جهة تنفي وجهة تصمت وأخرى تقول: "لا أعلم".
هذه العبارة تلخص فلسفة الدولة في مصر كلما أرادت تمرير قرار أو تصرف يثير غضب الرأي العام، وهو ما يحدث الآن بعد وضع عبارة (إزالة) على قبر عميد الأدب العربي طه حسين في منطقة الخليفة التراثية بقلب القاهرة، فيما وصلت دعاوى التصعيد إلى حد التهديد بنقل رفاته إلى باريس.
عدة أسابيع هي الفاصل الزمني بين وضع علامة "X" باللون الأحمر على واجهة مقبرة طه حسين أبرز شخصية فكرية وثقافية مصرية وربما عربية في القرن العشرين، وكتابة كلمة (إزالة) لتأكيد الخبر الذي رفضه الكثيرون في مايو الماضي، وقتها خرجت حفيدته المقيمة في الخارج مها عون وأكدت رفض الأسرة لقرار الهدم والنقل.
لا نفي ولا تأكيد
وقد صرّحت مصادر في محافظة القاهرة بأنها لا تمتلك أية مخاطبات رسمية حول هذا الموضوع، ليرتاح بال البعض مؤقتاً كون المحافظة التي تجري فيها الأزمة نفت علمها، خصوصاً وأن جهاز التنسيق الحضاري المسؤول عن تجميل وجه القاهرة أيضاً لم يُخاطب رسمياً.
اسم المحور الجديد كان مدخلاً لرصد تناقضات متكررة يعيشها المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، فرزق هو صحفي مصري بارز كان من عرّابي تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي حكم مصر
لكن من قال إن الجهاز والمحافظة التي تمثل العاصمة هما المسؤولان عن الأمر، هنالك جهة ثالثة هي من تنفذ مشروعات الطرق الجديدة ومن بينها "محور ياسر رزق" الذي سيربط بين مناطق المقطم ووسط البلد مروراً بصلاح سالم ما يتطلب هدم العديد من مقابر الخليفة وأشهرها تلك المدفون فيها طه حسين (1889 – 1973).
اسم المحور الجديد كان مدخلاً لرصد تناقضات متكررة يعيشها المجتمع المصري في السنوات الأخيرة، فرزق هو صحفي مصري بارز كان من عرّابي تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي حكم مصر، توفى رزق في كانون ثاني/ يناير من العام الجاري لتنطلق نكتة تستبدل المثل الشعبي الشهير "الحي أبقى من الميت"، بأن "الميت الأحدث أبقى من الميت القديم".
رسالة مزودجة إذن من النظام القائم بأن تقدير أسماء من دعموه حديثاً هو الأهم، وليس من خدموا الوطنية المصرية بشكل عام، هذا وجه، أما الوجه الآخر للرسالة فهو أن الأديب والمفكر الذي نادى بعدم قداسة أي فكرة وطرح كل التراث للتحقيق وإعادة النظر، صار قبره بدوره غير مقدس، لكن ما لم يراعيه القائمون على المشروع هو أن هناك أطرافاً عدة تطلب النقاش أولاً، وتريد التفكير في حلول، والاطمئنان إلى أن الإزالة لا بديل عنها، بدلاً من تغليب مبدأ "الجسور كالماء والهواء" على حساب صاحب مبدأ "التعليم كالماء والهواء" .
فضيحة دولية
تبعات عديدة جرت منذ الإعلان الأول عن احتمالية هدم المقبرة ونقل الرفات، وصلت إلى ذروتها قبل يومين عندما تأكدَ قرار الإزالة، وبرغم أن العائلة تصر على أن أحداً لم يخاطبها، إلا أن الكاتب المصري المحسوب على المعارضة عمار علي حسن قال نقلاً عن وزيرة الثقافة السابقة إيناس عبد الدايم إن نيّة حفيدة طه حسين تتجه نحو نقل الرّفات إلى باريس، وقد وصفت عبد الدايم الأمر لو جرى بـ"الفضيحة الدولية".
الوجه الآخر للرسالة هو أن الأديب والمفكر الذي نادى بعدم قداسة أي فكرة وطرح كل التراث للتحقيق وإعادة النظر، صار قبره بدوره غير مقدس
خبيرة الآثار مونيكا حنا تقول إن الأزمة ليست في طه حسين فقط بل في كون مقابر تلك المنطقة كلها تصنف ضمن التراث وأن اليونسكو نفسها دخلت على الخط، فهي تعود للقرن التاسع عشر ومعمارها يتطلب الحفاظ عليه، وليس طه حسين وحده المدفون في المقبرة المذكورة، فإلى جواره يرقد زوج ابنته محمد حسن الزيات وزير الخارجية المصري الأسبق.
كل ما سبق لم تستمع له حتى الآن الجهة المسؤولة، فلا هي تكلمت ولا هي دافعت أو نفت، والهدف كالعادة هو كسب الوقت حتى إقرار الأمر الواقع، وهو ما تكرر بالمناسبة مع مقابر أخرى عديدة في المنطقة ذاتها، لم تصمد أمام الطرق الجديدة رغم حملات المناشدة.
غير أن الجديد هو التهديد بنقل رفات طه حسين إلى عاصمة النور التي عاد منها لينقل نور الحضارة الأوروبية لبلده الأم ولجامعة القاهرة ومنها إلى وزارة المعارف.
الهدف كالعادة هو كسب الوقت حتى إقرار الأمر الواقع، وهو ما تكرر بالمناسبة مع مقابر أخرى عديدة في المنطقة ذاتها، لم تصمد أمام الطرق الجديدة رغم حملات المناشدة.
على خط موازٍ طُرحت أفكار أخرى، البعض قال إن صاحب "مستقبل الثقافة في مصر" لو كان على قيد الحياة لما رفض قراراً شبيهاً لأنه كان ينظر دائماً إلى المستقبل، فيما طالب آخرون بنقل المقبرة إلى مكان قريب من موقعها الحالي وبنفس شكلها، بمعنى عملية إزاحة تجعل "محور ياسر رزق" يمر دون إبعاد "رفات طه حسين" إلى منطقة 15 مايو أقصى جنوب القاهرة، فبحسب تصريحات من جهات أخرى هذا هو المكان البديل للمقبرة، فيما طالبت فئة ثالثة بنقل رفاته إلى متحفه بمنطقة الهرم لعل ذلك يعيد الروح للمتحف الذي نادراً ما تحتفي به وسائل الإعلام، حاله في هذا حال بقية متاحف الشخصيات البارزة في تاريخ مصر.
محاكمة لفكر الـ"جمهورية الجديدة"
في سياق آخر، تكلم البعض عن أن نقل المقابر أمر متعارف عليه ومتكرر ولا قدسية لراحل، لكنهم فسّروا الرفض التام بأنه رفض لخطط تطوير يتبناها نظام اعتاد عدم الحوار والدخول في مرحلة التنفيذ دون نقاش، ما أدى إلى تغيّر واضح في شكل العاصمة المصرية، فتم قطع مئات الأشجار، وتفريغ وسط القاهرة من صخبها الدائم وأضوائها التي لم تكن تنطفئ، وصولاً إلى هدم المقابر ونقل الرفات، فلا شئ يقف أمام رغبة عارمة في التطوير المعتمد فقط على الطرق والجسور وبينهما محطات الوقود، وصولاً إلى إطلاق أسماء فنانين ورياضيين وصحفيين على تلك المنشآت لا على مسارح ومكتبات.
نقلاً عن وزيرة الثقافة السابقة إيناس عبد الدايم فإن نيّة حفيدة طه حسين تتجه نحو نقل الرّفات إلى باريس
رفات طه حسين نقل القضية إلى محاكمة للفكر الذي تقوم عليه "الجمهورية الجديدة"، محاكمة تعيدنا عقوداً إلى الوراء إلى جلسة رواها د. أبو المعاطي أبو النجا حين قام بفصل الصحافي محمود عوض من وظيفته لعدم التزامه بمواعيد تسليم الموضوعات، حينها غضب حسين وانتصر لعوض، كونه لا يرى أن الكاتب موظفٌ بأي شكل، وقد علّق على الأمر برمته بقوله: "إنك تعتقد أن منطق المكسب والخسارة هو منتهى ما يصل إليه النجاح، وأنا أوكد لك أن في الحياة من المُثل العليا ما يعلوا كثيراً على هذا المنطق" .
على نفس النهج، يعتنق القائمون على المشروع "منطلق المكسب والخسارة" فيما يرفع الرافضون لهدم المقبرة "منطق المثل العليا"، ولم نعد بحاجة للانتظار لنعرف من سينتصر، فالتاريخ يكتبه من يضع أولاً كلمة "إزالة" باللون الأحمر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...