مذ أصبحت أماً، وأنا أقوم بأشياء غريبة...
مثل أن أشتري أنواعاً مختلفةً من اللبن، وأحضرها إلى البيت لأتذوقها وأتكهّن من منها سيكون الأقرب إلى طعم اللبنة التي أعرفها. وجدت أقربها، فقمت بالبحث في البيت لأيام عن "كيس اللبنة القماشي" الذي أهدتني إياه أمّي قبل سنوات، ولم أستخدمه بالطبع، إذ لم يكن لدي وقت في برلين قبل الأمومة أصلاً.
فمنذ أن وجدت اللبن المفضّل، أقضي ما تسنّى لي من وقت الفراغ، أي خلال دقائق ما بعد تحضير الفطور لابنتَيّ وإرسال إيميلات العمل، في وضع اللبن في الكيس، وأضيف إليه القليل من الملح، ومن ثم أضع الكيس على "مصفاة"، ثم في "الجاط" المناسب، وإلى الثلاجة. وبعد يومين، أُخرج اللبنة من الثلاجة، وأضعها في صحن صغير، وفوقها أسكب زيت زيتون بحذرٍ -لكيلا تنتهي الزجاجة بسرعة- وأضع الصحن على الطاولة، ونجلس جميعنا حولها لنتذوق "لبنة الماما"، أو كما يقول زوجي بالفارسية: "لبنة ي مامان".
أُخرج اللبنة من الثلاجة، وأضعها في صحن صغير، وفوقها أسكب زيت زيتون بحذرٍ -لكيلا تنتهي الزجاجة بسرعة- وأضع الصحن على الطاولة، ونجلس جميعنا حولها لنتذوق "لبنة الماما"، أو كما يقول زوجي بالفارسية: "لبنة ي مامان"
مذ أصبحت أماً وأنا أقوم بأشياء عجيبة...
مثل أن أصحو عند السادسة صباحاً، وأُخرج اللبنة من الثلاجة، وأقطّع بصلةً صغيرةً، وأخلطها مع اللبنة والقليل مما تبقّى من السمّاق الذي اشترته أمّي من مجدل شمس، وأرسلته عبر البريد من عكّا إلى أمستردام ليصل كاملاً. إلى الخليط أضيف زيت زيتون أصلي، أي ذاك الذي من بلادي وليس من الدكان، وأدهن خليط اللبنة والبصل على شرائح من "الخبز الفرنجي"، وأضعها في الفرن.
يحدث أحياناً أن أشتري عجينة بيتزا جاهزةً، فأضع خليط اللبنة عليها وعلى البعض الآخر أضع الزعتر والزيت. فبالإضافة إلى أن ابنتَيّ عليهما أن تفطرا صباحاً، إلا أني أفعل هذا أحياناً كي أشمّ رائحة أيام السبت في بيت جدّتي "سلمى" في حيفا.
مذ أصبحت أماً وأنا أقوم بأشياء مريبة... مثل أن أطبخ "ملوخية مفرومة"، لأني لا أجد بسهولة "ملوخية ورق"! صراحةً، لم أتوقع أن توصلني الأمومة إلى هذا الحضيض
مذ أصبحت أماً وأنا أقوم بأشياء مجنونة...
مثل أن "ألفّ" على مخابز المدينة، الهولندية والمغربية والتركية، كي أجد خبزاً حقيقياً، أي الخبز الذي يشبه ما كنا نشتريه أنا وصديقاتي أيام الجمعة، بعد الدوام المدرسي، حينما كنا نخرج من المدرسة في عكّا القديمة في اتجاه أقرب مخبز، ونشتري خمسة "أرغفة"، لكل واحدة منّا رغيف، ومن ثم نمرّ على مطعم "حمص سعيد"، الذي لم أكن أفضّله كثيراً، ثم نحمل أكياساً مليئةً بالخبز وعلب الحمص الساخن، ونذهب في اتجاه حيّ الفاخورة، ونجلس على السور قبالة الدرج الذي في نهايته شباك المطبخ الذي كانت جدّتي "بدرية" تطلّ منه، ونجلس لساعات نأكل ونضحك لأن نهاية الأسبوع قد وصلت، أو لأننا نفعل "شيئاً خطيراً"؛ فنحن نجلس على حافة السور التي وصلنا إليها من طريق ممنوع العبور عليه. ذات مرة، كانت إحدانا قد طبعت صوراً التقطناها، وعندما حملتها إحدى الصديقات، أفلتت من يدها ووقعت في البحر. كانت هذه المرة الأولى التي نخاف فيها من طقسنا الأسبوعي. خفنا من أن يجدها صياد أو بحّار يعرف آباءنا، وعندها يكشفون سرّنا الوحيد آنذاك.
مثلاً، عندما نصحو جميعاً، أضع أغانٍ لفيروز، أنا التي تركت هذه "العادات السيئة"، مذ انتميت إلى الأقلية المقتنعة بأن أم كلثوم تصلح للصباحات أكثر.
المهم، لم أجد الخبز الحقيقي في أمستردام، وكلما اشتريت خبزاً أجرّبه، كي تأكله ابنتاي، أشعر بالذنب عما تخسرانه يومياً من مذاق الخبز "الحقيقي"، أو كما نقول هنا: "الكماجة"، تلك التي يحدث أحياناً أن تؤكل صدفةً مع رذاذ البحر.
مذ أصبحت أماً وأنا أقوم بأشياء مريبة...
مثل أن أطبخ "ملوخية مفرومة"، لأني لا أجد بسهولة "ملوخية ورق"!
صراحةً، لم أتوقع أن توصلني الأمومة إلى هذا الحضيض.
مذ أصبحت أماً وأنا أقوم بأشياء مثيرة...
مثل أن أطبخ أكلاتٍ لم أحبّها يوماً، كالبازيلا والجزر، أو الفاصولياء الخضراء، وحتى البيضاء. أطبخها من دون البحث عن طريقة تحضيرها، ومن دون أن أسأل أمّي عن طريقتها أيضاً. كل ما في الأمر، أني اكتشفت خزائن مخفيةً في ذاكرتي، وهأنذا أحتمي بها كلما ضاقت عليّ الغربة، فأهرب إلى وصفات أكل حفظتها عن ظهر قلبٍ لم يحبّها، وأمدّ خيطاً من رائحتها بين ابنتَيّ وأمي.
مذ أصبحت أماً وأنا أقوم بأشياء مخيفة...
مثل أن أضع أغانٍ لفيروز، عندما نصحو جميعاً، أنا التي تركت هذه "العادات السيئة"، مذ انتميت إلى الأقلية المقتنعة بأن أم كلثوم تصلح للصباحات أكثر. وكما دائماً، في هذه الحرب ستنتصر الأغلبية.
مذ أصبحت أماً وأنا أقوم بأشياء جريئة...
مثل أني أخرجت كل كلمات العبرية من محادثاتي العربية، وتركتها خلفي في شوارع بلدي هناك، إلا كلمةً واحدةً لم أجد لها مرادفاً سهلاً، فأطلب من ابنتَيّ أن تحضرا الـ"شلاط"، أي "ريموت" التلفاز. وبعد صراع امتد لدقائق معدودة، بيني وبين نفسي، رأيت أن هذه الكلمة هي خيط سريع يمتد بين ابنتَيّ وصوت جدّهما الذي مات قبل أن تعرفاه.
مثل أني أخرجت كل كلمات العبرية من محادثاتي العربية، وتركتها خلفي في شوارع بلدي هناك، إلا كلمةً واحدةً لم أجد لها مرادفاً سهلاً، فأطلب من ابنتَيّ أن تحضرا الـ"شلاط"، أي "ريموت" التلفاز.
مذ أصبحت أماً وأنا أقوم بأشياء حزينة...
مثل أن تكون لدي نشّافة للغسيل، لكني أختار أن أنشر الغسيل على المنشر، وأضعه على الشرفة. وذلك كي أستخدم الملاقط التي أرسلتها أمّي، ولكي تبدو شرفة البيت التي تطلّ يساراً على النهر، بأنها تشبه شرفة أمي، التي تطلّ يميناً على المتوسط.
مذ أصبحت أماً وأنا أقوم بأشياء جديدة...
مثل أن أجد وقتاً كي أكون فيه مع نفسي وأكتب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 12 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 18 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com