لا أحب الكوبري الذي يبعد عن بيتي نحو 400 متر، ويمد جذوره حيث كانت تجري ترعة قديمة تسمى "ترعة الزمر"، التي لم أكن أحبها أيضاً؛ بسبب ذاكرة تتعلق بمحاولة ابتزاز وحيدة تعرضت لها وأنا طفلة، حين أوقف الصبي المعدية (وسيلة نقل)، في منتصف الطريق، وبسبب رائحتها الكريهة العالقة في ذهني حتى الآن. لا أتذكر إذا كنت قد سعدت لهدم تلك الترعة، أم لا. الأرجح أني فعلت، فشعور أن تتمهد الأرض، وتصل بين شقين، مغرٍ دائماً، على نحوٍ يتجاوز الاطمئنان إلى المألوف، وكره التغيرات.
الآن، وعلى خلاف ذلك، ينتابني شعور مزعج نحو الكوبري الجديد، وهو يحمل اسم الترعة نفسها؛ "محور ترعة الزمر" (جنوب القاهرة). أثار وجوده من قَبل ضجةً، حين جاور، على امتداده، شرفات منازل، وكشف عورات أسر كثيرة. لكن ما يزعجني، أبسط من ذلك. فمنذ بداية العمل فيه في آب/ أغسطس 2019، وحتى اكتماله، وعلى الرغم من سعادتي برؤيته صرحاً شامخاً في منطقتي، ما زال يذكرني بالهامش، حيث أقبع، بل نقبع جميعاً.
الهامش يحمل الكثير من التفاصيل، في أي بحث، أو كتاب يوثق الأحداث، ويردها إلى أصحابها، ويحمل توضيحات. لكن ولظن من يكتب أنه أقل أهمية من المتن ذاته، أو كي لا يأخذ مساحة أكثر من اللازم، يدوّن بخط صغير هامشي، وبإهمال، ومن دون اعتناء، وعادة ما يلبي القارئ رغبة كاتبه، ويتجاهله.
كيف أمثُل أنا، ومن حولي هامش ذلك الكوبري الفخم؟ بدايةً، باتت لكل منا ذاكرة توثيقية تحمل عناء العامين اللذين سنحياهما في حضرة ذلك التدشين. اختبرنا طرقاً جديدة مرغمين، وعشنا شعور أن تتحول منطقة شعبية هامشية تُسمى "العمرانية" (في محافظة الجيزة جنوب العاصمة)، إلى تكدسٍ ينافس، بشراسة، ميدان رمسيس (وسط العاصمة)، وقت الذروة. تأخر كل منا على عمله، أو محاضرته، وغيّر جدول تحركاته. بات يحسب هم الطريق الذي، وإن لم يكن يتخطى الخمس دقائق، باستقلال وسيلة نقل، أو 15 دقيقة سيراً، ووصولاً إلى المترو، فهو يستهلك أضعاف ذلك الوقت. هذه كلفات طبيعية ومنطقية، وثمن يجب أن تدفعه الجماهير، من دون تأفف، أو امتعاض، كأي كلفة بسيطة يتحملها أي شخص يريد أن يجري تعديلات في شقته، وليس في بلده، لكي تصبح "الجمهورية الجديدة". ربما ما سيقوله المدافعون صحيح؛ فعلاً، كل تجديد يسبقه عرق، وتعب، وتكلفة يجب أن تُدفع. لكن لماذا لا يرهق المسؤولون أنفسهم، في المقابل، لتهذيب تلك التكلفة التي لن تُعلن يوماً، ولن يُعترف لها بفضل، ولو قليلاً؟
حين قررت أن أزور تلك "المعدية"، كما يسميها أبناء المنطقة، لمست مباشرة ذلك النسيج البشري المتنوع، وهو مغلف بالقلق والرهبة، وكأن مكوناته تعبر الصراط، وأسفلها تماماً النار
كان سيكون الوضع أفضل، لو خطط المخططون لتدشين كوبري المشاة، الذي رُصّت درجاته وحيدة في الهواء، شهوراً، كمرحلة أولى في ذلك الكوبري، أو ثانية، أو ثالثة حتى، فيما يتجرع أهالي الحي المكتظ، المعاناة، كل يوم؛ مرة يعبرون من فوق حطام وصخور، إلى جانب معدات ضخمة تحفر وتثور، ومرة تتسع الاضطرابات محدثة فجوة في الأرض، لا يمكن أن تعبرها ما لم تستخدم مهاراتك في القفز، إن وُجدت.
وحين اكتمل الكوبري، ترقّى العابرون، ووُضع لهم لوح مائل، ليحل محل السلالم، يحمل أضعاف خطورتها. ضُربت فيه درجات وهمية بشكل أفقي، هي في الأساس ألواح أصغر حجماً، تُخرج المسامير رؤوسها من كل جهة منها، فيما تسعى أقدام المارة من كهول، وأطفال، ومرضى، وحوامل، ومراهقين، جاهدةً، للفرار منها. يرتفع اللوح عن الأرض مترين، أو أكثر، وغالباً هو نتاج فكر عامل، أو اثنين تصرفا على عجل كي يمر الناس، فهو على نحوٍ من البدائية، والخطورة، بحيث لا ينم عن أن مهندساً، أو مسؤولاً، مر من أمامه، واختبر شعور عبوره.
عادة ما أتجنب ذلك العبور. استقلال أي وسيلة، وإن كانت أكثر كلفة، ستضمن أن قدمك لن تُكسر، أو أن توازنك لن يخونك، واضعاً احتمالات تشابكك بأسياخ حديدية من عضد الكوبري تنغرس في قدمك، أو جسدك، إذا ما سقطت.
في البداية، كان ما يربطني بذلك "السلم" حكايات بعيدة، ترويها مرة قريبتي المراهقة عن فلاحة عجوزة تحمل فوق رأسها سرّةً تحوي ما تبيعه في أحد أسواق الحي، وكيف أشفقت عليها هي وزميلاتها، فأخذن عنها الحمل، ثم أخذن بيدها كي تعبر. تقول بتأثر شديد: السيدة عجوز جداً، لا تقوى على المشي، فما بالكم بالحمل والعبور. ومرة تخبرني صديقة شابة تعاني من خشونة في الركبة، أنها تقلل من مغادرتها المنزل، أو تضطر إلى تغيير الطريق، متكلفة عناء مشي مسافات أطول، كي لا تخاطر في ذلك العبور. حين قررت أن أزور تلك "المعدية"، كما يسميها أبناء المنطقة، لمست مباشرة ذلك النسيج البشري المتنوع، وهو مغلف بالقلق والرهبة، وكأن مكوناته تعبر الصراط، وأسفلها تماماً النار.
الروايات الدينية تتحدث عن امتنان كبير للمؤمن، حين يعبر الصراط المستقيم. وهناك أيضاً ترى بوضوحٍ، امتنان العابرين. كما أن التعاضد حاضر دائماً في حضرة ذلك الكوبري، والأهالي لا بد أن يتعاونوا، ويبتكروا طرقاً جديدة، ويقفوا مادين يد العون لبعضهم البعض، كي يعبروا بسلام، الألواح، والرهبة، والخوف.
حتى ذلك الحين، سأظل أفكر في هؤلاء الذين دفعوا ثمناً كبيراً، ومقلقاً، بالعشوائية، إذ تمتد وتتأصل بمن لن يملكوا سيارة يوماً، ولا يملكون حتى كلفة استقلال "توكتوك" يكفيهم مرور السلّم الخشبي الوهمي، وبالذين لن يأتي ذكرهم في خطاب تباهٍ بتدشين الكوبري، وإتمام عمله
سألت مهندساً معمارياً عمل في العاصمة الإدارية، ويقطن في نطاق عمل الكوبري: هل ثمة ضرورة إنشائية لإهمال كوبري المشاة، وإرجائه حتى اكتمال المشروع؟ فرد سريعاً: على العكس تماماً، كان يجب التخطيط له، وتنفيذه، في المرحلة الأولى. وبدوره بدأ يسرد قصصاً عن ذلك العبور الخطير في حينا، وفي أحياء أخرى، تفتقر إلى أبسط إجراءات الأمن، ولو مجرد شريط أصفر يقول: "احذر... منطقة عمل"!
في ضاحيتَيْ مصر الجديدة، ومدينة نصر (شرق العاصمة)، وهما حيان مرفهان، انتصبت شبكة الكباري، واستُغلت المساحة الفارغة أسفلها لإنشاء مقاهٍ للشباب، وأكشاك، ومشاريع، وفرص عمل. إن حدث جدل حولها، وإن لم تزرها لانزعاجك من أن يحجب الكوبري عنك الشمس، أو تصبح ضوضاء السيارات سقفاً لجلستك، فإنها بالتأكيد أفضل حالاً مما حدث عندنا.
ماذا خلق الكوبري القريب من منزلي؟ مساكن جديدة للقمامة، ومساحة شاسعة للتباري في العشوائية، والجهل، وعدم التمدن. الكوبري الذي دشنه المسؤولون كإنجاز، عاقبه العشوائيون بقمامتهم. تسمية "العشوائيين" هنا، ليست شتيمة، بل وصفٌ ونتيجة. ماذا ننتظر من جمهور لا يجد مجرد سلّم آمن، أو طريقاً للعبور؟ أن يزرع الزهور أسفل الصرح العظيم؟
لقد أرادت الدولة أن تمد في الطريق الدائري، لوصل شرايين البلد ببعضها، على نحو أفضل، ولربط شمال العاصمة بجنوبها، ولفك الاختناق المروري. أهداف كلها مشروعة، بغض النظر عن الجدل الدائر حول أولويتها، لكن ما هو مطروح بقوة الآن بيننا، نحن سكان المنطقة، هو السؤال التالي: إلى أي مدى فكر المسؤولون في البشر، كما فكروا في الحجر، وفي إطارات السيارات، وفي استثمار مرتقب، أو سياحة منشودة؟
عن نفسي، ربما يتغير شعوري نحو ذلك الكوبري، بمجرد أن أمتلك سيارة، وأجد طريقاً أقرب إلى بيتي، حين يعود الكوبري عليّ بنفع مباشر، أو تسلك سيارة أجرة طريقه، فتختصر الوقت. لكن حتى ذلك الحين، سأظل أفكر في هؤلاء الذين دفعوا ثمناً كبيراً، ومقلقاً، بالعشوائية، إذ تمتد وتتأصل بهؤلاء الذين لن يملكوا سيارة يوماً، ولا يملكون حتى كلفة استقلال "توكتوك" يكفيهم مرور السلّم الخشبي الوهمي، وبالذين لن يأتي ذكرهم في خطاب تباهٍ بتدشين الكوبري وإتمام عمله، بل سيطالَبون بالتصفيق والتهليل لهذا الإنجاز، كأنهم لم يدفعوا فيه أي ثمن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...