عام 1903، قدّمت بريطانيا لليهود مشروعاً لإقامة وطن لهم على هضبة في شرق إفريقيا، وهو ما لاقى تأييداً كبيراً من قطاع كبير من الصهاينة، واجتازت الفكرة مراحل عدة نحو التنفيذ الفعلي، غير أنها اصطدمت بمشكلات وعقبات حالت دون اكتمالها.
شاع عن طريق الخطأ، أن المشروع هدفه توطين اليهود في أوغندا، لكنه في حقيقته، كما يشرح عبد الكريم الحسني، في كتابه "الصهيونية: الغرب والمقدس والسياسة"، كان يهدف إلى إنشاء محمية يهودية تابعة للإمبراطورية البريطانية، ليقيم اليهود لأنفسهم وطناً على هضبة مساحتها 18 ألف ميل مربع تسمى غوس نغيشوGaus Ngishu ، وتقع في كينيا التي كانت تحت السيطرة البريطانية، وليس في أوغندا.
ويشير الحسني إلى أن تيودور هرتزل فهم خطأً من وزير المستعمرات البريطاني، جوزيف تشمبرلين، عندما كان الأخير يغريه بالمشروع متحدثاً أمامه عن اكتمال خط السكة الحديدية الذي يعبر أوغندا إلى الهضبة (في كينيا)، لذا ظن هرتزل أن مشروع توطين اليهود سيكون في أوغندا، ومن هنا جاء هذا الالتباس.
عنصرية تشمبرلين وأهداف بريطانيا
لعبت الصفات الشخصية لتشمبرلين، دوراً في طرح هذا المشروع لتحقيق أهداف عدة لبريطانيا. يذكر الحسني أن وزير المستعمرات البريطاني كان عنصرياً جداً، ويؤمن بأن العرق يحدد السمات الأساسية للحضارات، لذا كان يرى أن هناك أجناساً رفيعةً من البشر، وأخرى دنيئة، وثالثة أقل دناءةً منها، فمثلاً رأى أن السود والهنود جنسٌ دنيء، ويمكن تطوير السود بإدخال اليهود بينهم.
واعتقد تشمبرلين أن اليهود، وهم جنس أبيض غير بريطاني، هم المادة البشرية المناسبة لتحقيق أهداف كثيرة، فهم عنصر أوروبي، لكنهم لا يسببون مشكلات كما المستوطنين البيض، ويمكن أن يحلّوا محل الهنود في العمل في محمية شرق إفريقيا.
وفي الوقت ذاته، سعت بريطانيا إلى مشروع شرق إفريقيا في الفترة التي نشط فيها الاستعمار الألماني والإيطالي في القارة، وفي وقت ازدادت فيه هجرة يهود شرق أوروبا إلى بريطانيا، لذا وجدت الفرصة مناسبةً لتحويلهم إلى عنصر استيطاني لحماية موقع إستراتيجي، بحسب الحسني.
كذلك، كانت بريطانيا تفضّل أن يكون الوطن اليهودي في شرق إفريقيا، كونها كانت في ذلك الوقت متحالفةً مع الخلافة العثمانية، وتودّ الحفاظ على أملاك العثمانيين في وجه الزحف الروسي، ولم تكن فكرة تقسيم دولة الخلافة الإسلامية قد طُرحت بعد.
على كل حال، خطط البريطانيون لوضع حاكم يهودي على المحمية، وكانوا سيطلقون عليها اسم "فلسطين الجديدة". وبالفعل تم تأسيس شركة لتطوير المنطقة بموافقة الحكومة البريطانية.
هوية الشعب اليهودي
في المجلد السادس من موسوعته "الصهيونية"، يذكر عبد الوهاب المسيري، أن مشروع شرق إفريقيا كان يحمل اعترافاً ضمنياً بالهوية المستقلة للشعب اليهودي، وكان سيؤدي حتماً إلى إنشاء دولة يهودية، ولكن هذه النقطة لم تكن موضع جدال على الإطلاق.
وبحسب المسيري، جاءت في مسودة اتفاقية مشروع الاستعمار صياغات غامضة قد يُفهم منها أن المقصود إنشاء دولة يهودية، لذا كتب أحد موظفي وزارة الخارجية البريطانية على هامش المادة المقدمة: "إذا تملّك اليهود فسيعني ذلك عملياً إعطاءهم حكماً ذاتياً محلياً كاملاً، بشرط أن يبقى تحت سيطرة التاج البريطاني تماماً".
ولم تذكر المذكرة أي شيء عن مَنح الجنسية البريطانية لسكان هذه المقاطعة، إذ يبدو أن وزارة الخارجية كانت قلقةً من أن يستغلها اليهود الروس الذين سيستوطنون شرق إفريقيا كنقطة انطلاق يقفزون منها وبواسطتها إلى بريطانيا بجوازات سفر بريطانية يحصلون عليها في المستعمرة.
ملجأ ليلي لليهود
في كتابه "مشاريع الاستيطان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى"، يذكر أمين عبد الله محمود، أن هرتزل ومؤيديه استخدموا مجموعةً من الأسباب لتبرير موافقتهم على مشروع شرق إفريقيا، منها أنه يمكن استخدام هذه المنطقة كـ"ملجأ ليلي" يتجمع فيه ما لا يقل عن مليون يهودي من شتى أرجاء العالم، يتدرّبون على الأعمال السياسية والعسكرية ثم ينزحون بعد ذلك إلى فلسطين حينما تتهيأ الفرصة لذلك.
كما رأى هرتزل أن "مشروع أوغندا"، بإمكانه أن يشكل وسيلةً للضغط على الدولة العثمانية، كي تعيد النظر في إمكانية السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين.
كان المشروع يهدف إلى إنشاء محمية يهودية تابعة للإمبراطورية البريطانية، ليقيم اليهود لأنفسهم وطناً على هضبة مساحتها 18 ألف ميل مربع، تقع في كينيا، وليس في أوغندا كما شاع
ويروي الكاتب أن هرتزل أرسل بالفعل مجموعةً من الرسائل إلى السلطان العثماني وعدد من مستشاريه بخصوص هذا الموضوع. ويعتقد البعض أن إرسال هذه الرسائل، بالرغم من إدراك هرتزل عدم جدواها، لم يكن في حقيقته سوى محاولة طمأنة لجماعة أحباء صهيون الذين كانوا يتشبثون بفلسطين، وإقناعهم بأن الظروف غير مواتية للاستيطان فيها، وتالياً فلا بد لهم من قبول "مشروع أوغندا" كمحطة مؤقتة على الطريق إلى صهيون.
ويذكر أن هرتزل هَدَف من وراء هذه المحاولة الاستيطانية في هذه المنطقة، إلى الوصول إلى منابع مياه نهر النيل، وإمكانية استغلالها كوسيلة ضغط على الأطراف المصرية التي سبق أن عارضت محاولة الاستيطان اليهودي في منطقة العريش وسيناء، وإرغامها على التخلي عن معارضتها لهذا المشروع مستقبلاً، لا سيما في ما تضمنه من مقترحات متعلقة بتحويل مجرى نهر النيل لتغذية صحارى سيناء والنقب.
ويبدو أن الفكرة تعززت لدى هرتزل حينما وجد أن المنطقة في شرق إفريقيا تشكو من قلة السكان، وتالياً ستكون أقل تهديداً لإنجاح عملية الاستيطان عما لو كانت في منطقة كثيفة السكان.
ومما يسترعي الانتباه في هذه الفترة، لجوء مؤيدي هرتزل إلى المناداة بالتخلي عن فكرة الاستيطان في فلسطين، من دون التخلي عن حق اليهود في الأماكن المقدسة، خوفاً من وقوع المستوطنين في منطقة منعزلة يحيط بها بحر من الأعداء.
مؤيدون ومعترضون
عام 1903، عُقد المؤتمر الصهيوني السادس في مدينة بازل في سويسرا، وطُرح المشروع في مقدمة جدول الأعمال، وأعلن هرتزل أن الحكومة البريطانية قررت وضع جزء من ممتلكاتها في شرق إفريقيا تحت تصرف المنظمة الصهيونية، بهدف تنفيذ مشروع استيطاني يهودي فيها.
وبحسب محمود، اقترح هرتزل إرسال لجنة صهيونية لدراسة إمكانات الاستيطان في هذه المنطقة، وفي حال توصل اللجنة إلى نتائج إيجابية تتفق ومخططات الحكومة البريطانية، فإن في وسع المنظمة الصهيونية إنشاء مستعمرة في شرق إفريقيا تتمتع بحكم ذاتي مع إدارة يهودية وحكومة محلية يهودية ومندوب سامٍ يهودي، على أن تخضع مؤقتاً للسيادة البريطانية العليا.
وحاول هرتزل كسب تأييد المستمعين إليه، فأعلن أن المشروع سيساهم في حل الضائقة اليهودية، من دون أن تتنازل الحركة الصهيونية عن شيء من خططها الاستيطانية في فلسطين وغيرها، حينما تحين الفرصة المناسبة لتحقيقها.
ولدى طرح المشروع للنقاش، انقسم المؤتمرون في ما بينهم بين مؤيد ومعارض، فرأى المؤيدون أن المشروع يتضمن في طياته اعتراف بريطانيا بأحقية الشعب اليهودي المنتشر في أرض الشتات، بأن يستقر في بقعة محددة يتخذها وطناً له، وأيضا اعترافها بالمنظمة الصهيونية ممثلاً شرعياً لهذا الشعب، بينما رأى المعارضون أن المشروع يُعدّ انحرافاً عن تطلعات الشعب اليهودي وأمانيه، وهددوا بالانشقاق عن المنظمة.
كانت بريطانيا تفضّل أن يكون الوطن اليهودي في شرق إفريقيا، كونها كانت في ذلك الوقت متحالفةً مع الخلافة العثمانية، ولم تكن فكرة تقسيم دولة الخلافة الإسلامية قد طُرحت بعد
غير أن هرتزل حال دون الانقسام النهائي، فأعلن أنه لن يوافق على الاستيطان في شرق إفريقيا، قبل أن يحصل على موافقة مؤتمر صهيوني يُعقد خصيصاً لهذه الغاية، وأوضح أن الهدف من اقتراحه إرسال لجنة إلى أوغندا هو استقصاء المنطقة ودراستها، لا سيما ما يتعلق بمصادر المياه ومنابع نهر النيل، وإمكانية التحكم فيها كوسيلة ضغط مستقبلية لتحقيق حلمه بتحويل مجراه صوب سيناء والنقب، حينما يتسنى لهم احتلال فلسطين والسيطرة عليها.
معارضة الأنغلو ساكسون
لم يمضِ وقت طويل حتى تسربت أنباء المشروع إلى المستوطنين الأنغلو ساكسون، الذين استقروا في منطقة شرق إفريقيا منذ أواخر القرن التاسع عشر، فأثاروا موجةً من الاحتجاج والاستنكار ضد الحكومة البريطانية، لتبنّيها مثل هذا المشروع.
ويذكر محمود أن زعيم المستوطنين في أوغندا، اللورد ديلامير، أرسل إلى وزارة الخارجية البريطانية مذكرةً فيها أن قدوم مثل هؤلاء المستوطنين اليهود سيؤدي حتماً إلى مشكلات مع المواطنين الأفارقة، وسيثير حالةً من الفوضى والاضطراب في المنطقة، كما أرسلت جميع اتحادات المستوطنين الأنغلو ساكسون في شرق إفريقيا، برقيات إلى الحكومة البريطانية تهدد فيها بمقاومة المشروع بشتى الأشكال.
وكان من أهم المعارضين للمشروع الرحالة البريطاني الشهير، هاري جونستون، الذي قاد حملةً لإقناع اليهود بالاتجاه نحو فلسطين لخلوّها من الجنس الأنغلو ساكسوني، وسهولة التخلص من المسلمين القاطنين فيها، كما بيّن لهم صعوبة الاستيطان في شرق إفريقيا، لأن المستوطنين هناك سيقاومونهم بشدة بعدما بذلوا جهوداً مضنيةً في استصلاح الأراضي، وتالياً لن يقبلوا بسهولةٍ مهاجرين جدداً من غير جنسهم يفدون لمزاحمتهم في مصدر رزقهم.
تراجع بريطانيا عن المشروع
لم يعد في وسع الحكومة البريطانية مواجهة الضغوط الشديدة لأرباب المصالح الرأسمالية والاستعمارية، ناهيك عن الضغوط الواسعة التي كان يمارسها المستوطنون في الشرق الإفريقي، رفضاً للمشروع. وأدى هذا كله إلى تراجع بريطانيا التدريجي عن تبنّيها الفكرة، فأعلنت في نهاية عام 1903، أنها لم تلتزم إزاء اليهود بأكثر من مجرد وعد قدّمته لدراسة إمكانية إنشاء مستوطنات يهودية، وأنها ستحتفظ لنفسها دوماً بحقها في العودة إلى احتلال تلك الأراضي إذا لم تنجح مسألة الاستيطان اليهودي فيها.
أما الضربة النهائية للمشروع، فجاءت على يد لجنة الدراسة والاستقصاء التي سبق إرسالها إلى منطقة شرق إفريقيا، فقد جاء تقريرها سلبياً وغير مشجع نظراً للجو المعادي للمشروع بين المستوطنين الأنغلو ساكسون، واستعدادهم لمقاومته بشتى السبل، حسب ما ذكر محمود.
ويذكر المسيري في موسوعته، أن اللجنة ضمّت بريطانياً مسيحياً ومهندساً روسياً وصحافياً سويسرياً، وحينما وصلوا إلى هناك، ضللهم المستوطنون البيض وزودوهم بمعلومات خطأ، ووجهوهم إلى أراضٍ قاحلة، لذا جاء تقرير اللجنة غير إيجابي.
ولم تمضِ شهور قليلة على توقف هذا المشروع، حتى لفظ هرتزل أنفاسه الأخيرة في الثالث من تموز/ يوليو 1904، وبعد عام على وفاته، اجتمع المؤتمر الصهيوني السابع، وقرر تجميد هذا المشروع من دون التخلي عن فكرة الوصول إلى منابع نهر النيل يوماً ما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون