أثينا، إلهة الحرب والحكمة والشجاعة والعدل، رفيقة الأبطال وحامية المدن، التي ارتبط اسمها بالكثير من الأساطير اليونانية وحكايات الحروب، اختارها المخرج رومان جافراس في ثالث أفلامه الروائية الطويلة الذي ينافس حالياً على جوائز الدورة الـ79 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي لتكون عنواناً لتراجيديا يونانية تدور أحداثها على أرض باريس في إطار من الإثارة الحابسة للأنفاس وترقب لنتائج صراعٍ وعنف يفجره الغضب المكبوت والإحساس بالقهر والظلم.
جريمة قتل ورغبة في الانتقام
في عالم السوشيال ميديا ينتشر فيديو لمقتل طفلٍ من أصول جزائرية على يد رجال يرتدون ملابس الشرطة، وبطبيعة الحال يشتعل الغضب في أنحاء باريس، وفي مشهد تقليدي تعقد السلطات المحلية مؤتمراً صحافياً يقوده وجهٌ موثوق من مجتمع الطفل المغدور، شقيقه الأكبر عبد الله رجل جيش تمّ استدعائه من الخدمة خصيصاً لإخماد موجات الغضب.
تبدأ أحداث الفيلم بالكاميرا على وجه عبد الله وهو يتقدم بحذر وترقب بين ممرّ من المسؤولين وقوات الشرطة في طريقه للمؤتمر الصحافي، محاولاً التغلب على ألم فقدان شقيقه، ويطلب من الحضور مشاركته في مسيرة صامتة. ومن هنا تنتقل الكاميرا بدون مونتاج بين الحشود إلى أن تصل إلى وجه آخر على النقيض من وجه عبد الله، وهو شقيقه الأصغر كريم، الذي قرر أن يفجر غضبه المكتوم، ويلقي بقنبلة مولوتوف، تبدأ معها الحرب بين قوات الشرطة وشباب "أثينا" الثائرين طلباً للانتقام.
أثينا، إلهة الحرب والحكمة والشجاعة والعدل، رفيقة الأبطال وحامية المدن، التي ارتبط اسمها بالكثير من الأساطير اليونانية وحكايات الحروب، اختارها المخرج رومان جافراس في ثالث أفلامه الروائية الطويلة الذي ينافس حالياً على جوائز الدورة الـ79 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي لتكون عنواناً لتراجيديا يونانية تدور أحداثها على أرض باريس
يهتف الشباب باسم أثينا، وكأنهم يستدعون إلهة الحرب لتدعم ثورتهم الغاضبة، بينما يعود اسم "أثينا" في هذا الفيلم على المنطقة التي نشأ ويعيش فيها هؤلاء الشباب في العاصمة الفرنسية باريس، وهي عبارة عن مشروع سكني مأهول بعدد كبير من المهاجرين ذوي الأصول المختلفة، أغلبهم من المغرب العربي وأفريقيا.
تدور أحداث الفيلم حول أربعة أشقاء من أصول جزائرية، لكن كلّاً منهم مختلف عن الآخر؛ الأصغر إيدير هو الضحية في الفيديو السابق ذكره، والأكبر مختار، تاجر السلاح يدفع الرشوة لرجال الشرطة ليحمي مصالحه، والثاني عبد الله، ضابط يخدم في الجيش الفرنسي ويؤمن بالدبلوماسية وضرورة الثقة في رجال السلطة -لأن الانتقام لن يعيد إليه شقيقه-، والثالث كريم، في بداية العشرينيات من العمر، لا يقوى على تحمل الألم الممزوج بالقهر.
إجلاء وإبادة
على مدار الدقائق العشر الأولى من الفيلم لا تهدأ الأحداث، فنعيش حالةَ التوتر، وتتعلق الأعين بوجهِ كريم، وهو يتنقل بين هذه الحشود موجهاً الأوامر لتنظيم الصفوف والسيطرة على رجاله، إلى أن يصلوا إلى منطقتهم فيتحصنون فيها، وتعيد اللقطاتُ الخاصة بالمنطقة والحركة السريعة بين أرجائها إلى الأذهان مشاهدَ من فيلمٍ فرنسي آخر هو "District 13"، الذي تناول أيضاً قصةَ فسادٍ وعنصريةٍ للسلطة الفرنسية يقودها شخص على أعلى مستوى في الدولة، يسعى لتدمير المنطقة بالكامل، وإبادةِ من فيها باعتبارهم خطراً على الدولة.
وفي الإطار نفسه، لا تبدو مشاهدُ إجلاء السكان من أثينا، إجلاءً مؤقتاً لحين انتهاء الأزمة، وكأن هذا التمرد حجة مناسبة للتخلص من كلِّ من يعيشون في هذه المنطقة، فيتعرض الأهالي أثناء تدافعهم للخروجِ لعنفٍ وضربٍ واعتقالاتٍ على يد الشرطة، حتى أن عبد الله نفسه يُعتقل بين مجموعة من الأهالي، ثم يطلق قائد الشرطة سراحه على أمل أن يكون عبد الله عوناً لهم لوقفِ هذا الجنون والقبض على كريم قبل تفاقم الحرب.
معارك إغريقية
صور جافراس المعاركَ بين الشرطة وشباب أثينا وكأنها معارك إغريقية يحتمي فيها رجال الشرطة خلف الدروع مثل جنود الإغريق ويحاربهم الشبابُ بألعابٍ نارية وأجهزة المنازل وقنابل المولوتوف، وتضيء النيرانُ الوجوهَ في أغلب هذه المشاهد باللون الأحمر، لون الغضب.
كتب سيناريو الفيلم رومان جافراس وإلياس بِلقادر مع لادج لي، والأخير هو مخرج ومؤلف فيلم "البؤساء"، الحائز على جائزة لجنة التحكيم من مهرجان كان السينمائى الدولي عام 2019، وهو عن عنصرية الشرطة تجاه الأقليات في فرنسا. ولكن في هذا الفيلم لا نرى موقفاً واضحاً من الشرطة أو اتهاماً لأفرادها، حيث يكتفى جافراس ولي بالتأكيد على ما يقوله كريم لعبد الله بأنهم لا يرونهم ولا يستمعون إليهم ويعتبرون حياتهم بلا قيمة.
الطرف الثالث
وعلى غرار فيلم " Je Suis Karl" للمخرج كريستيان شيوشاو، الذي عُرض في مهرجان برلين عام 2021، يشير الفيلم إلى إمكانية وجودِ طرفٍ ثالث تَسبَّب في إشعال فتيل هذه الحرب، للتخلص من العرب والأقليات بشكل عام، ويساعدهم على هذا غيابُ الحوار والغضب المكبوت باستمرار نتيجةً للعنصرية والتمييز؛ ففكرة الطرف الثالث بدأت تنتشر في أوروبا مؤخراً، وتثير التساؤلات لدى صناع الأفلام، خاصة مع وقوع عددٍ من الحوادث، وتصاعد التيارات اليمينية المتشددة.
الفيلم لا يبرئ أحداً من الطرفين، فالشرطة تستخدم العنفَ دون تفكيرٍ حتى بأن طلقاتها تصيب الضابط جيروم وهو يحاول الهرب من أسر شباب أثينا، بينما على الجانب الآخر بين أهالي أثينا نجد شخصية سباستيان الغامضة طوال الفيلم
الفيلم لا يبرئ أحداً من الطرفين، فالشرطة تستخدم العنفَ دون تفكيرٍ حتى بأن طلقاتها تصيب الضابط جيروم وهو يحاول الهرب من أسر شباب أثينا، بينما على الجانب الآخر بين أهالي أثينا نجد شخصية سباستيان الغامضة طوال الفيلم، والذي يتضح في النهاية أنه إرهابي يستخدم قدراتِه في تفجير المنطقة كلّها، مما يصيب الشباب أنفسهم، ويدفعهم للاستسلام قبل وقوع الكارثة.
اعتمد جافراس في أغلب مشاهد الفيلم على اللقطات القريبة والمتوسطة للتركيز على ملامح الوجه ومشاعر الغضب المتأججة، وأغلب الأبطال هم فرنسيون من أصول جزائرية مثل دالي بن صالح في دور عبد الله، وسامي سليمان (كريم)، وأوسيني مبارك (مختار)، بالإضافة إلى أليكسس مانينتي في دور سباستيان، وأنطوني باجون (جيروم)، ومن المنتظر أن يُعرض على منصة نيتفلكس بعد المهرجان في 23 أيلول/سبتمبر الجاري.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...