داخل مسرح صغير يتراص حوله ورش قديمة، ومطاعم شعبية، بأحد أزقة حي عابدين القاهري، كان شباب لا تزيد أعمارهم عن الـ25 ربيعاً يتفاعلون بحماس لافت مع أغاني ملحن ومغنٍّ رحل عن عالمنا قبل 27 عاماً، كلمات أغانيه لا تشبه هذا العصر، يصدح بها رجل على أعتاب العقد السادس من عمره، بصحبة قليل من الآلات الموسيقية غير الزاعقة.
كان هذا المشهد في مسرح الضمة، التابع لمركز المصطبة للموسيقى الشعبية، والمناسبة للتجمع الشهري لمريدي ومحبي الملحن المصري الراحل الشيخ إمام عيسى، الذي اشتهر بشراكته الفنية مع "شاعر تكدير الأمن العام" الراحل أحمد فؤاد نجم خلال عقدي الستينيات والسبعينيات.
هذا الطقس الثابت تتبعه جميعة "محبي الشيخ إمام للفنون والآداب"، التي أسسها الشاعر سيد مهدي عنبة في 2015، وتحمل على عاتقها الحفاظ على تراث أحد رواد الأغنية السياسية العربية.
حضور شباب صغير السن لتلك الحفلات يُعدّ أحد مصادر السعادة الرئيسية لأسرة الملحن الراحل، كون إرثه الفني لا يزال مؤثراً في جيل لم يعاصره ولم يشارك غالبيتهم في ثورة 25 يناير التي أحيت تراث الشيخ وأغانيه النضالية
مسرح الضمة ليس المكان المركزي للتجمع، فالحفلات الشهرية التي يحضرها بين 30 إلى 40 شخصاً، كان يحتضنها مقهى في حارة خوش قدم بحي الغورية الفاطمي، وهو المكان الذي عاش به الشيخ إمام (1918- 1995)، ورافقه نجم، وعادةً ما تحييها فرقة الأولى بلدي، المتخصصة في تقديم أغانيه، وابن أخيه شعبان عيسى.
كان من اللافت تصدُّر شباب في هذه الأعمار الصغيرة للتجمع الشهري الأخير، كونهم ليسوا من الأجيال التي عاصرت فنه، أو الاجيال الأحدث نسبياً، الذين تفاعلوا مع أغانيه المحرضة لفئات العمال والفلاحين وطلبة الجامعات إبان أحداث ثورة 25 يناير وما سبقها من تظاهرات معارضة خلال فترة صعود الحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية"، بل هي أجيال تشكل وعيُها في مرحلة تراجعت فيها الأغاني السياسية لصالح الأغاني الحماسية الرسمية التي تنتجها الدولة وتروّج من خلالها سردياتها المختلفة تماماً عن أغنيات نجم وعيسى. أي أن علاقتهم به، ربما تأتي نتاج انفتاحهم على مكتبته العملاقة على الإنترنت، وما رسمته صورته بالقبعة والنظارة السوداء والعود في مخيلتهم عن فنان ينتمي لزمن آخر.
محمد السباعي، طالب بكلية طب أسنان، على أعتاب العشرين، ينتمي إلى هذه الشريحة التي التحقت بـ"محبي الشيخ إمام" في زمن الركود السياسي والفني. يحرص السباعي الذي كان يرتسم وجهه بابستامة عريضة مع كل أغنية خلال الأمسيات الشهرية، ويتفاعل بشغف كبير مع غالبية الأغاني التي جمعها عبر يوتيوب: "أنا مش بتاع سياسة لكن أحب الفلكور والتراث أكثر من أي أغانٍ أخرى، أميل إلى هذه التيمة، لذا أنا هنا باستمرار مع مريدي الشيخ".
لا ينجذب السباعي لمضمون الأغاني السياسية ورسائلها المباشرة التي عرف بها الفاجومي والشيخ الراحل في حقبتي الستينيات والسبعينيات، بقدر ما ينجذب إلى الطاقة التي لمسها في صوت إمام، فالشاب لا ينخرط في أي ممارسة سياسىة، بحكمِ نموّه في فترة حصار أمني على النشاط السياسي.
هذا الطقس الشهري تتبعه جميعة "محبي الشيخ إمام للفنون والآداب"، التي أسسها الشاعر سيد مهدي عنبة في 2015، وتحمل على عاتقها الحفاظ على تراث أحد رواد الأغنية السياسية العربية
حضور شباب صغير السن لتلك الحفلات يُعدّ أحد مصادر السعادة الرئيسية لأسرة الملحن الراحل، كون إرثه الفني لا يزال مؤثراً في جيل لم يعاصره ولم يشارك غالبيتهم في الثورة التي أحيت تراث الشيخ وأغانيه النضالية، وهو ما يفسره ابن أخيه شعبان عيسي بتعرفهم إلى الشيخ إمام عبر الإنترنت، ووجود صفحات تحمل اسمه تنشر أغانيه باستمرار.
المهمة: الحفاظ على التراث
تأسست الجمعية في 2015 على يد أحد الأصدقاء المقربين من الشيخ إمام، وهو الشاعر سيد مهدي عنبة، احتضنت مقرَّها في البداية نقابةُ الاجتماعيين، قبل أن تتحول بدءاً من آذار/مارس 2021 لتستقر في موضع آخر بمنطقة وسط البلد، وخلال هذه السنوات قدمت الجمعية الكثير من الحفلات التي تستعيد تراثه الموسيقي والغنائي.
مقر الجمعية بمثابة متحف لمقتنيات الشيخ، فهو يضم أعواده الشهيرة التي قدم من خلالها ألحانه، ومتعلقاته الشخصية كالبدل والقمصان وقبعات رأسه التي اشتهر بارتدائها، وكذا جوازات سفره وبطاقته الشخصية، والأوسمة التي حصل عليها خلال مسيرته الفنية.
يقول محمود عزت، الأمين العام لجمعية محبي الشيخ إمام للفنون والآداب، إن أنشطتهم ليست قاصرة على تنظيم حفلات وأمسيات شهرية، بل يمتدّ دورها لتدوين ألحان الملحن والمطرب الراحل، من خلال حفظ النوتات الموسيقية والطقاطيق للحفاظ على تراثه.
ويوضح عزت أن الجمعية تستهدف إقامةَ مسرح صغير يحمل اسم الشيخ إمام بمنطقة وسط البلد، لإقامة الحفلات الشهرية. وإلى جانب المسرح، تضع الجمعية ضمن خططها إنشاء مدرسة لتعليم الموسيقى والعزف على العود، من بين أنشطتها دراسة الأغاني الخاصة بالشيخ.، حسبما وضح لرصيف22.
في هذا السياق، يثمن الوريث شعبان عيسى، الذي يعمل مؤذناً في أحد مساجد قرية أبو النمرس التابعة لمحافظة الجيزة، مسقط رأس الشيخ، دور الجمعية في الحفاظ على تراث عمِّه، سواءً بوجود مقرّ دائم، أو تنظيم شباب متطوعين للحفلات، ويقول: "سابقاً، كانوا يقيمون التجمع الشهري في مقهى بشارع خوش قدم في الغورية، والآن انتقلوا إلى مسارح صغيرة في وسط القاهرة، مثل مسرح الضمة، ما يتيح اجتذاب جمهور أوسع لتراث الشيخ إمام".
من الشام إلى تونس
إلى جانب جمعية القاهرة، تنشط روابط أخرى في تونس ولبنان تهتم بتراث الشيخ إمام وإحيائه، وتضم تونس تحديداً نادي أحباء الشيخ إمام، لإحياء تراث رائد "موسيقي الرأي"، وهو ما يترجم الحضور القوي لإمام خارج نطاق بلده، إذ زار تونس 4 مرات، أحيا خلالها حفلات قصدها كثيرون من محبيه.
يعبر عيسى عن اعتزازه بشعبيةِ عمِّه، فيقول إن الشيخ إمام يتمتع بشعبية كبيرة في تونس بطريقة تفوق شعبيته وتقديره في مصر: "شعبية إمام بشعبية الحبيب بورقيبة في تونس. يوجد نادٍ لمحبي الشيخ يقيم حفلات شهرية يحضرها أعداد كبيرة".
برأي شعبان عيسى، لن يحصل عمُّه على حقّه من الدولة ممثلةً في وزارة الثقافة، على عكس رفيقه الشاعر نجم الذي "حصل على حقه نوعاً، رغم أنهما رفيقا الرحلة، وصنعا حالةً فنيةً لم تتكرر"، عازياً ذلك إلى أن الشيخ توفي قبل اندلاع ثورة 25 يناير التي شارك فيها نجم وحققت مقابلاته التلفزيونية وقتها انتشاراً كبيراً.
غير أن محمود عزت، أمين الجمعية، يرى أن الشيخ حصل على التقدير الرسمي من الدولة فله شارع يحمل اسمه بجوار شارع آخر للشاعر أحمد فؤاد نجم بمنطقة المقطم، وهذا نوع من التقدير لرصيدهما الثري في الأغنية الوطنية.
برأي عزت، الثورة أعادت تقديم الشيخ إمام من جديد وساهمت في وصول صوته لأجيال جديدة من خلال بثّ منصات ميادين الثورة -لاسيما ميدان التحرير- أغانيه السياسية، والحفلات الفنية التي رافقت أنشطة القوى السياسية الشبابية، قدمتها فرق الأولى بلدي وإسكندريلا، كما أتاحت شبكةُ الإنترنت الفرصةَ لكثيرين للاطلاع على إنتاجه الفني الضخم.
كُتب عن الشيخ إمام
يحوى مقرّ الجمعية مكتبة خاصة تضمّ الكتب التي صدرت عن الشيخ إمام، من بينها "الشيخ إمام الإنسان والفنان" لمؤسس الجمعية سيد مهدي عنبة، و"الشيخ إمام في عصور الثورة" للناقد السينمائي أمير العمري، و"مذكرات الشيخ إمام"، وهي كتب سردت تفاصيل حياته وقصة صعوده الفني وعلاقته بالفاجومي، خصوصاً أن قسماً من كاتبيها ربطتهم علاقة قوية بالمغني الراحل.
الشاعر سيد مهدي عنبة، أحد الذين رافقوا الراحل الشيخ إمام في أعوامه الأخيرة، وهو مؤسس الجمعية، أنتج وحده 3 كتب عن سيرة الملحن الثوري ورفيق دربه ومسيرته الفنية أحمد فؤاد نجم، هي "الشيخ إمام الإنسان والفنان"، و"حكاية الشيخ إمام"، و" الشيخ إمام ونجم... عشاق بهية"، تضمنت حوارات أجراها إمام مع مؤلف الكتاب، وأخرى لمحاورين آخرين، إلى جانب شهادات من الوسط الثقافي عن رحلته في عالم الموسيقي.
رغم ارتباط صوته بالقضايا السياسية الكبرى وهموم الطبقات الدنيا، يرفض عنبة حصر التجربة الفنية للشيخ إمام عيسى في الهجاء السياسي، حيث بدأت العلاقة بين إمام والفاجومي التي أفرزت أكثر من 150 أغنية قبل منتصف الستينيات بأغانٍ عاطفية هي: "أنا أتوب عن حبك أنا"، وانتقلا بسلاسة إلى الاجتماعية، واكتسبت أغانيهما طابعاً ثورياً نضالياً بعد نكسة 1967، فكانت تمثل دفتر أحوال الوطن من الناحية السياسية والاجتماعية بمواكبتها لجميع الأحداث.
كانت نكسة 67 مرحلة مفصلية في مسيرة إمام، كما يقول عنبة، فقبْلَها لم يكن يعرف إمام طريق المعتقلات، كونه لم يكن محسوباً على المعسكر اليساري قبل هذا التاريخ، إلى أن بدأ الثنائي مشواراً "مالوهش راجع" فخرجت "الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا/ يا محلى رجعة ظباطنا من خط النار/ يا أرض مصر المحمية بالحرامية/ الفول كتير والطعمية والبر عمار"، تجاوبا مع المظاهرات الطلابية العارمة التى اجتاحت البلاد حينذاك.
بين سجن القلعة وخوش قدم
وفقاً لعنبة، فإن الثنائي شكّلا صدىً للحياة اليومية في مصر الستينيات والسبعينيات بكل همومها وأحلامها، كما تقاسما المعاناةَ والصعلكة والنضال، وجمعهمها المسكنُ في خوش قدم بحيّ الغورية الفاطمي، وكذلك جمعهما المعتقل في عهدي عبد الناصر والسادات، وكانا من علامات الستينيات التي مثلت مرحلة ازدهار حقيقية للثقافة المصرية بشكل عام، رغم القمع الناصري للمثقفين اليساريين.
يبين عنبة أن إمام عيسى غنّى ولحن لجميع الشعراء، فهو أنتج نحو 300 لحن، نصفهم على الأقل من تأليف نجم، والبقية لشعراء كُثر من بينهم فؤاد حداد، ونجيب سرور، وسيد حجاب، وعبد الرحمن الأبنودي وبيرم التونسي، لافتاً إلى أنه نجح منذ تأسيسه جمعية محبي الشيخ إمام في تدوين 35 أغنية وردت في كتابه "الشيخ إمام الإنسان والفنان".
أغانٍ تحت الحصار
رغم الانتشار اللافت لأغاني الشيخ إمام على منصة يوتيوب وحسابات مريديه على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن أغانيه مازالت تواجه تضييقاً على المستوى الرسمي، باعتبارها محسوبة على "المعارضة الفنية".
سيد عنبة صاحب نصيب الأسد من المؤلفات التي رصدت حياة الشيخ إمام، قطع مشواراً طويلاً لانتزاع موافقة هيئة قصور الثقافة الحكومية على نشر "الشيخ إمام الإنسان والفنان"، كما وجدت الأغاني التي سلّمها للإذاعة صعوبةً في بثها رغم أنها لا تحمل مضامين سياسية كبقية أغانيه: "رصدت خوفاً من إذاعتها لارتباط اسمه بالمعارضة والغناء التحريضي، حتى لو لم يكن هناك تعليمات بالمنع"، ويحدث ذلك رغم قناعة من عنبة بأن "زمن التعتيم انتهى في ظلّ وصول التكنولوجيا للجميع".
لن يتوقف سيد عنبة، أحد رفقاء الأيام الأخيرة للشيخ إمام، عن توثيق مسيرة صديقه والحفاظ على تراثه، إذ يستعد لإصدار كتاب رابع يحمل اسم "عشاق بهية"، هو خلاصة للكتب الثلاثة الأخرى، يسعى من خلاله تسليط الضوء على إبداعات الثنائي نجم وإمام خارج تجربة السجن والهجاء والنقد السياسي.
الشيخ إمام عيسى رحل في 1995، فيما فارق رفيق رحلته أحمد فؤاد نجم في 2013، تاركين خلفهما إرثاً فنياً ضخماً توقف في مطلع الثمانينيات بعد انفصالهما فنياً، حيث كان آخر أعمالهما المشتركة "أهيم شوقاً" في عام 1981.
يعزو عنبة هذا الانفصال الفني، لأسباب سياسية وأخرى شخصية، فالمناخ العام لم يكن يسمح باستمرار عملِهما الفني، خصوصاً مع حالة الانفتاح الاقتصادي التي بدأها الرئيس الأسبق أنور السادات وأكملها حسني مبارك، وتغيرت معها تركيبة المجتمع، وهي الفترة التي شهدت تكرار زياراتهما لبلدان أوروبية وعربية، إلى جانب أفولِ نجمِ التيار اليساري الذي احتوى ذروة نشاطهما الفني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين