حين ينتقل أي منا للعيش في بلد أجنبي فإنه يغادر منطقة الراحة خاصته، فالكثير من تفاصيل الحياة التي كان يظنها اعتيادية تختلف، فيجد نفسه محتاجاً لبعض الوقت ليتأقلم ويتعلم فعل الأشياء بطريقة البلد التي انتقل إليها، ويجد أن عليه أن يعتاد الحياة وفق إيقاع وألوان وشكل مجتمعه الجديد.
أحد تلك الأشياء التي نحتاج لبعض الوقت للتأقلم معها هو البيت، وأحد الأشياء الجديدة التي نتعلمها أيضاً هو آلية البحث عن مكان سكن مناسب في بلدنا الجديد.
تقدر نسبة الجالية العربية في أوروبا بما يقارب 5٪ من أعداد سكان القارة، ومن المتوقع أن تبلغ 7.4٪ بحلول العام 2050، يتوزعون على معظم الدول الأوروبية.
يحتاج من يبحث عن سكن للإيجار في فرنسا أن يضمنه مواطن فرنسي ذو دخل عالٍ ومنتظم ليضمنه في حال لم يستطع دفع الإيجار.
تعمل رزان العزة (35 عاماً)، في باريس وتقيم فيها منذ العام 2009. سافرت من فلسطين لإكمال تعليمها في فرنسا ثم بقيت بعدما وجدت وظيفة في مركز "France terre d'asile" أي "فرنسا أرض اللجوء" الذي يعنى بمساعدة اللاجئين في فرنسا، والذي تديره رزان منذ ثلاث سنوات.
توضح رزان أن كل من يبحث عن مكان سكن في فرنسا لديه ملف يضع فيه إعلان الضرائب خاصته، وإعلان ضرائب عائلته، وهو ما لم يكن موجوداً مع رزان لأن عائلتها لا تقدم ملفاً ضريبياً في فلسطين. ويحتاج الباحث عن مكان للإيجار أن يضمنه مواطن فرنسي ذو دخل عالٍ ومنتظم في حال لم يستطع دفع الإيجار.
تستكمل رزان: "عندما بحثت عن سكن في بادئ الأمر، حملت ملفي وذهبت لأقابل مالك شقة كنت قد أخذت موعداً مسبقاً منه، لأجد طابوراً طويلاً يصل لنهاية الشارع من الناس الذين ينتظرون دورهم لرؤية البيت، ليقدموا ملفهم لصاحب البيت من أجل استئجاره".
لم تحصل رزان على ذلك البيت وتقول: "جميع البيوت التي سكنتها فيما بعد كانت عن طريق معارف، كان يتم إعلامي بأن أصحاباً لي سوف ينتقلون من شقة معينة، فأضع ملفي عند وكالة التأجير المكلفة بتأجير تلك الشقة، خاصة أنني فيما بعد بنيت ملفاً قوياً بعد أن حصلت على وظيفة بعقد مفتوح وبمرتب جيد نوعاً ماً. وفضلتُ أن أدفع لمكاتب الإيجارات الرسمية عوضاً عن الوقوف مع مجموعة من الناس المتكدسة لتجرب حظها بالحصول على شقة ليست بأفضل حال غالباً".
أما مصطفى عوض (40 عاماً)، فقد هاجر إلى بلجيكا من مخيم عين الحلوة في لبنان قبل 20 عاماً. أمضى الست سنوات الأولى في مركز للاجئين حتى حصل على الإقامة لتبدأ بحسب وصفه: "معاناة البحث عن سكن في العاصمة بروكسل".
"رأيت عشرة بيوت قبل أن أسكن في بيتي الحالي، جميع أصحاب البيوت كانوا يسألونني الكثير من الأسئلة الشخصية ثم لا يؤجرونني". مصطفى عوض، هاجر إلى بلجيكا من لبنان قبل 20 عاماً
يقول عن ذلك: "رأيت عشرة بيوت قبل أن أسكن في بيتي الحالي، جميع أصحاب البيوت كانوا يسألونني الكثير من الأسئلة الشخصية ثم لا يؤجرونني. وجدت شقة فيما بعد عن طريق أحد أصدقائي البلجيكيين. كان عقدي لمدة عام واحد في البداية حتى صارت بيني وبين مالك الشقة معرفة جيدة جعلته يثق بي ليعطيني عقد إيجار مفتوح بعدها، ولم أنتقل من هذه الشقة منذ العام 2009".
انتقلت رينا اسعيد (30 عاماً)، من فلسطين للعمل في شركة تكنولوجيا حيوية في مجال الصناعة والمناعة في ستوكهولم منذ ما يقارب العام، تقول إنها أرسلت كماً كبيراً من الإيميلات والرسائل على مواقع التواصل الاجتماعية ومواقع العقارات الإلكترونية للسؤال عن غرفة أو شقة معروضة للإيجار، لكنها لم تتلقَّ جواباً إلى أن وجدت غرفة في شقة عن طريق زميلتها في العمل.
تُعزو رينا صعوبة الحصول على مكان سكن مناسب في أوروبا إلى تواضع قاعدة معارف الساكن الجديد في هذه المدن، الذين بإمكانهم أن يرشحوك لمالكي بعض الشقق أو المنازل. كما أن اللغة الجديدة في هذه البلاد، بحسب رينا، تقلل أيضاً من نطاق فرص الحصول على سكن مناسب، تقول: "في بلادنا حيث الناس تشبهك وتتكلم بلغتك يمكنك أن تسأل بائع الخضار إذا كان يعرف عن شقق للإيجار، لكن هنا في أوروبا لا يمكن ذلك. ولأن مدننا أصغر يكون لديك خيارات أكبر فتستطيع أن تتمهل حتى تجد شقة مناسبة من حيث البعد عن العمل وجودة المبنى ورفاق السكن، بينما هنا تجد نفسك راضياً بالسكن في شقق ليست الأنسب لك بسبب صعوبة البحث عن الشقة المناسبة".
"في بلادنا حيث الناس تشبهك وتتكلم بلغتك يمكنك أن تسأل بائع الخضار إذا كان يعرف عن شقق للإيجار، لكن الأمر في أوروبا أكثر تعقيداً". رينا اسعيّد، فلسطينية مقيمة في ستوكهولم
وتطول قوائم الانتظار للحصول على سكن لذوي الدخل الأدنى ليس في أمستردام فقط بل في باريس أيضاً، وبحسب رزان، توفر الدولة السكن على نفقتها لجميع مقدمي الحصول على سكن، حتى ولو كانوا لاجئين لا مواطنين، ولكن وبسبب عدد المتقدمين الكبير، فالحصول على بيت يستغرق سنوات في العاصمة والمدن الكبيرة.
تقول رزان: "أعيش في شقة تتكون من غرفتين، غرفة نوم واحدة وصالة في وسط باريس، حيث معظم الأماكن الترفيهية والحدائق والمسارح والملاعب والمقاهي والمطاعم والبارات. في المقابل لو كنت أسكن ساعة أبعد من هنا سأحصل بالسعر ذاته على بيت مع حديقة، لكنني فضلت هذه الشقة لأنها تبعد 10 دقائق عن عملي لأحصل على وقت عائلي أطول خاصة وأن ساعات العمل طويلة في فرنسا، كما أن هذه الشقة تبعد خمس دقائق عن حديقة ترفيهية أصطحب ابنتي للعب بها، وعن مركز تعليمي وترفيهي للأطفال يقدم العديد من النشاطات ذات العلاقة بالعلوم".
وتوضح رزان بأنهم يعملون في مؤسسة "France terre d'asile- فرنسا أرض اللجوء" منذ العام 2004 على برنامج يدعى "المفتاح إلى فرنسا"، يعنى بإيجاد بيوت للاجئين الذين يعتبرون من ذوي الدخل الأدنى في المساكن الاجتماعية التي تقدمها الدولة خارج مقاطعة باريس، لأنهم في باريس قد يبقون على قوائم الانتظار لسنوات طويلة، مما يعني بقاءهم بلا مأوى في الشارع.
أما نور يونس (30 عاماً)، التي انتقلت من فلسطين للعمل كمعلمة لغة إنكليزية وأنشطة للأطفال المهاجرين من مختلف الجنسيات في بروكسل منذ سنتين، فقد أوضحت لرصيف22 أن هنالك ما يدعى بـ"الإيجار بالأسود" أي أن تستأجر غرفة أو طابقاً في بيت مشترك من شخص لديه عقد إيجار باسمه، وهذا بالطبع أسهل بكثير من الاستئجار من المالك مباشرة ولكنه أغلى بكثير أيضاً.
حقوق مضمونة للمستأجرين في أوروبا
ترى رينا أن هنالك الكثير من الإيجابيات للسكن في ستوكهولم، أهمها أن عقود الإيجار واضحة ومفصلة تضمن حقوق المؤجر والمستأجر، والجميع يلتزم بها، بينما بحسب رينا، في البلدان العربية يحاول المؤجر أن يتهرب من مسؤولياته مثل تصليح الأعطال في أساسيات البناء كالمواسير أو مشاكل الرطوبة في الجدران أو أعطال الأجهزة الكهربائية. وتضيف رينا أن جودة البيوت في أوروبا أعلى كثيراً من البيوت في بلادنا من ناحية إتقان البناء ومدى عَمَلِيّة التصميم.
"بالنسبة للاجئ في لبنان أصبح فيما بعد لاجئاً في أوروبا، فإن الحياة هنا تبقى أفضل. فلا يمكنني أن لا أقدّر الكهرباء، والمياه الساخنة المتوفرة في جميع الأوقات على عكس بلادنا". مصطفى عوض
من جهته يقول مصطفى: "بالنسبة للاجئ في لبنان أصبح فيما بعد لاجئاً في أوروبا، فإن الحياة هنا مهما صعبت تبقى أفضل من العيش في لبنان، بداية بالوضع الاقتصادي، إضافة إلى جودة البيوت، حيث تحتوي هنا جميع البيوت على تدفئة مركزية، أما في لبنان فإنني لا أبالغ حين أقول بأن البيوت من الداخل كانت أبرد من خارجها. ولا يمكننا أن لا نذكر الكهرباء التي لا تنقطع هنا أبداً عكس بلادنا، والمياه الساخنة المتوفرة في جميع الأوقات. أشياء قد تبدو بسيطة أو بديهية، لكن لمن عاش في مخيم في لبنان هي نعم يجب تقديرها".
السكن هو الحياة اليومية أيضاً
ولأن السكن ليس المبنى المادي فقط بل العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي تنشأ بينك وبين رفاق البيت الواحد أو بينك وبين جيرانك، ترى رينا بأن طرق التأقلم مع السكن في أوروبا تتعلق بشخصية كل منا وتفضيلاته وأسلوب حياته، وتضيف: "أشعر ضمن السكن المشترك في أوروبا بأنني أعيش في Hostel (نزل أو فندق) أتشارك مع أشخاص في المطبخ وربما الحمام وغرفة المعيشة لكن ليس بيننا أي نوع من الصداقة، أما في بلادنا بالنسبة لي يمكنني أن أكوّن علاقات اجتماعية أقرب للصداقة بيني وبين رفاقي في السكن، حيث نتحدث وتتشارك أخبارنا اليومية، ونقوم بالعديد من النشاطات سوية. بالحقيقة نحن بحاجة إلى نوع من التوازن في العلاقات الاجتماعية، نحتاج لأناس نتواصل معهم ونشاركهم بعض النشاطات في أوقات الفراغ، ولكننا نحتاج في ذات الوقت لأناس تحترم خصوصيتنا".
"يشعرني السكن المشترك في أوروبا بأنني أعيش في نزل، أتشارك مع أشخاص في المطبخ وغرفة المعيشة، لكن ليس بيننا أي نوع من الصداقة". رينا اسعيّد.
من جهتها تعتبر رزان بأن مساحة البيوت هي إحدى أهم سلبيات العيش في باريس. فبالنسبة لها بعض البيوت التي تبلغ مساحتها تسعة أمتار مربعة ويصل إيجارها إلى 500 يورو أو أكثر في باريس غير قابلة للمعيشة الآدمية تقول: "9 أمتار مربعة هي مساحة الحمام في بلادنا لا البيت". وتضيف: "الطلب الكبير على السكن بسبب الاكتظاظ السكاني الذي نتج عن العدد الكبير من المؤسسات التعليمية والجامعات ومراكز العمل جعل مالكي البيوت يعرفون بأن بإمكانهم تأجير شقة تبلغ مساحتها 12 متراً مربعاً بـمبلغ 600 و700 يورو بكل سهولة".
البيت هو أهم مقومات الحياة في أي مدينة تسكنها، وإيجاد البيت المناسب لك يؤثر على كل جوانب وتفاصيل حياتك الأخرى، يعرف ذلك جيداً من انتقل من بيوت كثيرة في مدن مختلفة. فعملية اختيار المكان الذي ستقيم فيه في نهاية الأمر هي مثل الكثير من شؤون الحياة، عملية مقارنة وموازنة بين المزايا والعيوب، لكل بيت إطلالة مختلفة من الشباك أو شرفة ورفاق سكن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 11 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت