستثناء "هور الدورق" و"هور العظیم" الواقعان جنوب غربي إيران، والأهوار العراقية، ینمو البرديُّ جنب بعض الأنهار في الجنوب، إلا أن استخراج الخرّیط غالباً ما يقومُ به أهالي الأهوار، ویتمّ عرضها في المدن المجاورة.
مع تغيُّر المياه، تتغير مكوّنات الخرّیط أيضاً؛ فعلى سبيل المثال يختلف خرّیط البصرة، والعمارة في العراق، عن الحویزة ، كما أنه يختلف عن خرّیط الدَّورق. وبناءً على وفرة ونقص المياه والبردي، يتراوح سعر كلّ كيلو من الخریط بين 10 دولارات إلى 20 دولاراً، ويتمّ تصديره من قبل التجّار إلى دول الخليج كالبحرين والكويت وقطر والسعودية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...