الرأي العام المصري "مقلوب" منذ أسبوعين تقريباً بسبب شيخ الأزهر ورأيه في موضوع ضرب المرأة. هو موضوع قديم يتجدد في كل مناسبة بنفس شخوصه، ونفس حواراته و"خناقاته" وعباراته وآرائه. لا يتغير أي شيء في مصر وكأن مياهاً لا تجري في النهر!
قلة قليلة من التنويريين والليبراليين يهاجمون فرضية ضرب المرأة بأي شكل وأي سبب، وغالبية كاسحة من الرجال، والنساء أيضاً في مفارقة عجيبة، يقودهم شيوخ الأزهر وشيخه الأكبر نفسه، يقولون إن ضرب المرأة نص صريح في القرآن، وأنه لا اجتهاد مع نص.
فما الذي أعاد الموضوع إلى الواجهة مرة أخرى في الأسبوعين الأخيرين؟
كسر كبرياء المرأة
بدأت الحكاية حين أعلنت النائبة في البرلمان المصري أمل سلامة أنها بصدد تقديم مقترح، خلال أيام، بتغليظ عقوبة ضرب الزوج لزوجته في القانون المصري، وذكرت أن آخر إحصائية أصدرها المجلس القومي للمرأة أشارت إلى أن ثمانية ملايين سيدة مصرية يتعرضن للعنف الأسري سنوياً، و86% من الزوجات يتعرضن للضرب.
هذا التصريح أعاد إلى الواجهة تصريحات سابقة للدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، ذكرها في برنامج رمضاني أذيع على شاشة الفضائية المصرية يوم 31 أيار/ مايو 2019، قال فيها إن الضرب المطلق ليس مباحاً في الإسلام، فـ"الضرب أبيح في حالة معيّنة باعتباره دواء لعلة طارئة، ويجب أن نفهمه بعيداً عن كلمة الضرب التي نتخيلها".
وفي تعريفه للضرب "المباح"، قال: "الضرب أحياناً نستطيع أن نسميه رمزاً لجرح كبرياء المرأة. النشوز هو الكبر، (وهو هنا يشير إلى آية {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}/ النساء: 34)، وهناك نوع من النساء لو استُعمل معه هذا العلاج الذي يرمز إلى كسر هذا الكبر، مفيش عاقل يقول لا تستخدم هذا ودَعْها تتمادى إلى أن تقلب المعبد على رأسها ورأس مَن معها".
وبرأي الطيب، الضرب هو أخف الضررين، كما قال إن المساواة والحقوق المباحة والمطلقة تأتي على جثة الأسرة، وقال إن الغرب لا يحترم الأسرة، لأنه يريد إيجاد نوع ثالث لا ذكر ولا أنثى، إلخ.
الضرب "المباح" والدعاية الأزهرية
طرح الموضوع من مدخل رأي شيخ الأزهر الذي يدعو إلى كسر كبرياء المرأة ليصلح حال الأسرة أثار كثيرين ممن يعتبرون أن هذا كلام عفا عليه الزمن، ولا يصح أن يقال الآن، فتدخَّل مؤيدو الشيخ لمناصرته باعتبارهم يؤيدون الإسلام ضد مَن يبتغون هدمه!
ودخلت الدعاية الأزهرية على الخط، ورداً على تخصيص الإعلامي عمرو أديب حلقة من برنامجه الذي تبثه قناة "أم بي سي مصر" لقضية إباحة الشرع لضرب الزوجة، ذكر فيه أقوال شيخ الأزهر، وضعت مجلة "صوت الأزهر" صورة كبيرة لأديب على غلافها وكتبت في عنوانها الرئيسي "صحيفة المخالفات المهنية لإعلامي ‘الترفيه’ في قضية ضرب الزوجات"، في لمز إلى علاقة الإعلامي المصري برئيس هيئة الترفيه السعودية تركي آل الشيخ، مع عناوين/ اتهامات فرعية كثيرة، منها "أذاع أخباراً كاذبة عن تبني شيخ الأزهر للضرب"، "روج شائعات عن وقوف الأزهر ضد صدور قانون لردع الضارب"، إلخ.
وفي العدد التالي، وضعت المجلة على غلافها صورة لشيخ الأزهر، تحت عنوان "هكذا تحدّث الإمام الطيّب"، مشيرة إلى موقفه الرافض لضرب المرأة وإلى أنه ليست هناك أي إشارة لإباحته، كما ذُكر من برنامج أديب التلفزيوني.
تركّز الدعاية الأزهرية على قول الشيخ إن الضرب في إطلاقه غير منصوص عليه، بينما يركّز معارضوه على حديثه عن الضرب "المباح" الذي يكسر كبرياء المرأة.
لكن المتابع يدرك أن هذه قمة جبل الجليد فقط، أي الجزء المعلن من الصراع، وأن الجزء الأكبر الذي يدور في الخفاء هو صراع سياسي يدور بين النظام الحاكم ومؤسساته من جهة، وبين مؤسسة الأزهر بحمولتها الدينية وأتباعها –أو قل ألتراسها- من جهة أخرى.
أصل الصراع
لا نحتاج إلى عناء من أي نوع لنثبت أن الأزهر –الذي يُختصر في شيخه ككل المؤسسات في الدول الدكتاتورية التي تُختصر في رأسها- كان ضد ثورة 25 يناير 2011، فالشيخ الطيب جاء إلى المشيخة من لجنة السياسات التي كان يرأسها جمال مبارك، الرجل القوي الذي كان يدير البلاد فعليّاً طوال السنوات العشر التي سبقت اندلاع الثورة، بشهادة كل المطّلعين والقريبين من الحكم.
كما أنه خرج على الفضائيات –وقت الأحداث- في حديث طويل، وقال إن الخروج على الحاكم إثم ولو كان ظالماً، مذكِّراً بالحديث الذي ورد في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان، أن رسول الله قال: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع".
"كان مطلوباً من الأزهر أن يكون في مواجهة جماعة الإخوان لمصلحة النظام، وقد أدّى هذا الدور بنجاح طوال 70 عاماً حتى قامت الثورة ووصل الإخوان إلى السلطة، وبالتالي أصبح الأزهر تحت قيادتهم، ويأتمر بأمرهم"
كما لا نحتاج إلى كثير عناء لإثبات أن المشيخة بكل مؤسساتها: الجامع والجامعة ودار الإفتاء وهيئة كبار العلماء والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ووزارة الأوقاف، تابعة تبعية كاملة وتامة للدولة ونظام حكمها وتوجهاتها، بدليل أن "الشيوخ" لا يتركون مناسبة إلا خرجوا على الناس بكل طرق "الخروج" ليفتوا بما يصب في مصلحة النظام، مثل أن المتقاعس عن الإدلاء بصوته في الانتخابات في حكم كاتم الشهادة، وغيره كثير.
في هذا الإطار، لا يخفى أن النظام الحالي ومؤسسة الأزهر كانا معاً ضد ثورة يناير، وهما المستفيدان الوحيدان –تقريباً- منها، فالقيادات العسكرية التي تولّت السلطة كانت بعيدة عن دائرة صنع القرار، واستمرار النظام السابق كان سيؤول إلى جمال مبارك في أغلب التقديرات، وهو رجل له توجهات مختلفة، يعرف العسكريون أنهم ليسوا في قمة أولويات تفكيره، وربما هذا هو السبب الرئيسي الذي دفعهم للتعجيل برحيل مبارك، وربما عرف حسني مبارك ذلك فآثر السلامة.
فماذا عن الأزهر والثورة؟
الأزهر أداة السلطة في مواجهة الإخوان
منذ الأيام الأولى لنجاح حركة 23 يوليو 1952، وُلِد شقاق بين الضباط وجماعة الإخوان في صراعهما على مساحة المشاركة في الحكم، فالإخوان كانوا يطمعون في مساحة أوسع يرون أنها من حقهم لمشاركتهم في نجاح الحركة. وأخذ الشقاق في الاتساع تدريجيّاً، فأطلقت عناصر الإخوان النار على جمال عبد الناصر في المنشية عام 1956 –حسب رواية نظامه-، كما اكتُشف –بالصدفة، حسب رواية النظام أيضاً- مخطط لاغتيال الرئيس عام 1965، وهي القضية التي أُعدم فيها سيد قطب.
السلاح الذي كانت الجماعة تستخدمه ضد عبد الناصر هو إشاعة عدائه الدين ومحاربته، وساعدها في ذلك انحيازه للاتحاد السوفياتي الشيوعي في ذلك الوقت.
حتى هذا الوقت، كان الأزهر مجرد جامع وبعض المعاهد الدينية، فقرر عبد الناصر أن يستخدمه كأداة (دينية) في مواجهة الجماعة المتطرفة، لكي تكون له مؤسسته التي يثبت من خلالها أنه متدين، وأن ما يقال عن محاربته للدين ليس له أساس، فأصدر القانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التى يشملها، ونصت المادة (4) منه على أن "شيخ الأزهر هو الإمام الأكبر وصاحب الرأي في كل ما يتصل بالشؤون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام، وله الرياسة والتوجيه فى كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية فى الأزهر وهيئاته. ويرأس المجلس الأعلى للأزهر".
"وجود الأزهر إلى جوار السلطة مشهد معتاد... وهذا دوره الطبيعي، لكن الجديد أن شيخ الأزهر أراد المساحة التي فرغت برحيل الإخوان لنفسه، فيما يريد النظام الجديد القوي أن يُدخل الأزهر تحت طاعته كما كان دائماً"
ونصت المادة (8) على أن الأزهر يشمل الهيئات الآتية: 1- المجلس الأعلى للأزهر، 2- مجمع البحوث الإسلامية، 3- إدارة الثقافة والبعوث الإسلامية، 4- جامعة الأزهر، 5- المعاهد الأزهرية.
كان مطلوباً من الأزهر أن يكون في مواجهة جماعة الإخوان لمصلحة النظام، وقد أدّى هذا الدور بنجاح طوال 70 عاماً حتى قامت الثورة ووصل الإخوان إلى السلطة، وبالتالي أصبح الأزهر تحت قيادتهم، ويأتمر بأمرهم.
الأزهر تحت حكم الإخوان
شهد عام حكم الإخوان احتكاكات كثيرة بين الطرفين، فالأزهر الذي كان يعلو على الجماعة بعدة خطوات، كونه مؤيَّداً من السلطة، وعلى أساس أن أساتذته مؤهلون علميّاً لأنهم درسُوا في المعاهد الدينية بخلاف قيادات الإخوان الذين لم يدرسوا العلوم الدينية، وجد شيوخه أنفسهم في مرتبة أقل، وهو ما دفعهم إلى تأييد الإطاحة بالرئيس الإخواني. وظهر الشيخ، إلى جانب بابا الأقباط الأرثوذكس وقيادات عسكرية ومدنية، في مشهد 3 يوليو الشهير، الذي أعلن فيه وزير الدفاع وقتها، ورئيس الجمهورية الحالي، عبد الفتاح السيسي الإطاحة بحكم الإخوان، وتعيين المستشار عدلي منصور، رئيس المحكمة الدستورية العليا وقتها، رئيساً مؤقتاً.
وجود الأزهر إلى جوار السلطة مشهد معتاد، لأنه، بشكله الحالي، من صناعتها في الأصل، وهذا دوره الطبيعي، لكن الجديد أن الشيخ أراد المساحة التي فرغت برحيل الإخوان لنفسه، فيما يريد النظام الجديد القوي أن يُدخل الأزهر تحت طاعته كما كان دائماً.
كما أن النظام واقع تحت ضغط مدني يتوسع باستمرار، نتج بالأساس عن فشل تجربة حكم الجماعة الدينية، لكي تلحق مصر بركب التطور العلمي والتكنولوجي المتسارع في العالم كله، وضغط الدول الكبرى التي تنبهت إلى الخطر الذي يطالها من جرَّاء تغذية الانتماءات الدينية، والإسلامية بالذات.
مكافأة الأزهر لتأييده ثورة يونيو 2013
تأييد الأزهر لبيان 3 يوليو لم يكن مجانيّاً، بل حصد مكافأة ضخمة عليه. يمكن تبيّن ذلك من مقارنة وضع الأزهر بين دستور 2012 المعروف باسم دستور الإخوان، ودستور 2014 الذي أُعِدَّ في عهد الرئيس الحالي.
دستور الإخوان يقول في المادة رقم (4) إن "الأزهر الشريف هيئة إسلامية مستقلة جامعة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه، ويتولى نشر الدعوة الإسلامية وعلوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم. ويؤخذ رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية".
بينما تنص المادة (7) من دستور 2014 على أن "الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية، ويتولى مسؤولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم".
بخلاف أن الدستورين يضمنان أن الدولة تتكفل بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه، وأن شيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، يحدد القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء.
أضيفت إلى دستور 2014 كلمة "علمية" في تعريف مؤسسة الأزهر، وأنه –وهذا هو المهم- "المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية"، بدياً عن صيغة "أخذ رأي هيئة كبار العلماء في الشؤون المتعلقة بالشريعة" كما في دستور 2012، وهو احتكار رسمي علني لملف الدين بالكامل، فلا يُعتَدّ بأي رأي أو تفسير خلاف رأي وتفسير الأزهر، ولا بأي اجتهاد بالطبع، فأصبح الشيخ هو الحاكم الإسلامي، كما أن البابا هو الحاكم المسيحي، وهو وضع غريب في دولة تطمح إلى أن تكون مدنية، أو لادينية على الأقل، أو ألا تكون متعددة الرؤوس.
مع الوضع في الاعتبار أن المشيخة لها "ألتراس" غير رسمي وغير معلن، يتكون من جموع المتدينين الذين يرون أنه "شريف"، وأن الشيخ هو الإمام الأكبر، إمام أهل السنّة والجماعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون