يأتي هذا المقال كجزء من سلسلة مقالات وتقارير عن الأمومة في الغربة
في الثالث والعشرين من آذار/ مارس 2021، ذهبت إلى موعدٍ في المستشفى في المنطقة الغربية لمدينة أمستردام، وذلك لأن الحامل بتوأم يجب أن يكون لها موعد لتحفيز الولادة، ما بين الأسبوعين السابع والثلاثين والثامن والثلاثين من الحمل. الخطّة كالتالي: تصل الحامل إلى المستشفى في موعد محدد، ثم يأخذونها إلى غرفة الولادة، وتبدأ سير التحفيز الذي من المحتمل أن يأخذ يومين إلى ثلاثة أيام حتى تبدأ الولادة الفعليّة.
في حالتي، وفي صباح اليوم الرابع، أقرّ طاقم الأطباء، لأسباب طبية، بأنه عليّ المرور بولادة قيصرية. كان هذا متوقعاً لحامل بتوأم، ومريحاً بعض الشيء، لمن كانت خائفةً من الولادة الطبيعية، مثلي، ولمن كان جسدها منهكاً من الحمل، والوزن، وسكّري الحمل... ومنهكة أيضاً من كوني في بلد غريب وحيدةً بلا أمّي وبلا عائلتي، وبلا صديقاتي وأصدقائي، وبلا لغتي الأمّ.
كل ما فعلته بالعربية خلال الحمل، كان أني كنت أحلم بلغتي الأمّ.
اللغة الأمّ
خلال كل فترة الحمل، لم أسأل سؤالاً واحداً بالعربية استفساراً عما يحدث داخل بطني؛ فأنا في بلد هولندي، ومن حظي أن الطواقم الطبية تتحدث الإنكليزية. إلا أن كل ما فعلته بالعربية خلال الحمل، كان أني كنت أحلم بلغتي، وأخبر أمّي بما قاله الطبيب، وأرمي عليها كلّ مخاوفي، وأتحدث وأغنّي لبطني على أمل أن ابنتَيّ تسمعانني. هكذا تقول الأبحاث.
جاءت العملية القيصرية طارئةً في صباح السابع والعشرين من آذار/ مارس 2021، وكانت جملة "حبيباتي ماما"، عند خروج ابنتَيّ إلى العالم، هي اللحظة الحقيقية الوحيدة التي وضعت فيها مرساتي في هذا الميناء الجديد.
أتحدث مع ابنتَيّ بالعربية، وأغني لهما، وأحكي لهما ذكرياتي، وأعرّفهما على شخصيات لم تلتقيا بها، وعن بلاد تنتميان إليها ولربما ستحبانها. أتحدث إليهما من غير أن يكون أي رد منهما بعد. كمن تُحدّث نفسها. أتخيّل مثلاً لو أصبحت أماً في عكّا، وفي أثناء حديثي معهما بصوتٍ عالٍ، هما لن تُجيبا على أسئلتي، ولن تسخرا من قصصي وذكرياتي، لكن بالتأكيد، سيكون أحد في الغرفة المحاذية يسمع أو يفهم ما أقول. لكني هنا وحدي في هذا البيت أتحدث لغةً لا يفهمها زوجي، ولا الجيران، ولا حتى صاحب مطعمي المغربي المفضّل، وذلك لأنه يتحدث الأمازيغية. فلا أحد يراقب ما أقول، ولا أحد يعلّق على الكلمات البذيئة التي تخرج من فمي أحياناً بسخرية. فأنا قادرة بالطبع أن "أُفلتر" حديثي كلما تحدثنا مكالمة فيديو مع أمّي البعيدة، فأمي لن تسمعني مثلاً أشتم الحمام الذي يحطّ على شرفتنا، ومن ثم أحاول أن أجعل ابنتَيّ تحبانه. هكذا، بحرية كاملة، أتصرّف بلغتي، وأحضر منها ما أحبّ، وما لا أحبّ. وما حدا إله عندي...
أليست هذه أمنية كل الأمّهات؟
في أحد الأيام، علّقت قريبتي على شعري الأبيض. "ليش شعرك هيك؟"، سألتني. وأجبتها: "لأنه عاجبني". طبعاً، استحالة أن تكون إجابتي مقنعة. فقالت بنبرة استنكارية: "شو؟ عشانك صرتي إم بدّك تهملي حالك؟". وفي هذه اللحظة، وأنا أجيبها بقمة الهدوء، كنت أردد في عقلي كم أنا سعيدة بأني بعيدة
الزيارة الأولى
في زيارتي الأولى مع ابنتَيّ إلى فلسطين، قضينا شهراً واحداً في عكّا. ومنذ يوم الزيارة الأول، وصلت إلى البيت وفود من العائلة والصديقات والأصدقاء كي يصدّقوا أني أصبحت أماً. في أمسية احتفالية بمناسبة الزواج والولادة، وأمام نحو 60 شخصاً، اعترف أحد الأقرباء بأنهم تقريباً فقدوا الأمل بأن أتزوج وأصبح أماً! ولكن، الحياة مفاجآت بالطبع، لي أولاً ومن ثم بالنسبة إليهم.
المهم، في أحد الأيام، علّقت قريبتي على شعري الأبيض. "ليش شعرك هيك؟"، سألتني. وأجبتها: "لأنه عاجبني". طبعاً، استحالة أن تكون إجابتي مقنعة. ولربما لم تسمعني، فقالت بنبرة استنكارية: "شو؟ عشانك صرتي إم بدّك تهملي حالك؟". وفي هذه اللحظة، وأنا أجيبها بقمة الهدوء، كنت أردد في عقلي كم أنا سعيدة بأني بعيدة. سعيدة بأني في وسطهم، وبأنهم يتعرّفون إلى ابنتَيّ، لكني تمنيّت في تلك اللحظة لو كان بإمكاني حملهما والهروب من هناك في أسرع وقت ممكن.
في هذه اللحظة تأكدت بأني أحبّ من أحبّهم، وأشتم من أحبّهم، وسعيدة لأني بعيدة عنهم، وحزينة أيضاً.
لحظة، أليس هذا حال كل الأمّهات؟
هبلةٌ" من تعتقد أنه سيكون لها وقتٌ لكل ما هو خارج مهام الأمومة، مع الاعتذار لنفسي أوّلاً.
الوقت في الغربة
"هبلةٌ" من تعتقد أنه سيكون لها وقتٌ لكل ما هو خارج مهام الأمومة، مع الاعتذار لنفسي أوّلاً. أكثر ما يخيفنا قبل الأمومة هو فقدان الوقت مع أنفسنا. ومع أيام الأمومة الأولى، نحاول جاهدات ألا نخذل أنفسنا، ونعارك الدنيا لخلق نصف ساعة في الأسبوع كي نقرأ كتاباً أو نمشي في الشوارع وحدنا، أو نأكل البوظة في الشتاء. هذا كله حكي فاضي. لا وقت لأنفسنا في السنة الأولى من الأمومة، ولا وقت لأن "نصفن بالحيط" حتّى. كل هذه المحاولات ما هي إلا إحباطات إضافية في الجولة الأولى من هذا البحر.
الآن، تخيّلوا أني كنت أحاول ألا أخيّب ظن نفسي وأنا تماماً وحدي، حرفياً وحدي، بمعنى أني بلا أمّي ولا إخوتي ولا صديقاتي. يعني أنا هبلة مع شهادة شفوية.
المهم، هذه التوقعات الذاتية الثقيلة ليست "طبيعيةً"، بمعنى أنها لا تأتي مع هرمونات الولادة. إنما هي اجتماعية وثقافية، أي مكتسبة وراسخة في عقولنا وهويّاتنا كنساء ومن ثم أمّهات (لمن تريد ذلك طبعاً). علينا حمل مليون بطيخة فوق البطيخة اللي خلّفناها (أنا خلفت بطيختين). وهذه البطيخة متغيّرة من حيث باطنها، بمعنى التوقعات والطلبات والأثقال التي تُرمى على عاتقها (أو تُحشى فيها)، لكن في المحصلة، الكل يريد أن يأكلها.
أنا شخصياً، ولأني في الغربة، فأنا مرتاحة من الأثقال التي كانت ستُرمى على كاهلي المتعب أصلاً، لو أنا وسط أهلي وأحبائي. لا تفهموني غلطاً، أريد أن أكون بينهم، وأتمنى كل يوم أن أكون بينهم (اسألوا زوجي)، لكني أيضاً أريد أن أكون وحدي في هذه التجربة. تعلّمت باكراً أنه ما من وقت لأسكر في البارات -مثل أيام زمان- لكن تعلّمت باكراً أن ما حصلت عليه، أي الهدوء الذي يحيط بخطوات الأمومة الأولى، والهدوء حين أسمع نفسي وأرمي كل الأصوات التي حُمّلت على كتفيّ كأمّ، أو صداها في حالتي... تعلّمت أنها النعمة في اللعنة، لعنة الغربة أقصد.
أليس عن هذه النعمة تبحث الأمّهات؟
تعلّمت باكراً أنه ما من وقت لأسكر في البارات -مثل أيام زمان- لكن تعلّمت باكراً أن ما حصلت عليه، أي الهدوء الذي يحيط بخطوات الأمومة الأولى، والهدوء حين أسمع نفسي وأرمي كل الأصوات التي حُمّلت على كتفيّ كأمّ، أو صداها في حالتي... تعلّمت أنها النعمة في اللعنة، لعنة الغربة أقصد
الوحدة
كان يجب أن تمرّ سنة تقريباً على أمومتي، لأعترف بأني وحيدة. تشير دراسات عديدة إلى علاقة وطيدة بين تجربة الأمومة الأولى وبين الشعور بالوحدة، بين الشعور الإيجابي الذي يرافق الأمومة، والسلبي أيضاً الناتج عن الخسارة، وقلة الدعم الاجتماعي، والضغط الذي تشعر به الأمّهات، والتوقعات منهن في سياق تجسيد صورة الأمّ في الثقافات الشعبية، وغيرها من العوامل التي تساهم في الشعور بالوحدة. الأقسى من هذا، هو عدم القدرة على الاعتراف بالمشاعر السلبية وسط الاحتفاء الشعبي بالأمومة كإنجاز للمرأة التي وصلت إليها، أو "التي يجب عليها الوصول إليها" كي تستحق "لقب امرأة مثالية".
أكثر ما ينجح في أن يثير مشاعري الغاضبة منذ أن أصبحت أماً، هي كل هذه الصفحات عبر الإنستغرام التي تُصوّر الأم كأنها بطلة وخارقة وعظيمة وسعيدة.
فاصل إعلاني
أكثر ما ينجح في أن يثير مشاعري الغاضبة منذ أن أصبحت أماً، هي كل هذه الصفحات عبر الإنستغرام التي تُصوّر الأم كأنها بطلة وخارقة وعظيمة وسعيدة ويا إلهي، شوي وتقريباً ستكون الجنة تحت أقدامها. فعلاً؟ هي ناقصة؟ ألم نشبع بعد من وصفنا بالوطن والقضية والثورة والملائكة؟ متى تصبح الأمهات بشراً بإمكانهن أن يلعنّ الساعة التي أصبحن فيها أمهات (واللي فتحت فيها الإنستغرام)، وبعد ثلاثين ثانية يندمن على أنهن شعرن هكذا؟
كفّوا عن رفع ضغط دمنا، واحكوا لنا الحقيقة.
بالعودة إلى الوحدة...
أقسى ما في الأمومة التي في الغربة، التعامل مع هذه الوحدة التي تتجسّد بخسارة الذات القديمة، أو جزء منها، وبخسارة الخفّة في التنقل والحركة، وبخسارة الوقت، وبخسارة النوم! (لم أنم ليلةً كاملةً منذ سنة تقريباً)، من دون أن يكون في استطاعتي أن أهرب من هذه الخسارة ولو للحظة واحدة إلى الراحة المرافقة لوجود أمّي من حولي.
وأقسى ما في تجربة أمومتي أيضاً، أن صديقاتي اللواتي تركتهن خلفي، لسن هُنا. وما من وقت لدي لبناء صداقات جديدة. لكني كل ليلة، وقبل فقرة النوم القصيرة، أطبطب على قلبي بثقة، وأنا أقول لنفسي: "الآن لديك صديقتان صغيرتان جديدتان، ستفهمان قريباً كل مرة تشتمين فيها 'يلعن أبو الغربة'".
أليست كلّ البنات صديقات أمّهاتهن القريبات والبعيدات؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون