لمست الزر الأحمر لهاتفي المحمول معلنةً انتهاء مكالمة العمل التي اضطررت إلى إجرائها في الشارع، وشعرت برغبة جامحة في الرقص تجتاح جسدي، واستشعرت أختي ارتفاع قدميّ عن الأرض فشدّت يدي، لتوقظني مما خلته حلماً. إنه رئيس تحرير الموقع الذي أعمل فيه، ينبئني برفع أجور مقالاتي بنسبة خمسين في المئة، ليصبح أجري اليوم ثلاثة أضعاف الأجر الذي بدأت به، أنا التي سأكمل في مطلع الشهر القادم عامي الأول في هذه الوظيفة.
لا أنكر أن الأجر، مقارنةً بالكم والنوع المُقدّمين، قد يكون زهيداً، ولكننا نحن السوريين "لقمتنا صغيرة"، كما يقول عنا الأشقاء، وكما يعرف تماماً من اغترب منا خارج حدود الجغرافيا خاصتنا، لذا فإن أي أجر مهما كان بخساً من جهة خارجية، يُضرب تلقائياً بسعر الصرف فيستحيل رقماً يسيل له اللعاب اللاهث خلف تأمين أساسيات الحياة فقط.
وعدا عن المكسب المادي للعمل الذي أقدّمه لصالح الموقع العربي، فإن اللذة التي يمنحني إياها إطراء هيئة التحرير، تجعلني أعشق هذا الدور، فنحن الأعضاء المميزين في فريق الكتّاب، ننال نصيبنا من الاحترام والمكافآت والثناء في كل مناسبة، والأهم من ذلك أننا نحصل على زيادة في الأجر من دون أن نجلس منكّسي الرؤوس نشرح لمديرنا ما يعرفه جيداً عن ارتفاع الأسعار وضيق المعيشة.
أما الأزمة السورية فكانت بالنسبة لي ومن دون أن أدري، حبل خلاص من هذا الكابوس الذي كنت أظنه حياةً رغيدةً، هذا مع العلم بأنني أحترم كل هذه الأدوار الجسدية، إلا أنني أراها ناقصةً من دون إعمال الفكر
في الحقيقة، وبينما أكبح رغبتي في الرقص في الشارع، تذكرت العبارة التي يقولها "لايف كوتش" أتابعه على إنستغرام: "كن ممتناً للمصاعب التي واجهتك، وللعثرات التي رمتك أرضاً، وانظر إلى نفسك اليوم وتذكر أنك لم تكن لتصبح على هذا النحو من الوعي والنضج، لولا كل تلك الأحداث التي ظننتها مصائب". إنه محق! فعلى صعيدي الشخصي، أنا ممتنة لأزمة سوريا الاقتصادية، ولو بدا ذلك مريعاً، فلولا الضيق الذي أحكم خناقه على الجميع لكنت مقيّدةً بدور نمطي يمليه جسدي، كأي امرأة من قريتي، أي مجرد موظفة حكومية تقطّع الخضار في أثناء الدوام وتكشّر في وجوه المراجعين، أو أم تجري وراء أطفالها، أو امرأة تتشارك الغيبة مع الجارات، أو زوجة تستخدم أجزاءها لإقناع زوجها أو لإرضائه.
أما الأزمة السورية فكانت بالنسبة لي ومن دون أن أدري، حبل خلاص من هذا الكابوس الذي كنت أظنه حياةً رغيدةً، هذا مع العلم بأنني أحترم كل هذه الأدوار الجسدية، إلا أنني أراها ناقصةً من دون إعمال الفكر، فالمرأة إنسان قبل أن تكون أنثى، فكيف صادرت الأعراف منا هذا الحق؟ الضيق المادي أظهر أن عمل زوجي من الصباح حتى المساء، بالإضافة إلى معاش الوظيفة، لا يسدّان رمق عائلة مكونة من أبوين وطفلتين دون سن الخامسة، فاضطررت إلى إعمال عقلي المركون منذ تخرجي من الجامعة، ورحت أتابع الدورات التدريبية وأشغل الشواغر الوظيفية وأتعرف إلى أناس يجدون مواطن للّذة أبعد من ثوب جديد أو كيد جارة، وصرت أشعر بأن تصدّر مقال في أول نتائج محركات البحث، يجلب السعادة أكثر من طنّ من الكنافة، وأكثر من إتقان طفلتي العد إلى عشرة قبل ابنة جارتنا. إن الأزمة السورية قد قضت على كل ثانية فراغ في أيامي وأيام مثيلاتي، ووعّتنا بحقيقة أن البطالة أساس كل رذيلة، فصرنا ندرك قيمة الوقت وقيمة العمل وقيمة الراحة، وقيمة أن نكون مستقلات ومساهمات، وشرحت لنا كيف أن النساء في بيوت أزواجهن رفيقات وشريكات، ولسن مجرد جوارٍ متطلبات أو تابعات.
تعلمنا -نحن اللواتي اخترن كسر أدوارنا النمطية- أن نقارن أنفسنا اليوم بأنفسنا البارحة، لذا فإننا نجد ما ننجزه عظيماً بغض النظر عن تقييمات الآخرين.
سوريات حققن أمجاداً في بلاد اللجوء
تعلمنا -نحن اللواتي اخترن كسر أدوارنا النمطية- أن نقارن أنفسنا اليوم بأنفسنا البارحة، لذا فإننا نجد ما ننجزه عظيماً بغض النظر عن تقييمات الآخرين، ويعزز يقيني ما أجده في حسابات إنستغرام، فهنا حساب رائدة الأعمال، مروة الخطيب، التي لجأت إلى تركيا بعد اعتقالها خلال الأحداث السورية، والتي استطاعت بعد أيام مريرة من الصبر والاجتهاد إعادة افتتاح صالون تجميلي خاص بها هناك، وقد توسع ليصبح مركزاً تجميلياً ضخماً تقصده النساء من جميع أنحاء العالم. وفي الستوري التالية أجد غزل بغدادي، مؤسسة مشروع "علمتني كنز" المخصص للأم والطفل، واللاجئة السورية على الأراضي البريطانية والتي تعرضت للاستغلال في عملها كصحافية هناك، تقف اليوم في عمان أمام مئات الأمهات اللواتي قصدن ورشتها عن صناعة التغيير، بعد أن تعلمن برفقة ملايين أخريات من محتواها الرقمي المجاني والمأجور كيف يربّين أطفالهن بحب غير مشروط، وكيف يواجهن صعوبات التربية بعاطفة وحزم. وعلى حساب آخر، أشاهد صورة ملكة الجزماتي، اللاجئة السورية في ألمانيا التي أطعمت أنجيلا ميركل أطايب المطبخ السوري، وحقق مطعمها "مطعم ملكة"، شهرةً واسعةً في البلاد، ومشت على السجادة الحمراء وطبخت للبرلمان الألماني.
لا أحد يستطيع تكهّن الأمور في هذه الأيام، لكنني أتخيل أنه لولا الأزمة لكانت مروة الخطيب تدافع عن نفسها مما أورده كتّاب التقارير الكاذبة، ولربما كانت غزل بغدادي، تختبئ من نظرات المجتمع إليها كمطلقة، ولربما كنتُ نموذجاً أكره اليوم أن أكونه
ماذا لو لم تحدث الأزمة؟
لا أحد يستطيع تكهّن الأمور في هذه الأيام، لكنني أتخيل أنه لولا الأزمة لكانت مروة الخطيب تدافع عن نفسها مما أورده كتّاب التقارير الكاذبة، ولربما كانت غزل بغدادي، تختبئ من نظرات المجتمع إليها كمطلقة، ولربما كانت ملكة، مقدمة برامج رتيبة، ولربما كنتُ نموذجاً أكره اليوم أن أكونه. لكن صديقتي تقول إن الناجح لا بد سيكون ناجحاً في أي ظرف، وأي مكان يوضع فيهما، وتؤيد كلامها مروة الخطيب، التي تقول عبر إنستغرام، إنها لم تنجح في التجميل لأنها تحب التجميل، بل لأنها تحب النجاح. أما الاستشارية التربوية غزل بغدادي، فتستخدم مصطلح "إدمان النجاح" الذي يحث الإنسان على تحصيل المزيد منه، ما أن تذوقه مرةً واحدةً. لربما كان فظاً ودنيئاً أن أمتنّ لأزمة جوّعت وهجّرت الكثيرين وأفقدتنا أحبةً وأعزاء. ولربما كنت أجد نفسي أنثىً ناجحةً لو لم تحدث الأزمة الاقتصادية السورية، لكنني لا أريد أن أشغل رأسي بالاحتمالات، وأريد فقط أن أشكر امتحان الأزمة السورية لأنه حررني من دور نمطي كان يمليه عليّ جسدي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون