تاريخ شائك ومُلبد، تقتحمه الكاتبة والروائية ميرال الطحاوي في كتابها "بنت شيخ العربان" (دار العين للنشر)، للوصول إلى فهم دقيق لهوية القبائل العربية (العُربان)، وعلاقتهم الشائكة بمصر التي اتخذوها وطناً لهم، بعد تغريبة طويلة ممتدة من صحراء نجد قبل وبعد الفتح الإسلامي، إلى ثلاث مناطق سكنوا فيها: الحوف الشرقي (الشرقية حالياً)، المنطقة الغربية (البحيرة)، والصعيد وتحديداً "قفط".
وتنطلق هذه الدراسة التاريخية الثقافية لدى الكاتبة من همٍّ ذاتي، فميرال الطحاوي هي ابنة شيخ العُربان؛ تنتمي إلى قبيلة بني سليم بمحافظة الشرقية، وهي تؤكد هذا الانتماء في مقدمة كتابها، عبر حديثها عن حكايات الجدة وما سكن في ذاكرتها من شعر الغناوة وهو الشعر الشفاهي النسائي البدوي، وكذلك صورة المعمار القبلي الذي له شكل القلاع، والأبواب الضخمة التي سيجت طفولتها، لتفصل بين "العربان" والوجود الخارجي.
هذه المشاهد والحكايات المختزنة منذ الطفولة، بالأحرى هذه العزلة، ولدت عدة تساؤلات لدى الكاتبة: تلك الأبواب التي تفصل بيننا وبين الوجود الخارجي، تطرح علي هذا السؤال الوجودي، من نحن؟ من خلق تلك العزلة؟ كيف أينعت تلك الهوية المشطورة؟.
أسطورة النقاء القبلي... الأسياد والعبيد
إذاً فسؤال الهوية هو المحرك الأساس للكاتبة،وهي تؤكد في الوقت نفسه أنها لا تسعى في هذا الكتاب إلى التأريخ لمسيرة عُربان مصر أو دورهم الثقافي والاجتماعي والأدبي في المجتمع المصري، ولا تحاول الدفاع عنهم أو إدانتهم ولكنها تحاول فقط فهم علاقتهم الشائكة بالوطن الذي سكنوا فيه، بينما ظل حنينهم الجارف إلى نقيضه، ولفهم هذه العلاقة المعقدة، اتبعتْ ميرال منهجاً خطياً لسرد تاريخ طويل وهائل من الوجود العربي في مصر، منذ أن دخلها العرب كتجار عابرين، حتى هجرات القبائل اليمنية والقيسية بعد الفتح الإسلامي.
لا تتفق ميرال تماماً مع تلك الصورة القاتمة التي رسمها الكثير من مؤرخي العرب والغرب، حول العلاقة بين المصريين والعُربان، وتراها غير منصفة
أما الرحلة الأولى التي حددت ملامح تلك العلاقة، فهي رحلة إبراهيم أبو الأنبياء، حين عبر مصر تاجراً، وتزوج هاجر المصرية، أم إسماعيل أبو العرب، وبموجب هذا النسب "فقد ارتبط المصريين عرقياً وثقافياً بالإبراهيميين وأرض الجزيرة وشعوبها السامية ومقدساتها الدينية، خصوصاً شعيرة الحج التي تمثل فيها "هاجر" ذروة التقديس بين شعائرها، وقد تكررت علاقة النسب هذه مرة أخرى مع مارية الجارية المصرية التي تزوجها النبي محمد، وقد عاشت وماتت في الظل أما هاجر فكانت دائماً ما تُعاير بسبب كونها جارية وسرية مصرية، وليست نقية الأصل، أي ليست عربية.
وهذا التعصب للعرق العربي، هو ما صاغ العلاقة بين المصريين أصحاب الأرض، والعرب (البدو الرحل)، على مدار فترات التاريخ، وتركز ميرال على رصد هذه العلاقة الشائكة، وتحليلها، في ضوء السياق الزمني، والتطورات السياسية، وكذلك من خلال التباينات الثقافية والاجتماعية والحضارية، التي حكمت وبلورت موقف ورؤية كلا الطرفين من الآخر، وقد تطلب ذلك مجهوداً بحثياً كبيراً، لأنه – وفقاً للكاتبة- "فإن كل المحاولات لفهم مصطلح (البدو العربان) وهجرتهم إلى مصر، وطبيعة وجودهم، وكيفية اندماجهم في المجتمع المصري، محاولة شائكة وحساسة، وذلك يعود إلى ارتباط العروبة بالإسلام بشكل ما".
كما ترى ميرال أن البدو العربان الذين دخلوا مصر، لم يُشكلوا صورة ذهنية واحدة في المخيلة الشعبية المصرية عبر التاريخ "لأنهم جاءوا مصر في فترات مختلفة قبل وبعد الإسلام، وهم في بعض الأحيان غزاة مغيرون نهابون، وأحيانا أخرى تجار عابرون. لكن أغلبهم دخل مصر فاتحاً ومنتصراً باسم الإسلام. رغم أن جلّهم كان حديث عهد بالإسلام، وبعضهم كان من أهل الردة، والبعض يبحث عن غنيمة ونصر قبلي".
ثمة تاريخ صاخب وثقيل بين القبائل العربية، أو البدو الرحُّل النازحين وبين المصريين، وهو تاريخ من المناوشات والغزوات والإغارات، التي قام بها العرب النازحين تجاه القرى المصرية المستقرة، بحثاً عن الكلأ والمرعى، وقد عرف المصريون القدماء هؤلاء البدو المتسللين من خلال الغزوات التي قاموا بها على الجزء الشرقي من أرض مصر، حتى أن فراعنة الدولة الوسطى (2060 ق.م)، بنوا على خليج السويس سوراً عُرف باسم "سور الحاكم"، لصد هجرات أو غارات الآسيويين أو "العامو" كما كانوا يُطلقون عليهم آنذاك.
وتضيف ميرال أن دور تلك القبائل البدوية في تاريخ مصر القريب والبعيد، لم يقتصر على العدوان والغزو والإغارة، بل أحياناً ما كانت هذه الجرائم تتوازى مع مساعدة المستعمر، أو التحالف مع المحتل الأجنبي وتسهيل دخوله إلى مصر، فحدث أن تحالفت القبائل العربية مع "قَمبيز"، قائد الفرس وعاونته على غزو مصر سنة 52 ق.م "لولا العرب لما استطاع (قمبيز) غزو مصر، فهم الذين مهدوا له السبيل إليها؛ فأمدوه بالجِمال وبالماء في قرب كثيرة حملتها الجمال، وساعدوه بذلك مساعدة كبيرة على اجتياز الصحراء، كما أن العرب أعانوا الرومان على فتح الإسكندرية".
ثمة تاريخ صاخب وثقيل بين القبائل العربية وبين المصريين، وهو تاريخ من المناوشات والغزوات والإغارات
هذا التاريخ الصاخب بالمناوشات والغزوات، وضع مبكراً أسس العلاقة بين المصري والعربي (البدوي)، وقبل هذه العلاقة فثمة صورة ذهنية سلبية كونها كلا الطرفين عن الآخر، فالعربي في الوعي الجمعي المصري، هو في العموم "بدوي، همجي، لا يعرف سوى الإغارة على الآمنين، والاعتداء على ممتلكاتهم، أو المحارب المستأجَر المتواطئ مع الغازي والمحتل. وبالمثل فإن تلك الشعوب السامية، كانت تبادل نقيضها الفلاح "الحامي الإفريقي المزارع الاحتقار".
وهذا الاحتقار الذي يكنه البدوي للمصري، تأسس على صورة ومكانة الجنسين السامي والحامي في روايات العهد القديم، فـ"سام" في تلك الروايات هو الابن المصطفى، وارث النبوة، فقد دعى نوح له بأن يجعل أبناءه الآخرين عبيداً وأذلاء لولد سام، فعاش سام مباركاً حتى مات، وتبارك نسله. بينما دعا نوح على "حام" فاسودّ وجهه، وكُتبت على نسله العبودية. وتأسيساً على هذه الخلفية، ورث الفلاح في المخيلة البدوية صفات كل الشعوب الحامية ومن ضمنها الاستسلام للعبودية".
سيادة العنصر العربي
تجنبت ميرال الطحاوي الدخول في معترك الصراع المشتعل أبداً حول توصيف دخول الإسلام مصر، وما إذا كان ذلك فتحاً أم غزواً أم مجرد موجة من موجات نزوح القبائل العربية إلى البلاد الخصبة، بحثاً عن مكاسب اقتصادية، لكنها تؤكد في الوقت نفسه أن "الفتح الإسلامي كان يعني واقعياً سيادة العنصر العربي، وأن فتح مصر وقبول المقوقس التسليم بدخول العرب إليها، كان يعني حق ممارسة السيادة من قبل العربي الفاتح أو الغازي والتزام الرضوخ والتسليم من أهل البلاد".
وتقف صاحبة "بروكلين هايتس" على الجهة الأخرى من المؤرخين العرب، الذين رسموا صورة وردية عن وقائع الفتح العربي الإسلامي لمصر، وتشطب على تلك المشاهد الرومانتيكية للعربي، الذي أظهرته الروايات التاريخية كفارس ومناضل، يسعى إلى تحرير العالم من وثنيته وفقره، حيث تقول: "جُند العرب حين دخلوا مصر في جيش الفتح، كانوا حديثي عهد بالإسلام، وربما دخلوا الإسلام، وانضموا لجيش الفتح، لأسباب اقتصادية أكثر منها دينية، وأنهم كانوا يحملون تاريخهم الاجتماعي والثقافي والقبلي الجاهلي معهم، ويتفاخرون بأنسابهم ونعراتهم، وثاراتهم وعداوتهم العشائرية؛ لذلك لا تمثل تلك القبائل الإسلام، بقدر ما تمثل الثقافة البدوية الرعوية السائدة في جزيرة العرب آنذاك".
دخل الجيش العربي مصر مقسماً إلى ألوية قبلية، وكذلك تأسست المدينة العربية الأولى "الفسطاط" واختطت على أساس قبلي عسكري، حيث اتخذت كل قبيلة لنفسها خطة أو فسطاطاً مستقلاً عن القبائل الأخرى. وبمرور الوقت كونت هذه القبائل طبقة عسكرية أرستقراطية، تعيش منعزلة في الفسطاط عن باقي الشعب المصري، الذي عاش راضخاً، ومستعبداً من قبل هذه القبائل التي عاشت مستفيدة من عطاء الجند، مسيطرة على خراج البلاد وخيراتها، معتمدة في سلطتها ونفوذها العسكري على سيوف أبنائها، وتفرض سلطتها الدينية الروحية، مستندة إلى علاقة النسب الشريف بالنبي محمد وبأهل البيت من صحابته وعشيرته.
وترى الطحاوي أن السلطة بكل ما تعنيه هي المحدد الأساس لوضعية ومكانة الوجود العربي في مصر"إن تاريخ قبائل العُربان في مصر، ارتبط بشكل من أشكال الغَلبة السياسية، فالسيادة والسلطة هي الحق الشرعي الذي اعتقدوا أنهم وارثوه أبد الدهر، ولا يمكن فهم العلاقة بين أهل البلاد والعربان إلا في ظل تلك المفاهيم السلطوية التي تم تعزيزها في فترات تاريخية متعاقبة".
تشطب الطحاوي على تلك المشاهد الرومانتيكية للعربي، الذي أظهرته الروايات التاريخية كفارس ومناضل، يسعى إلى تحرير العالم من وثنيته وفقره
ولقرنين من زمن الفتح ظل العرب يؤلفون أرستقراطية عسكرية، ويشكلون وضعاً اجتماعيا وسياسياً مميزاً، حتى بدأت هذه الامتيازات في الزوال في زمن الخلافة العباسية، لتعود مرة أخرى في زمن الفاطميين، أما في عهد المماليك فقد عاد العرب إلى موقعهم المعتاد كغزاة ومتمردين، حيث قاموا بالعديد من الثورات ضد حكم المماليك، ولم تتوقف غاراتهم على القرى، وعمليات السلب والنهب. وبشكل عام كان "العُربان" يُمثلون دائماً شوكة في ظهر أي سلطة، لأنهم بحسب العديد من المصادر الغربية التي اعتمدت عليها الكاتبة، كانوا يعتقدون بأنهم أصحاب حق في أرض مصر، وأنهم الحكام الشرعيون، وأحق من المماليك وغيرهم بحكم ما ورثوه من سلطة إبان الفتح.
طبقة بائدة ينبغي أن تُدفن
انتهى الدور السياسي للعُربان في مصر، مع قيام دولة يوليو 1952، وبروز ما سُمي بالقومية المصرية، حيث قامت السلطة، بمصادرة أملاكهم وأطيانهم الزراعية، وفقاً لنظام تحديد الملكية، فـ"دولة يوليو" رأت أن الطبقة البرجوازية العربية الإقطاعية من الباشوات ومشايخ العربان، طبقة بائدة، ينبغي لها أن تُدفن، ليأخذ الفلاح المضطهد حقه بالمشاركة في الحكم والإدارة وقيادة الجيش.
وترى الطحاوي أن تلك المرحلة التاريخية التي تلت ثورة يوليو كانت بالنسبة لغالبية العربان فترة غير مريحة، وبصفة خاصة للطبقة الأرستقراطية "التي شهدت جرأة غير متوقعة من الفلاحين، حين خرجوا من بيوتهم الطينية الضيقة، ليضعوا أياديهم على الأراضي التي يعملون فيها كأجراء".
لا تتفق ميرال تماماً مع تلك الصورة القاتمة التي رسمها الكثير من مؤرخي العرب والغرب، حول العلاقة بين المصريين والعُربان، وتراها غير منصفة، وتقول: "إن الثقافة الشعبية المصرية، قد عبرت بشكل مختلف عن هذه العلاقة بين العربان وأهل البلاد، فصورة شيخ العرب في الوجدان الجماعي الشعبي لم تكن سلبية بالضرورة، بل يمكن الجزم من استقراء بعض النصوص الشعبية بأن المصريين رسموا صوراً لمشايخ العُربان تحمل كثيراً من الاحترام والتقدير، بل تصل إلى درجة التقديس".
ومن وجهة نظرها، يعود ذلك إلى ما تمتع به العُربان في مصر من حفاوةٍ مصدرها التقديس لكل ما يتصل بأهل البيت واقتناعاً بأن النبي محمد كان عربياً، وأن تلك القبائل تمتد عروقها إلى شجرة نسبه، كما أن الكثير من الأولياء الصالحين والأبطال الأسطوريين (أبو زيد الهلالي مثالاً) في الخيال الشعبي، كانوا ينتمون في أصولهم إلى تلك القبائل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...