أصدرت مؤخراً دار خان الجنوب في برلين، متتالية "احلمي يا سيدي" القصصية والتي كتبتها الكاتبة الفلسطينية النسوية من بيروت سارة أبو غزال، عن فلسطينيي لبنان، تعتمد فيها على التاريخ الشفوي وتدخل في تفاصيل الحياة اليومية لمخيم شاتيلا الفلسطيني في بيروت، لتعيد مكاناً منسياً إلى الواجهة وتأخذنا إلى أحياء وشوارع مدينة ما زلنا نتجاهل ونتغاضى عن تجارب كثيرة تدور بين أطرافها المهمشة.
ففي متتاليتها القصصية "احلمي يا سيدي"، تسرد سارة أبو غزال قصة أفراد عائلة أبو سكر الفلسطينية الساكنين في مخيم شاتيلا وعلى تخومه في منطقة "الطريق الجديدة"، وتَتّبع رؤيتهم المختلفة للماضي والحاضر والمستقبل. تعلل الكاتبة في حوار أجرته معها الصحافية الفلسطينية رشا حلوة، بمناسبة إطلاق الكتاب، اختيارها للشكل الأدبي كمتتالية قصصية بأنها رواية مفككة تشبه السياق الفلسطيني في بيروت، الذي هو على علاقة وثيقة مع الماضي والمستقبل، إذ إنّ شكل النص وعدم تقفّيه لسياق زمني متتالٍ، يشبهان العائلة وتخبطاتها ويسمحان للقراء باختيار من أين تبدأ القصة.
في متتاليتها القصصية "احلمي يا سيدي"، تسرد سارة أبو غزال قصة أفراد عائلة أبو سكر الفلسطينية الساكنين في مخيم شاتيلا وعلى تخومه في منطقة "الطريق الجديدة"، وتَتّبع رؤيتهم المختلفة للماضي والحاضر والمستقبل
تشابك الحاضر والماضي في سيرة المخيم
ولعلْ أكثر ما يلفت في هذه المتتالية هو ربطها الحاضر بالماضي، وإظهارها إلى أي مدى عالم المخيم ما زال مربوطاً بطريقة وثيقة بالماضي والنكبة، وذلك ليس بسبب إسرائيل أو النكبة فقط، بل بسبب العيش في المخيم حيث يبدو الزمن وكأنه متوقف عند لحظة النكبة. ونرى ذلك من خلال وصف سارة أبو غزال الدقيق والحميم لتفاصيل ما عاشته العائلة (المؤلفة حينها من الجد محمد عبد الوهاب والجدة زهرة وابنهما زين العابدين)، خلال النكبة. سرد لا يظهر بالضرورة بطولات الأشخاص، لكن يلمس مشكلاتهم الشخصية العادية كشجار وعتاب زهرة لزوجها محمد عبد الوهاب يوم هُجّروا، رابطةً بذلك التاريخ بالأفراد وخصوصياتهم. وتُرجع الكاتبة هذا الإحساس المستمر كشعب بالانتماء إلى تلك اللحظة، ولو بعد ثلاثة أجيال، بكونها لحظةً حاسمةً سَلبت منهم خيارات مسبقةً إلى يومنا هذا، ومن هنا عودتهم المستمرة إليها. وإن كانت العودة الفعلية اليوم مستحيلةً، تختبر الكاتبة حيلاً جديدةً، كالخيال السردي واستعمال اللهجات المحلية الفلسطينية في الكتابة، التي تمثل وسيلة لها لعبور الحدود والعودة إلى ذلك المكان والزمان.
وإن كانت العودة الفعلية اليوم مستحيلةً، تختبر الكاتبة حيلاً جديدةً، كالخيال السردي واستعمال اللهجات المحلية الفلسطينية في الكتابة، التي تمثل وسيلة لها لعبور الحدود والعودة إلى ذلك المكان والزمان
كما تظهر الكاتبة أهمية المخيم، بجماله وقبحه، والانتماء إليه كمكان أساسي بسردية فلسطينيي لبنان وجزء من خصوصيتهم. إذ إنّ أيّ خروج للعمل أو للسكن خارج المخيم، لا يسهّل واقع اللجوء والوجود في لبنان، لا بل يخلق شرخاً أكبر. فأولاد زين العابدين مثلاً الذين هم من أم لبنانية وسكنوا على أطراف المخيم، لكن خارجه، لم يجدوا لهم مكاناً لا في المخيم ولا في المدينة، ممّا ولّد لديهم غربةً مزدوجةً، لا بل ثلاثية؛ غربة عن فلسطين في الأساس، وأيضاً غربة عن المخيم وعن بيروت، مما يعزّز الرغبة الدائمة في المغادرة والعودة إلى الماضي في ظل صعوبة بناء مستقبل "طبيعي" في المدينة. كما يكرّس الرغبة في العودة إلى فلسطين، إلى المكان والنقطة الأصل، إلى لحظة النكبة، وإعادة سردها من وجهة نظر الجيل الثالث في لبنان الذي لم يختبرها، لكن ورث تفاصيلها وندوبها، ومن هنا حاجته إلى استعادتها والتكلم عنها رغبةً في فهمها والتصالح مع هذا الماضي، خصوصاً أنّ لحظة النكبة كانت وما زالت النقطة الأساس التي تجمع فلسطينيي المخيم مع بقية الفلسطينيين من خارج لينان، ومع من بقوا في فلسطين، وتوطد بذلك شعوراً جماعياً يتخطى حدود المكان والزمان الحاليين.
إن تعامل سارة أبو غزال مع الذاكرة بالخاص وليس بالعام، عبر التفاصيل والسخرية أحياناً، وعبر "أنسنة القصة"، كما تقول، أضاف الكثير إلى هذه السردية، إذ أدخلنا في حميمية حياة الأفراد وتجاربهم وتهكّمهم بعيداً عن الخطابات المهيمنة والبطولات الوهمية
محورية الذاكرة في سرديات المدينة المهمشة
لذا، عملية التذكر محورية في هذه المتتالية، وتبقى أساسيةً لكل من أفراد العائلة بغض النظر عن تجاربهم ومواقفهم وأعمارهم. فالأولاد "نضال وياسر"، تكتب سارة أبو غزال، "يحملان الغضب، وسهير وسميرة تحملان الخوف، وأنت تحملين الألم، ولكنه سيشفيك وسيشفي الآخرين معك. تمضين حياتك في التخلص من كل هذه الغربة، لكنها لن تفارقك، لأن كل ما فيك يتوق إلى العودة... نجمة متعبة في السماء لأنك ذاكرتها وأنت تستسلمين {…} تذكّري لتحيي يا سلوى" (ص 103). وبالرغم من أنّ التذكّر وهاجس النسيان موضوعان حاضران في السردية الفلسطينية التقليدية، إلّا أنّ تعامل سارة أبو غزال مع الذاكرة بالخاص وليس بالعام، عبر التفاصيل والسخرية أحياناً، وعبر "أنسنة القصة"، كما تقول، أضاف الكثير إلى هذه السردية، إذ أدخلنا في حميمية حياة الأفراد وتجاربهم وتهكّمهم بعيداً عن الخطابات المهيمنة والبطولات الوهمية. وإلى جانب أهمية موضوع الذاكرة ومخزونها التاريخي والشعبي في السياق الفلسطيني، إلّا أنّ قراءتها في السياق اللبناني في ظل الخطاب الإقصائي المستمر تجاه "الغرباء" واللاجئين في لبنان، يضيف بعداً آخر للرواية يربطها ببيروت وتاريخها وحاضرها.
على الرغم من وجود الفلسطينيين في لبنان منذ أكثر من سبعين سنةً، إلا أن عزلهم عن بقية المجتمع لم ينكسر إلى يومنا هذا، وتحديداً من أكثر الأوساط التي تنادي بتحرير فلسطين
فعلى الرغم من وجود الفلسطينيين في لبنان منذ أكثر من سبعين سنةً، إلا أن عزلهم عن بقية المجتمع لم ينكسر إلى يومنا هذا، وتحديداً من أكثر الأوساط التي تنادي بتحرير فلسطين. ويبان ذلك بوضوح عبر الشخصيات اللبنانية التي تتعاطى مع مختلف أفراد العائلة، إن كان أصحاب الابن نضال، وهم من روّاد شارع الحمرا لكن يظهرون كأشخاص يأتون من كوكب آخر بالرغم من تعاطفهم مع فلسطين، فنضال هو الذي يدخل عالمهم، ولا أحد منهم يزور المخيم وبيته، أو صديق الوالد اليساري السابق والسمسار الحالي الذي ينتهي كعديدين بتبنّي خطاب يحمّل مسؤولية الحرب الأهلية اللبنانية للفلسطينيين.
تفاصيل الحياة اليومية في المخيم والتهميش وإحساس اللجوء المستمر غائبة عن الخطاب الداخلي اللبناني أو الخطاب اللبناني حول فلسطين.
فتفاصيل الحياة اليومية في المخيم والتهميش واحساس اللجوء المستمر غائبة عن الخطاب الداخلي اللبناني أو الخطاب اللبناني حول فلسطين. المخيمات موجودة، لكن الغالبية لا تدخلها ولا تعرف تفاصيل يومياتها، وغالباً ما يتم التكلم عن الفلسطينيين وعن فلسطين من دون أن تُسمع الأصوات الآتية من هناك، من ذلك المكان القريب البعيد. من هنا أهمية الأدب في تعزيز السرديات الخاصة والتجارب الفردية والجماعية في المدن عبر الاستماع إلى أصوات المهمشين، كأصوات عائلة أبو سكر، وتتبّع قصصهم وأخبارهم وعلاقتهم بالمدينة وأحيائها. فكما تقول سارة أبو غزال، بيروت هي أيضاً مدينة للفلسطينيين لكن تجربتهم فيها مختلفة وسرديتهم تضيف نظرةً أخرى عن المدينة وقاطنيها وتخبطاتها وذاكرتها والتجارب المعيشة فيها.
التاريخ الشفهي والعائلي كوسيلة لكسر السرديات المهيمنة
وتذهب سارة أبو غزال أبعد من نقد الواقع الفلسطيني واليسار اللبناني عبر تقديمها بديلاً للسردية التقليدية عن الوجود الفلسطيني في بيروت المرتبطة بالمقاومة والفدائيين. فهي تركّز على تفاصيل الحياة اليومية والأشخاص وتحديداً نساء المخيم واصفةً مشاكلهنّ وأحلامهنّ وأحزانهنّ ودورهنّ المحوري في عملية التذكر.
من هنا قوة النص، وهي في العودة إلى سرديات العائلات والأفراد والنساء والتاريخ الشفهي والخيال لإعادة كتابة الماضي والحاضر وخلق خطاب سياسي بديل لمواجهة الخطاب الرسمي واستعادة ما سُلب من الناس بحجة مركزية المقاومة والنضال والقضية وأولويتها
ومن هنا أهمية سردها النسوي الذي يعيد الصوت إلى الناس العاديين والنساء بشكل خاص ويعزّز تجاربهنّ، من دون بطولات وأيقنة للشخصيات، فالكتاب يظهر شعوراً بالخذلان من كافة الأطراف ومن ضمنهم طبعاً الطرف الفلسطيني الداخلي للمخيم، لكن أيضاً من العائلات وعدم تفهمها لبعضها البعض، والخذلان بين الزوج والزوجة، وبين الأجيال، والصراعات على الرغبات الجنسية. وكأن الحل الوحيد في نظر سارة أبو غزال، لكل هذا الألم والغربة، هو التذكر والتكلم عن سرديات الأشخاص، باستعادة الكلام من الأسفل، من عند الناس، من تفاصيل معاناتهم، ومن أخطائهم وتخبّطاتهم، ومن رؤيتهم للماضي والحاضر والمستقبل. من هنا قوة النص، وهي في العودة إلى سرديات العائلات والأفراد والنساء والتاريخ الشفهي والخيال لإعادة كتابة الماضي والحاضر وخلق خطاب سياسي بديل لمواجهة الخطاب الرسمي واستعادة ما سُلب من الناس بحجة مركزية المقاومة والنضال والقضية وأولويتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...