شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
بوتين في مرآة بوتين

بوتين في مرآة بوتين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الجمعة 29 أبريل 202210:25 ص

يروي الصحافي الألماني في تلفزيون ARD، هوبرت سايبيل، أنه التقى الرئيس الروسي فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين في 2010، أي بين ولايتيه الرئاسيتين الثانية والثالثة.

وأثمر اللقاء الأول عملين صحافيين وإعلاميين طويلين، أولهما هو شريط وثائقي تلفزيوني وسمه الصحافي الألماني بـ"أنا بوتين- صورة" (أو بورتريه)، عرضته المحطة في 2012، بعد سنتين على المحاورة الظرفية الأولى. وبلغت ثقة السياسي الروسي بمحاوره أو محادثه مبلغاً دعاه إلى القبول ببث الشريط من غير أن يشاهده صاحب العلاقة وموضوع "الصورة".

وجرّت الثقة هذه، وقد اختبرها الرجلان في عشرات المحاورات واللقاءات المتصلة، والمتنقلة بين موسكو وسوتشي (على البحر الأسود) وسان بترسبيرغ (إلى الغرب) وفلاديفوستوك (إلى الشرق)، وعلى متن طائرات الرئيس، جرّت أو وَلّدت عملاً ثانياً هو كتاب نُشر صيف 2015، بعنوان "بوتين- رؤيا للسلطة" (نقله إلى الفرنسية، في السنة نفسها، كلود هانغلي وطبعته دار "دي سيرت" الباريسية).

واستمرت المقابلات والمحاورات إلى عشية صدور الكتاب. وصادفت العشية الطباعية عشية انخراط روسيا في الحروب السورية، أواخر أيلول/ سبتمبر 2015.

ولا شك في تعمُّد الصحافي التلفزيوني والكاتب الموازنة بين العملين والعنوانين. فينسب الوثائقي المرئي روايته المصوّرة إلى ضمير المتكلم الفرد، وإلى خاصِّه أو خصوصيته، بينما يُبرز الكتاب عمومية موضوعه السياسية، ويجرّد الفاعل ورجل الدولة و"يرفعه" إلى مرتبة "الرؤيا" أو الفكرة الجامعة والمتماسكة.

ويعارض بوتين بين الخصوصية وبين العمومية. فيسأل: "لماذا أسأل عن بنتيّ؟ بنتاي لا تشغلان عملاً سياسياً، وعلاقاتي الشخصية لا صلة لها بالسياسة، وهي شأني وحدي". ولم يكن الإعلام تناول يومها تستّر بوتين ببنتيه على ثروتهما الشخصية، والصحافي لم يسأله عن الأمر كله، ولا سأله عن صداقاته "الشخصية" بغيرهارد شرودر، المستشار الألماني السابق، أو فرنسوا فيون، رئيس وزراء فرنسا في رئاسة نيكولا ساركوزي (2007-2012)، أو بالثري الأوكراني الأول.

الموضوعي الأوحد

المقابلة أو المناقضة بين العام السياسي والتاريخي وبين الخاص الشخصي والذاتي معيار رأي يربط أجزاء الكتاب من غلافه الأول إلى دفّته الأخيرة. فهوبرت سايبيل ينعي على بعض الإعلام الألماني، وتلفزيون ARD منه، انحيازه وتحامله على السياسة الروسية، البوتينية في العشرين عاماً الأخيرة، من غير تبصُّر "حقيقي واستراتيجي" في هذه السياسة، على قوله.

ويشبّه أحكام هذا الشطر من الإعلام (ويعدد الصحافي، برهاناً على صدقه، كبريات الصحف اليومية، فرانكفورتر ألغماينه زايتونغ، وداي زايت وسودويتشه زايتونغ...) بالأسئلة التي يطرحها "المتنعّمون" بحياة رخيّة: أين في وسعي أكل أفضل صحن نباتي هذا المساء؟ أو أي ملابس عليَّ أن أرتديها؟ ولماذا لا يبيح بوتين زواج المثليين والمثليات في روسيا؟ (ص15-16 من الطبعة الفرنسية).

والتمثيل بهذا الصنف من الأسئلة على خفة الصحافة والرأي العام الألمانيّين، والغربيّين عموماً من بعد، قد يكون صدى لملاحظات الرئيس الروسي، وقد يعبِّر عن ظن محاور الرئيس الشخصي. وفي كلتا الحالين تفضي المقارنة بين الموقفين- الغربي، الألماني والأميركي والأوروبي والأوكراني والجورجي...، والروسي، البوتيني على الدوام أو المتفرّع عنه وعلى لسان أحد مساعديه- إلى مواجهة أو مجابهة بين الذاتي المغرق في ذاتيته واعتباطه، و"غير المشترك"، وبين "موازنة مصالح سياسية متباينة".

وهذه الموازنة يتولاها طرف واحد، هو فلاديمير بوتين، في المسائل كلها: في الشيشان، وكوسوفو، وغرق الغواصة كورسك، وغزو العراق، و"الثورات الملونة" الجورجية والأوكرانية، وفي ليبيا وسوريا "العربيتين"، وإسقاط الطائرة الماليزية MH17، وألعاب الشتاء الأولمبية بسوتشي، ومعالجة (أي قمع) الجمعيات والمنظمات غير الحكومية والمدنية، وإلغاء معظم الصحافة المستقلة. ولا عجب في تولي الرجل الموازنة على هذا النحو. فبينما يحسب الآخرون، وفي المرتبة الأولى أنغيلا ميركل وباراك أوباما ويليهما في المرتبة بعض وزراء الخارجية الأطلسيين، أن المسائل الاستراتيجية والتاريخية الكبيرة تعالَج من طريق تشبيه بوتين بالتلميذ المشاغب والجالس في المقعد الخلفي من الصف (أوباما) أو بلومه على عبوسه وحرده (ميركل)- ينصرف هو إلى التدقيق في "محل (المسألة) من سلّم المراتب والأولويات".

"عقل العالم"

فـ"أنا، بوتين"، أي رواية الحوادث من "وجهة نظر بوتين الموضوعية" (ص20)- على ما يكتب هوبرت سايبيل غافلاً عن الفرق المحتمل بين وجهة نظر شخص فرد، وبين استخلاص الموضوعية وإيجابها من المقارنة الواسعة بين جملة الفاعلين- تصبح في الكتاب على قدر صحتها في "الصورة" التلفزيونية والوثائقية الذاتية. وإذا جاز لبوتين الكلام على سيرته الخاصة والفردية بلسان المتكلم وضميره، لا ينبغي أن يحول حائل أو مانع بينه وبين الكلام المستفيض والجازم والصادق في قضايا "عصرنا" و"سماته"، على ما كانت تفعل توصيات المؤتمرات السوفياتية وندواتها العالمية و"كونفرانساتها".

"يُختصر بوتين في إرادته بعث ‘أمته’، وتجديد ثقتها في مكانتها وقيمتها، ودورها الفريد في عالم يدير ظهره لعظمتها، ويتلهّى بقشور تافهة مثل الحقوق الإنسانية عموماً وحقوق المثليين والمثليات"

فالرئيس الروسي الاتحادي، في مرآة نفسه ومرآة محادثه، هو على شاكلة الإمبراطور الفرنسي، نابليون الأول، في اليوم التالي لمعركة يينا (1806)، ماراً تحت نافذة الفيلسوف الألماني ج.ف.ف. هيغيل، بوصفه "عقل العالم على حصان" أو هو، على أضعف تقدير، عقل روسيا، "عموم الروسيا". و"ما كان للرئيس الروسي أن يضطلع طوال 15 عاماً بأعلى المناصب السياسية لو ماشت قراراته أهواءه وميوله الشخصية، بمنأى من التاريخ الروسي، ومن المنازعات الداخلية والمواجهات الشاملة" (ص19).

ومن بديع الاتفاقات أن مراحل حياة بوتين، من طفولته في سان بترسبيرغ، وخدمته في شرق ألمانيا، وعودته إلى مدينته، توازي موازاةً تامة انقطاعات تاريخ وطنه وأمّته (المصدر نفسه). ويُختصر الرجل في إرادته بعث "أمته"، وتجديد ثقتها في مكانتها وقيمتها، ودورها الفريد في عالم يدير ظهره لعظمتها، ويتلهّى بقشور تافهة مثل الحقوق الإنسانية عموماً وحقوق المثليين والمثليات.

ويصوغ الرئيس في صيغ كثيرة، ويكرر صداه الإعلامي صياغاته، مقالته الذائعة في أن انهيار الاتحاد السوفياتي هو "أعظم مأساة جيوسياسية أو استراتيجية في القرن العشرين". وينفي، في الآن نفسه، إرادته إحياء الاتحاد السوفياتي. ويذهب، ساخراً، إلى أن مَن يراوده مثل هذا العلم "مجنون" أو لا عقل له، ولكن مَن لا يأسى للكارثة "لا قلب له". والاستدراك المزدوج، وجنون الحالم و"لا قلب" المتشفّي، أو غير المبالي، يضمر طعناً قاسياً وثأرياً على مَن حملوا انهيار الاتحاد السوفياتي على فرصة أممهم ودولهم التاريخية في التحرر من "سجن الشعوب" الذي كانه اتحاد الجمهوريات الاشتراكية والسوفياتية ("أربع كذبات في أربع كلمات"، على قول أحدهم). وهي حال دول المعسكر الاشتراكي السابق ومعظم شعوبها.

إرث الانهيار

ويدعو الإقلاع، طوعاً أو كرهاً، عن إحياء الاتحاد السوفياتي إلى تدبّر تعليل مقبول لانهياره، وللنهج السياسي الذي ينتهجه اليوم الرئيس الروسي "الأبدي". ويمر المتحاوران على "نهاية الشيوعية" من غير إلحاح. فهي ثمرة "إفلاس" أو قصور ضخم. وتتحمّل النخبة السوفياتية الحاكمة التبعة عن الإفلاس أولاً، وعن غفلتها عنه، وعدم توقّعها إياه، ثانياً. وعلى رأس هذه النخبة آخر أمين عام للحزب الشيوعي وآخر رئيس الاتحاد، ميخائيل غورباتشيف.

والأمر الذي يستحوذ على اهتمام فلاديمير بوتين ليس تعليل الانهيار، على رغم شغفه بالتاريخ، و"تاريخيته" الشخصية الروسية والعميقة، بل ما خلّفه الانهيار. وهو لا يشك في أن ثورة الشيشان على موسكو في أوائل عهد بوتين رئيساً للوزراء وخلافته بوريس يلتسين، وغرق الغواصة "كورسك" في مياه بحر بارينتس القطبية وفيها 171 بحاراً، وتقاسم الأوليغارشية الرأسمالية المحدثة مرافق الدولة والاقتتال عليها، وتهريب عوائدها إلى الأسواق والمنتجعات الأوروبية- هي أعراض الضعف المميت الذي دبّ في أوصال الإمبراطورية العظيمة.

وهو لا يعزو هذه الأعراض إلى "الغرب"، مباشرة وعمداً. ويلاحظ، قلِقاً و"موضوعياً"، أن منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، والسياسيين الغربيين من ورائها، تتناسى "جنون" الإسلاميين الشيشان و"إرهابهم" (قبل 11 أيلول/ سبتمبر 2001، يقول منبّهاً ومدلاً بسبقه) وطردهم 200 ألف روسي مقيمين بينهم، وتتحفظ عن أساليب حرب القوات الروسية، وانتهاكات الكي جي بي "الذي لم يفهم معنى قيم الحضارة والسيادة خارج النظام السوفياتي السابق" (ص159)، أي في دول الغرب ومجتمعاته الهاجسة، على ما يرى الرئيس والإعلامي، بالمثلية والطعام الصحي والمحافظة على البيئة.

"الغرب لا يفهم"

وليس مصدر حملة الرئيس المزمن على الغرب، وعلى "أدواته" الصريحة والمواربة، كراهية أصيلة أو ضغينة قاصرة. فثمرة اختباراته ومشاهداته، المطابقة انعطافات التاريخ الروسي على ما تقدّم القول، هي أن روسيا، الشعب والأمة والحضارة، ودولتها، أمر أو شيء واحد. ولا تعقل روسيا من غير نهضة دولتها القوية. وتقييد إنهاض الدولة المتصدّعة والمتداعية بشروط قانونية أو إنسانية أو سياسية أو أخلاقية، على ما يفعل الغرب، عدوان صريح على روسيا و"روحها" وقيمها وطريقها الخاص أو عبقريتها.

"ثمرة اختبارات ومشاهدات بوتين... هي أن روسيا، الشعب والأمة والحضارة، ودولتها، أمر أو شيء واحد. ولا تعقل روسيا من غير نهضة دولتها القوية. وتقييد إنهاض الدولة المتصدّعة والمتداعية بشروط قانونية أو إنسانية أو سياسية أو أخلاقية، على ما يفعل الغرب، عدوان صريح"

وتتكرر جملة "هذا ما لا يفهمه الغرب" في الأمور والحوادث التي تتعلق، من قريب أو بعيد، بإعمال القوة في المجالات كلها، ويعود معظمها إلى تاريخ سابق، قريب أو بعيد. فلما أمر بوتين، غداة انفجارات دمّرت مباني سكنية بموسكو، في أيلول/ سبتمبر 1999- ونسبها رئيس الوزراء الجديد إلى الشيشان، وشن الحرب الروسية الثانية رداً عليها- لاحظ مراقبون روس وأجانب أن دستور 1992 الروسي لا يخوّل رئيس الوزراء تحريك الجيش، وينيط ذلك برئيس الجمهورية، وهذا ما لم يكنه الرجل بعد. فعلّق مثلث الرئاسات، "هو يحتسي فنجان قهوة" (ص158)، أن الغرب لم يفهم مبادرته إلى الحرب، على رغم القيد الدستوري، إلا بعد تعرُّض نيويورك وواشنطن لإرهاب الإسلاميين الجهاديين.

وفي شأن الشيشان، كما في شؤون جورجيا وأوكرانيا وسوريا، لا يفهم "داعية" الديموقراطية والحقوق الإنسانية والمحكمة الجنائية الدولية، الغربي، أن سجل القوم منذ القدم ("التاريخ") يدعو إلى الشك: فسبق لستالين أن "اضطر" إلى ترحيل نصف مليون شيشاني عقاباً (اضطرارياً)، على تعاونهم والجيش الألماني الغازي. والخلاف بين جورجيا وبين أوسيتيا الجنوبية، وهو "السبب" المعلن في "تدخّل روسيا وحربها على الدولة القوقازية القريبة وعلى رئيسها ‘الأميركي’، قديم" (ص211). وعلى مثال الشيشان، وميلهم إلى العمالة والخيانة، ينوء الأوكرانيون بأوزار عمالة وخيانة و"نازية" ثابتة في أثناء "الحرب الوطنية الكبرى". ولا يفهم الغرب أن على أوكرانيا تسديد حسابها عن انحرافها ووصمتها الأبديّين.

تقويض الدولة

واستنهاض روسيا، أو عموم "العالم الروسي"، على قول بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الموسكوبية ورأسها، كيرللس- وهي غير كنيسة إسطنبول، وغير الكنيسة اليونانية- لا يستقيم من غير جمع "أراضيها" أو "أوطانها"، على معنى صوفيّ وإمبراطوري بيزنطي، تحت راية موسكو، أو "روما الثالثة"، بحسب مزاعم رأسي الدولة والكنيسة، الخلاصية والأخروية. والأراضي المجموعة، والمقدّسة، لا تشترط رضا الأهالي أو السكان، ولا تشترط بالأحرى رأي المواطنين، واستفتاءهم على هويتهم ووطنهم وأمتهم، على خلاف المذهب الغربي.

والدعوات إلى استفتاء من هذا الصنف، وفي مثل هذه المسائل "الجبرية"، على وصف الكلام الإسلامي، بذريعة الديموقراطية والمجتمع المدني والحقوق الإنسانية والسياسية والمدنية، لا غرض لها إلا تقويض الدولة، وإضعافها، وتركها فريسة سائغةً للسياسة الأطلسية. والغرب عامل انحطاط وأفول، على ما ترى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، على لسان الكاهن تيخون- معرِّف فلاديمير بوتين ومناوله (الاعتراف والمناولة هما، إلى القداس، الشعيرتان المسيحيتان المقدمتان) في مصلّاه أو كنيسته المنزلية)-، مندوب الكنيسة إلى محاورات الكتاب (ص 85- 93).

"واستنهاض روسيا، أو عموم ‘العالم الروسي’، على قول بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الموسكوبية، لا يستقيم من غير جمع ‘أراضيها’ أو ‘أوطانها’، على معنى صوفيّ وإمبراطوري بيزنطي، تحت راية موسكو، أو ‘روما الثالثة’... والأراضي المجموعة، والمقدّسة، لا تشترط رضا الأهالي أو السكان"

ولا يفهم الرئيس بوتين، ومعه الصحافي الذي يحاوره ويذيع أقواله، تحفّظ الغرب عن حكم القانون الروسي، منذ 2012، بالعمالة في جمعيات تقرّ هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية، بتمويلها، ولا يتستّر جورج سوروس على رصد مؤسسته عشرات ملايين الدولارات لمساعدتها. فجمعية غولوس الروسية، وهي من هذا الصنف، تزعم لنفسها الحق في مراقبة نزاهة الانتخابات الروسية، وتحاسب الحكومة والرئاسة على إنفاقهما الانتخابي. وأدت المراقبة والمحاسبة إلى خروج عشرات آلاف المتظاهرين، في عشرات المدن الروسية، إلى الطرقات العامة، احتجاجاً على نتائج انتخابات 2012 الرئاسية. ولولا نشاط غولوس، و"مئات الجمعيات مثلها"، في رعاية الولايات المتحدة الأميركية (ص99)، لما تظاهر المتظاهرون.

وهذا المنطق في التعليل لا يرى موجباً لواقعةٍ اجتماعية وسياسية تاريخية، تتناول مصائر بلدان وشعوب، إلا من طريق عوامل أجنبية أمنية، أو دعوات إعلامية و"تدريبية" إلى تبنّي أنموذج ثقافي وسياسي يفترض دخيلاً على المجتمعات، ويقتصر أنصاره على بعض مَن درسوا في جامعات "أطلسية"، وأقاموا أعواماً طويلة في المهاجر. فالمجتمعات، وجماعاتها الجزئية وظروفها، ليست سبباً. ولا يجوز التعليل بها، في حسبان "السياديين" الروس وغيرهم، بالغاً ما بلغ عرض الحركة واتساعها وشمولها فئات مختلفة، وما بلغت معقولية المطاليب المرفوعة ومشروعيتها و"عفويتها".

والحوادث التي يستعرضها الرئيس وصحافيُّه (وسبق الإلماح إليها) كلها قضايا دولة. ويُرجع في بتّها إلى علل الدولة، وتحاذي الحرب على الدوام لأنها تدور على الأمن الوطني أو "القومي"، وتلابس وجود الدولة- الشعب وبقاءها (بوتين في 23/2/2022، عشية العدوان على أوكرانيا: "أي طعم يبقى للعالم إذا خلا من روسيا"، وليس في صيغة سؤال). والشاهد الكبير على الأمر هو الحرب العالمية "الثالثة". ويحرص المتحاوران على ألاّ يُتناول الموضوع إلا بواسطة شاهد غربي، ألماني هو هيلموت شميدت المستشار الأسبق، أو جون كينيدي، الرئيس الأميركي.

فيحتج الرئيس الروسي لرفضه توسُّع "الأطلسي"، وضمّه أوكرانيا، بشاهد من رسالة كينيدي إلى نيكيتا خروتشيف في تشرين الثاني/ نوفمبر 1962. فيومها كتب الرئيس الأميركي: "الأسلحة النووية بالغة التدمير، والصواريخ الباليستية بالغة السرعة، وأي تنقيلٍ في مواضع نصبها قد يُحمل على تهديد متعمّدٍ ودقيقٍ للسلم"، ويعلّق الصحافي قائلاً بلسان محادثه: الحال انقلبت، وروسيا اليوم هي هدف الصواريخ الأميركية (ص 290).

والمقارنة تهويل خالص. فالإحدى عشرة دولة التي انضمّت إلى الأطلسي، في 1999- 2008، وهي سعت في الانضمام خوفاً من إمبريالية روسيا البوتينية، لم ينشر الحلف فيها سلاحاً نووياً. واقتصر نشره على ألمانيا، على ما هي الحال منذ العقد السادس. وفي الأثناء تقلّص عدد الجنود الأميركيين المرابطين في إطار الحلف من 305 آلاف، إلى 64 ألفاً في 2020. وثمة اتفاق مكتوب على نظام المناورات وعدد مَن يشارك فيها، والمسافة التي تفصل مسرحها عن الحدود، وأنظمة السلاح...

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard