حاولت كتابة مقدمة ولكن حين قرأت مقدمة المدير الفني لمبادرة "يوميات النيل" روجيه أنيس، لم أجد كلمات أكتبها، فقد قال منذ ثلاثة سنوات إن مبادرة "يوميات النيل" انطلقت بهدف رسم خريطة بصرية معلوماتية، عن مجتمعات دول حوض النيل، وكسر الصورة النمطية التي لا تمت غالبيتها للحقيقة بشيء، وبهدف تغيير هذا الواقع انطلقت مبادرة every day nile (يوميات النيل)، وعملت بهدف رسم خريطة بصرية معلوماتية عن مجتمعات دول حوض النيل، وكسر الصور النمطية، واستكمال الحكايات المنقوصة عن النيل، والتعرف على الآخر.
وخلال عدة أشهر تعاون تسعة مصورين وصحافيين من دول حوض النيل، قاموا بجمع القصص التي يعيش أبطالها على ضفة نهر النيل، معتمدين على هذا النهر كمورد أساسي للحياة، حيث مياه الشرب وريّ الأراضي، وصيد الأسماك، التي تعدّ في بعض المناطق الموردَ الأساسي للطعام، بل ويقوم الاقتصاد المحلي الأساسي عليها، بالإضافة إلى توليد الطاقة وغيرها.
جاء هذا الحوار مع المصورة المصرية أسماء جمال التي سجلت زوايا من فعاليات هذه المبادرة والبيئة.
حدثينا عن كيفية اشتراكك في مبادرة "يوميات النيل".
روجيه أنيس هو صاحب الفكرة والمبادرة، ويمكنه التحدث عنها أفضل خاصة عن بدايتها، ولكن يمكنني القول إنها مبادرة متعلقة بدول حوض النيل، وتحديداً الجزء البصري منها، أطلقها روجيه بالشراكة مع الموقع والمنصة الإعلامية "إنفو نايل"، ومقرّها في أوغندا، خاصة أن أوغندا هي مصدر النيل، وبها يوجد المقرّ الخاص بالمسؤولين عن حوض النيل.
انطلقت مبادرة "يوميات النيل" بهدف رسم خريطة بصرية معلوماتية، عن مجتمعات دول حوض النيل، وكسر الصورة النمطية، واستكمال الحكايات المنقوصة عن النيل، والتعرف على الآخر
وكنت في ذلك الوقت متواجدة في حوض النيل أعمل على قضايا تتعلق به، فقمنا بتصوير فيلم عن كلّ دول الحوض، وكان المشاركون من دول مختلفة. قمت وقتها بالتصوير في مصر، وأيضاً في أوغندا، بشراكة مجموعة. وكان التركيز على أنه كيف سيكون مستقبل دول حوض النيل بعد وجود صراع على المياه. حينها أرسل لي روجيه منحة سينالها كل مصور جاء من دول حوض النيل، سيعمل على قصة يقومون هم باختيارها.
بعد حدوث أزمة المياه، كان هناك تأزم متعلق بقصب السكر أو النباتات عامة، إذ سوف تتأثر بنقص منسوب المياه، خاصة محصول القصب، علماً بأن المشروب "الحلو" في القاهرة هو "القصب". كما أن هذا المشروب هو ما يربطني بهذا العالم. وصرت أتخيل ماذا سيحدث إن لم يعد هناك سكر في أرض السكر، وقد عملت من قبل كصحافية ومصورة في مجال يتعلق بهذه الأزمة. فقدمت المشروع، وتمّ اختياري من ضمن المصورين في مصر.
قصتك "رحلة الجذور"، حدثينا عن مشاركتك بها في المبادرة. وحديث والدتك إليك.
في الحقيقة ذهبت إلى هناك، وأنا حاصلة على منحة تصوير، لأعمل على قصة عن الموضوع، وبالتأكيد عن قريتي في الصعيد. فقررت أن أبدأ من منزلي، ومن ثم أتنقل في الأراضي.
حقيقة حين ذهبت هناك، شعرت أنه يجب أن أكون بجوار المزارعين، وأقترب من حياتهم، ولكنني لا أعرف لماذا كنت أذهب لمنزل جدّي، أجلس فيه، وأبدأ في العمل. كنت أقوم بالتصوير داخله، وحين عدت إلى القاهرة، كانت بحوزتي مادة مصورة كبيرة جداً من محصول حصاد قصب السكر، وكنت أدخل في أنواع من الجدال مع المشرفين علينا، بعد رؤيتهم التشتت لدي، وأن لدي سؤالاً لا يمكنني الإجابة عليه: لماذا لا أقوم بتنفيذ القصة مثل أي قصة صحفية أخرى موجودة عن حصاد قصب السكر وقصص الفلاحين؟ كما أنهم كانوا أيضاً يرون أنني أقترب من جزء شخصيّ من حياتي، و"أفتش" بداخله.
خلال عدة أشهر تعاون 9 مصورين وصحفيين من دول حوض النيل قاموا بجمع القصص التي يعيش أبطالها على ضفة نهر النيل معتمدين على النيل كمورد أساسي للحياة
فشعرت بأن هناك خطاً له علاقة بأن التاريخ يُعيد نفسه، وأنه في وقت من الأوقات كانت هناك معاناة كبيرة لمزارعي قصب السكر. جدّي نفسه كان يزرع قصب السكر، ولكن الدولة قررت أن تُزيل كلّ الزرع الخاص به، وكل ذلك تذكرته من خلال ذكرى بسيطة أخذتني إليها صورةٌ لوالدي، حيث كان جدي يُعطينا نوى البلح، وكل نواة كانت باسم واحد منا، وكلما جئنا في الإجازة كان يخبرنا "نخلتنا طولت قد إيه"، وفقاً لأعمارنا، خاصة أن النخل "من الحاجات اللي بتعيش"، يكبر سريعاً مثل الأطفال.
وفي إحدى المرات، ذهبنا لبلدنا لنجد أن الأرض "فاضية"، والدولة قالت له إن ما يفعله هو انتفاع ذاتي، وإنه وفقاً للقانون عليه أن ينزع زرعه، وإلا سيقوم بدفع ضرائب كثيرة. ولكن جدي اعترض "فشال" كل الأرض، وحين ذهبنا للبلد وقفنا مع والدي جنب نخلتنا القديمة، ولم يوثق تلك اللحظة إلا التصوير. صارت تشغلني كثيراً فكرة الجذور، علماً أن "حتى الشروخ اللي بتبقى موجودة في حيطان بيتنا شبه الجذور. والنيل على الخريطة بتفرعاته يُشبه الجذور".
وشعرت حين انتهيت من القصة أن جدي هو من كان يقول لي: "تعالي افتحي البيت! هما بيعيشوا جوانا، وبيحسوا بنا". وكان هناك أيضاً مع من يتابعون معنا، ووقتها كان روجيه يقول لي: "عايزين نلم الدنيا، ورغم أننا عمرنا ما اتكلمنا فيها هي التي تحكي نفسها مرة أخرى". وحين تحدثت مع روجيه، بدأت أبحث في الجزء المتعلق بأسرتي قبيلة "الجعافرة"، وأصبح أمامي ثلاثة أنواع من الهجرات: الهجرة من شبه الجزيرة العربية لإسنا، وهجرة الصعيد للقاهرة، والهجرة التي قد تكون سبباً في تجريف أراضٍ جديدة. لذا أطلقت عليها اسم "رحلة الجذور"، فحين يرحلون تموت معهم الجذور.
وماذا عن تفاصيل رحلتك إلى إسنا مركز إدفو بأسوان؟
وأنا في الطريق إلى الصعيد، فضلت ركوب القطار، لأنني بمجرد وصولي للصعيد في الجنوب، أشعر أن روحي عادت لي مرة أخرى. وأشعر أن هناك جزءاً نفتقده في القاهرة، التي وُلدت بها، ولكننا لم نعد نُشبه من في القاهرة، وحين نعود لأهلنا نكتشف أننا لا نُشبههم، ولكنني أشعر هناك أن روحي تعود لي مرة أخرى كما قلت.
شعرت حين انتهيت من القصة أن جدي هو من كان يقول لي: "تعالي افتحي البيت! هما بيعيشوا جوانا، وبيحسوا بنا"
حين وصلت هناك، كان بيت جدي مغلقاً، وبدأت أبحث عن المزارعين في قريتنا، وهم مستمرون في زراعة قصب السكر، لأذهب معهم. وكان لديهم بعض التعجب من فكرة أن أهل القاهرة مهتمون بمشاكلهم. قابلت هناك صبري درباس ولهم فروع في عائلتنا،، وهو من عائلة درباس. أهل الجنوب لا يروون ما يضايقهم أو يشرحون مشاكلهم، ولكن صبري درباس قبل بذلك، وظل يروي لي عن عدة مشاكل متعلقة بوالده الذي واجه بدوره مشكلة كبيرة لأنه يستخدم المياه الجوفية في ري الأرض.
كما أن القطار تسبب في حدوث هبوط في الأرض، مما أعاق وصول المياه إليه، ولا تمر في الترعة، ولديه أزمة كبيرة، وحين يقومون بمحاولة الحصول عليها يفعلون ذلك من خلال إمكانياتهم، كما أن المياه الجوفية من الممكن في وقت قريب "مش هتكون موجودة"، خاصة أن الناس كانت تقوم بتبطين الترع، ولم تعد هناك طرق لخروج المياه، فهو يتحدث عن المستقبل.
وقابلت أيضاً أكثر من شخص، منهم جدتي، التي قمت بتسجيل فيديو لطيف منها، وقابلت أسرتي، ودخلت بيت جدي، وصورت داخله كثيراً.
ويقال إن إسنا أرض السكر، وتصدَّر من هناك كميات كبيرة جداً منه للعالم، بينما السكّان الذين يصنعون السكر، لا يعرفون طعم السكر في حياتهم، وهذا منذ سنوات طويلة وليس مؤخراً، وذلك ما كنت أشعر به طوال الرحلة.
تقولين إن الصعيد أرض السعادة، فماذا تقصدين بتلك الجملة؟
من الممكن أنني كنت قلت ذلك لأنني شعرت به هناك، أو أن هناك جزءاً بداخلي سعيد لأنني أتحدث عن فكرة رحلتنا السنوية للصعيد. وبالفعل كانت رحلة مميزة، وكانت جميلة لطفلة مثلي وأشقائي أيضاً. وكان هناك جزء آخر أتحدث من خلاله عن المشاعر المتعلقة بالجزء التراثي والحكايات والقصص التي أُفضل سماعها، وأربطها بمشاعري. هناك أجد "طيبة الناس"، ما يجعلني أشعر بانبساط وراحة.
هل البيوت في الصعيد أحنّ من القاهرة؟
الأزمة في القاهرة هي أن العين لا ترى أماكن متسعة، وبالتالي منظور العين ضيق، بينما في الصعيد تشعرين أنكِ قريبة من الطبيعة، تستنشقين هواءً نظيفاً، وعينك ترى مساحات مفتوحة، عكس القاهرة.
ما الذي يميز الصعيد حالياً عن القاهرة؟
من الطبيعي فعلا أن تتطور الحياة في الصعيد، خاصة أن الظروف هناك تتحول من صعب لأصعب مع مرور الوقت، فبدأوا يبحثون عن أمور يشعرون من خلالها بالراحة، عكس القاهرة الإسمنتية. وبالتالي من الطبيعي أن يفقدوا نوعاً من أنواع الجمال؛ في أفراحنا على سبيل المثال كانوا يأتون بمطربين، وأصبحوا "بيشغلوا الديجيتال"، وبالرغم من ذلك، أشعر أن أي مكان يحاول "يريح روحه"، ورغم كل ذلك أرى أنهم هناك متمسكين بجزء من الأزياء الخاصة بالأفراح، واللغة، فهناك أمور هم متمسكون بها حتى الآن، أما القاهرة فأصبحت متشابهة، لأن الجميع يهرولون نحو العمل، ويبحثون عن قوت يومهم، فأصبح الجميع يُشبهون بعضهم بعضاً.
هل تفتقدين كلَّ تلك الأمور حين تعودين للقاهرة؟
بالطبع. علماً أنني أسمع "كلاكسات كتير"، وأرى الزحمة. لا أستنشق هواءً نظيفاً، ولا أرى النيل سعيداً كما أراه هنا. لونه في القاهرة غير طبيعي، إلى جانب الحواجز عليه.
في قصتك تحدثت عن بحر النيل وأنه كان السبب في تزويج الفتيات.
كانت أمي تروي لي عن رحلة النيل اليومية، حيث كان يجلس الرجال ينتظرون قدوم السيدات وهن ذاهبات للنيل، وينظرون إليهن وهن قادمات. خاصة أنه كان ممنوعاً أن يرى الرجال السيدات، فكانت بالنسبة للرجال رحلة لرؤية الفتيات. وهناك صور كثيرة للسيدات والفتيات يرفعن خلالها جلابيبهن، ولكن طبقاً للقوانين "مينفعش يشوفوا ستاتنا". وجدتي كانت تقول لي إنهن كنّ يعدن بالمياه، لأن المياه لم تكن تصل للبيوت، فكانت السيدات يعدن حاملاتِ المياه، ثم يمررن على "الجبانة" وهي الترب، ليقرأن الفاتحة، علماً أننا لا نضع قبباً في المقابر، وهكذا يحدث في سيناء أيضاً
ما سبب تعليق النساء والفتيات للصَّدف في شعرهن؟
الفكرة في تلك التفصيلة كانت شبيهة لفكرة "الخلاخيل"، يحدث الصدف أصواتاً أثناء سير السيدة، وكانت جدتي لوقت قريب تلبس صدف النيل كإكسسوار، كما أن الفتيات كن يضعن الصدف في شعرهن، فكان يلفت سمع ونظر الرجال والشباب، وهناك علاقة دائماً بالنيل؛ على سبيل المثال والدي علمنا السباحة في النيل، لأنه كان يعوم في النيل، لذا كنت أتحدث عن أن النيل جزء من حياة من يعيشون بجواره "ولكن خيره مش جاي لهم"، ولا يصل للأمور الأساسية التي يحتاجون إليها منه، وهكذا بالنسبة لمن رحلوا عنه وافتقدوا مشاعرهم حين كانوا بجواره، وجذورهم تأثرت لأنها ابتعدت عنه.
هل السدّ العالي هو السبب في عدم وصول المياه للناس؟
السدُّ ليس السبب في ذلك. الفكرة هنا تتجسد في عدم الاهتمام بالصعيد؛ على سبيل المثال حتى الآن هناك نقص في تقديم الخدمات، وهذا يحدث في مناطق قريبة من القاهرة، ولكن الفكرة هنا هي أن الصعيد غير مرئي، وهذه طالما كانت الأزمة التي يعانون منها.
الأزمة في القاهرة هي أن العين لا ترى أماكن متسعة، وبالتالي منظور العين ضيق، بينما في الصعيد تشعرين أنكِ قريبة من الطبيعة، تستنشقين هواءً نظيفاً، وعينك ترى مساحات مفتوحة، عكس القاهرة
وكنت أتحدث عن فترة احتكارات الحقول مع الفنانة راوية صادق، فقالت لي إنها أجرت أبحاثاً حول احتكار الحقول الخاصة بعبود، وهو شخص مُحتكِر، وكان السبب في فقر الشباب في فترة الستينيات، "وكانوا مش لاقين ياكلوا"، والأمر لم يكن له علاقة بالسد، فالسد يحدث فيضانات، وينظم المياه، لكن المشكلة الأكبر تتجسد في أن "الناس مش متشافة"، وهو ما جعل الأشخاص يرون القاهرة المكانَ الساحر الذي سيُغير حياتهم، وذلك لم يمنع أن كثيراً ممن جاءوا للقاهرة عملوا لدى الأغنياء "في الخدمة، زيهم زي اللي كانوا بيشتغلوا في أراضي غيرهم".
وأعود لما قلته بأن "الناس مش متشافة"، والتاريخ يُعيد نفسه، ويقولون للدولة: "إن القطر بتاعكم هو السبب في وقوع الأرض"، وذاك القطار قد تسبب في إسقاط، وسيتسبب في كارثة قريباً، بجانب أن ذلك جزء من خدمات الدولة، إما أن تقوم بحلها أو تساعدنا أن نُخرِج منها المياه الجوفية بشكل مؤقت، ولكن الدولة تطالبهم بمبلغ 300 ألف جنيه، "طب المزارع حيعمل دا إزاي؟"، فهم يرغبون في استخدام المياه الجوفية ليستفيدوا منها، والمشكلة هنا ليست في المشاريع التي يتم تدشينها، ولكن في أن كل المشاريع تلك ننظر لها لأنها تأخذ المال والطاقة.
حدثينا أيضاً عن زيارة السيدات للمقابر هناك في أسوان. هل قمتِ بزيارة المقابر هناك من قبل؟
السيدات يذهبن للمقابر ويقرأن الفاتحة، ويتركن الزهور قبل رحيلهن. أنا لم أكن متواجدة في دفن جدي، لكن زيارة السيدات للمقابر، وهن يقمن بقراءة الفاتحة ووضع الأزهار على القبور هو كـ"ونس" لمن رحلوا.
وماذا معرض يوميات النيل؟ كيف كانت ردود الفعل على المعرض؟
المعرض كان جميلاً جداً، وردود الفعل على المعرض كانت أجمل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...