شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
كيف تعلمت أن أتصالح مع

كيف تعلمت أن أتصالح مع "الحبسة الإبداعية"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الأحد 4 سبتمبر 202205:14 م

تنتشر المقالات التي تحكي عن قوانين وروتين الكتاب الكبار، كأنها تحمل سرا أبدياً وختم معرفة نهائي، إن قمنا باتباعه فسنصير مثلهم، لكني أظن أن عبقرية الكتاب الكبار اللذين نحبهم ونستلهمهم، لا تأتي من اكتشافهم روتين كتابة أشبه بالقوانين الفيزيائية الخالدة، بل إن عبقريتهم تنبع من شيء آخر، هو اكتشاف القوانين المحركة لطبيعتهم الشخصية، وفهم المكامن الفريدة لنقاط قوتهم ونقاط ضعفهم، وقدرتهم على ترويض نقاط الضعف أو تحييدها أو حتى الاستسلام لها عبر التكيف معها وتحويلها إلى نقاط قوة.

لذا لا يهم إن كنت تكتب صباحاً أو مساءً، وما عدد الساعات التي تفعل فيها ذلك، إن كنت تفعل ذلك جالساً أو واقفاً، لا يهم إن كنت متفرغاً أو كنت تعمل بدوام كامل.

كل ما تحتاجه هو فهم نفسك، من أجل تصميم نظام يوافق طبيعتك، وقد يكون ذلك النظام هو "اللا نظام"، طالما ترتكز في النهاية على شيء. أما قصص الكتاب وكيف يعملون، فليس ما تحتاجه منها هو نسخها، بل إدراك ما يتقاطع منها مع طبيعتك، لأن كل شيء حدث ملايين المرات في الماضي، وكل المواقف والاختبارات تعرض لها الكتاب الكبار وأوجدوا حلولاً لها.

لا يهم إن كنت تكتب صباحاً أو مساءً، وما عدد الساعات التي تفعل فيها ذلك، إن كنت تفعل ذلك جالساً أو واقفاً، لا يهم إن كنت متفرغاً أو كنت تعمل بدوام كامل

عندما بدأت في التفرغ للكتابة الأدبية عام 2015، حاولت تطبيق نظام نجيب محفوظ الصارم، لقربه إلى قلبي، وبعد المرور بمراحل الشعور بالذنب، اكتشفت أن طبيعة جسدي ليست كطبيعة جسده وكذلك قوة إرادتي، فأعدت تصميم نظام يناسبني، بتقسيم الوقت بين القراءة والكتابة بشكل متقطع والحصول على فترات راحة: الكتابة مساءً، القراءة صباحاً أو مساءً إن تعذرت الكتابة، فاختلفت النتيجة.

دعنا أيضا نفكر في مسألة الكتابة كل يوم بشكل مختلف، سيقول لك البعض: "لن أكتب كل يوم لأني لست موظفاً"، لا تكترث له إن كنت تكتب رواية، فالرواية عملية مختلفة، لا يمكن إنجازها بجودة وإتقان إلا عبر العمل اليومي، لسبب تقني بحت يتصل بعدد الصفحات الذي سيكون بالضرورة أطول من القصة، لذا فالربط بين الفقرات والشخصيات يكون أكثر تعقيداً، التركيز اليومي بعيداً عن المشتتات يخلق ذلك الترابط داخل العقل.

لذا فمصطلح الكتابة كعمل يومي قد يكون مرتبطاً أكثر بالروائيين، وإن كنت لا أنفيه على الشعراء أو كاتبي القصص، بل أظن أن كبار الشعراء في الوطن العربي والعالم كانوا يقدرون أيضا فكرة الكتابة كعمل يومي، لكنها وإن كانت فكرة مهمة لجميع أصناف الكتاب، فلا غنى عنها للروائي.

لكن أيضا هل تعني الكتابة كل يوم إنتاج نص كل يوم؟ أو عدد معين من الصفحات كل يوم؟ أظن أن هنا تكمن الفكرة المغلوطة المسؤولة عن سيل من هراء نراه على شكل روايات، بعضها ناجح للأسف، لأنه يستسلم لهراء مقالات الحبسة الإبداعية التي تجعل الإنتاج والكم أعلى من شرطين أساسين تحتاجهما أي كتابة: التأمل والتردد، معالجة العقبات تكون بالشك لا الإقدام، بل إفساح المجال لشيء من "بارتلبي النساخ" الذي "يفضل ألا..."، في مواجهة ظاهرة عالمية ترى الكتابة مجموعة من التقنيات والأدوات، ما أن تمتلكها حتى يصير بإمكانك أن تصبح أديباً.

هل تعني الكتابة كل يوم إنتاج نص كل يوم؟ أو عدد معين من الصفحات كل يوم؟ أظن أن هنا تكمن الفكرة المغلوطة المسؤولة عن سيل من هراء نراه على شكل روايات، بعضها ناجح للأسف

تخلط تلك الأفكار صراحة بين الأدب ورفع تقرير إلى مديرك، بين حاجة الموهبة إلى الحرفة لإبرازها، وبين الحرفة كاستنساخ لقوالب مجربة مضمونة، تُسقط التمييز اللازم بين حاجة الكاتب نفسه إلى أصالة الرؤية ووجود دافع قوي وملح لقول شيء وبين أن نقول أي شيء، بين تحرير النص والنص نفسه، تقلل من فكرة معاناة الكاتب أو حبسة الكتابة وتراها محض أسطورة مخترعة، بل تقول صراحة إن من الممكن أن نصبح جميعا “أمة من الكتاب” إذا ما اتبعنا قواعد بعينها، وتعد بأن يصبح ذلك اللاشيء هو “الأعلى مبيعا”، لأنه لا يملك معياراً آخر لقيمته سوى الانتشار، تماما كالعشب الضار.

إلى من ننتصر إذن سوى لصمت “بارتلبي” وعجزه؟ من يذكرنا بما تعنيه الكتابة حقاً سوى ذلك الحارس الملعون المتجمد مثل “آخر عمود في معبد خرب”،” النظيف بشكل شاحب، المهذب بشكل يرثى له، البائس على نحو يتعذر شفاؤه"*.

لذا أفضل تعريف في رأيي للكتابة كل يوم، هو أنها التفكير في الكتابة كل يوم، الحياة والتنفس ككاتب، وهذا لا يعني أبداً أن تنتج كلمات يومياً، بل أن تحاول يومياً، وأن تمنح مساحة أوسع للتفكير والتأمل والانتظار خارج الورقة البيضاء، الجلوس يائساً أمام الورقة البيضاء هو جزء من العملية المعقدة التي تدعى الإبداع، والتي تحتاج إلى الاختمار. ما تعنيه الحبسة الإبداعية هو أن ذلك الاختمار لم يتم. عقبة قد تشير ليس إلى خطأ عليه أن يشعرك بالذنب؛ بل إلى أن ثمة شيئاً لم يكتمل، يحتاج إلى مزيد من الوقت.

تأتي الكتابة من اليأس منها، أما كل هذا الأمل الذي تروج له الرواية، فلم ينتج إلا سيل من هراء

تحضرني هنا كلمة الروائية منصورة عز الدين، في تشبيه الكتابة بعملية الزراعة: بذرة صغيرة تراها تنمو يوما بعد يوم، وهي عملية مؤلمة إذا لم تكن تمتلك الصبر، وممتعة بل وتعمل على تحرير الوقت من ضيقه. رحلة كتابة عمل فني هي أن نمتلك فكرة أو جملة، ثم نعمل على تحسينها مرة تلو أخرى ومسودة تلو أخرى.

تأتي الكتابة من اليأس منها، أما كل هذا الأمل الذي تروج له الرواية، فلم ينتج إلا سيل من هراء.

-----------

(*) اقتياسات من رواية بارتلبي النساخ لهيرمن ميلفل

 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard