تندرج المقالة ضمن مشروع "بيروت بلا نوافذ" وهي مساحة مخصصة لشابات صحافيات يتحدثن عن بيروت بعد الانفجار. يقدم رصيف22 السلسلة ضمن منحة "قريب" من CFI، الممولة من قبل AFD.
تضيق بنا بيروت: مساحة، ذاكرة، ووجعاً. بيروت الأم المتمرّدة، التي احتضنت أبناءها وبناتها الخطأة، دون أثمان مجتمعية وهمية وضرائب لمعصية الطاعة.
انفجرت بيروت هذه المرة فجأة، تناثرت الشظايا مع المقاهي والرفاق، طار معها الكثير في فضاء الاحتمالات. ما نعرفه أن شيئاً ما قد تغير، أو بالمعنى الأدق "انفجر".
هنا بيروت بعد الشهر السادس من التروما، نتأرجح داخل مسرح الجريمة وخارجه، ولكننا نبقى نعود ونعود.
قال راي أولدنبرغ، عالم الاجتماع، في نظريته third place، بأن مكاناً ثالثاً يؤثر على حياة وشخصية الفرد ويؤثر بدوره على المجتمع.
ففي حين يحتل المنزل المركز الأول ومكان العمل المركز الثاني، يأتي بالمركز الثالث أي مكان في العالم يشعرنا ببعض السلام والراحة، مع التذكير بأننا أحياء نرزق، لا يغرقنا برتابة يومياتنا الثقيلة، ولا يبدد الكلام داخلنا بصمت قامع، ببساطة هو المكان الذي ننتمي إليه طوعاً وليس إكراهاً أو فرضاً، حيث لا تربطنا الواجبات ومسامير الالتزام التي تصلبنا في كل مناسبة أو حدث اجتماعي. في المكان الثالث، نتبادل أطراف الحديث، المشاعر والثقافات، غير مرهونين للطبقية الاجتماعية والاقتصادية، التي صنعت بين سكان المنطقة الواحدة حاجزاً من وهم، ومتراساً مجبولاً برهاب الاختلاف.
في هذا النص نعرج على شوارع بيروت، التي تنتصر فيها الألوان والزوايا الصغيرة المليئة بالقصص اللطيفة، رغم الدخان وكثرة الاحتمالات.
مكتبة الحلبي... من دكانة سمانة إلى ملتقى ثقافي واجتماعي
مكتبة الحلبي، إحدى هذه الزوايا الدافئة، ببابها الزجاجي الصغير، إطاره الأحمر الفاقع وستاره الأبيض القديم المخرم، الذي تتسلّل المجلات والجرائد عبره، كيف لا وهذه المساحة الضيقة تحتضن عالماً سحرياً، مركزه بيروت، شكلاً، تراثاً وثقافة؟
الحلبي من المكتبات المستقلة التي فتحت أبوابها منذ خمس سنوات.
تحدثت لانا الحلبي، لرصيف22 عن الصعوبات التي تمر بها المكتبة: "واجهنا العديد من التحديات، إلا أن هذا العام كان استثنائياً: ثورة، كورونا، وضع مادي وسياسي كارثي، والضربة القاضية كانت انفجار المرفأ. كان وقع الصدمة مخيفاً".
في حين يحتل المنزل المركز الأول ومكان العمل المركز الثاني، يأتي بالمركز الثالث أي مكان في العالم يشعرنا ببعض السلام والراحة، مع التذكير بأننا أحياء نرزق، لا يغرقنا برتابة يومياتنا الثقيلة، ولا يبدد الكلام داخلنا بصمت قامع
بدأت مكتبة الحلبي كدكان سمانة صغير يمتلكه الجد منذ العام 1958، ثم ورثه الأب عبدالله، الذي أضاف اليها حلماً على شكل رفّ من الكتب، وتحولت، على يد لانا والعائلة، إلى أجمل مكتبات بيروت، وهكذا سُجّلت المكتبة رسمياً في 2016، وانتقلت من محل بقالة صغير إلى مكتبة مليئة بالهدايا الصغيرة، وشتّى أنواع الكتب العربية والعالمية.
وعمّا يميز الحلبي عن سواها من المكتبات، قالت لانا: "نتميز بفاعلياتنا ونشاطاتنا، خلقنا عالماً حقيقياً لنا مع القرّاء وعالمنا الافتراضي الذي أساسه جمهور منصّات مواقع التواصل الاجتماعي، كذلك نتميز بطريقة تقديمنا للكتاب، وبحثنا المستمر عن سبل للتطور".
وتابعت بالقول: "تخترق ذاكرتنا أصوات الرصاص، غبار القذائف ورائحة الدم، تتشابه أعوام 1970 مع أيامنا الحالية، ففي فترات الحرب اضطر الجدّ إلى إغلاق باب المحل بسبب جولات الكرّ والفرّ. ترتبط ذكريات الأجيال الماضية بالمكتبة، وأحياناً كان شهداء الصحيفة والرغيف يخرجون محمّلين من عتبة المكتبة، ففي العام 1984 ألقيت قذيفة بجانب المكان، أسفرت عن خسائر بشرية، فارتبطت ذاكرة ذويهم بالموت، الحنين، الحرب والكتب".
المكتبة التي كانت دكاناً للمعلبات والجرائد والمجلات حتى أواخر التسعينيات تحت مسمى "دكانة الحي"، إلا أن العم عبدالله لم يواكب متطلبات الدكان، لأن حلماً صغيراً كان يكبر، "حلم المكتبة الخفي" الذي لاحقته لانا، وحققته منتصرة على هزائم الواقع وخيبات الوطن.
وهكذا، أعيدت ثقافة الكتب لفاقديها، واستطاعت المكتبة أن تكون مكاناً آمناً لجميع الأفراد، دون تمييز أو استثناء، تناسب جميع الطبقات الاقتصادية، وقد أصبحت ملتقى ثقافياً واجتماعياً بامتياز.
Ecosouk تعزز ثقافة اعادة التدوير
المحطة الثانية هي Ecosouk، أحد المحلات في شارع المقدسي في الحمرا، التي أدخلت ثقافة إعادة التدوير، وخلقت مكاناً مصغراً لمحبي الأغراض "الغريبة"، المصنوعة بحب والصديقة للبيئة.
قالت ناريمان حمدان، صاحبة Ecosouk: "راودتني فكرة المشروع في العام 1989 منذ اللحظة التي بدأت فيها الفرز بالمنزل والعمل. منذ ما يقارب الثلاث سنوات، كنا في اجتماع للاتحاد الأوروبي، وتعرفت على جوسلين كعدي، مؤسسة ريسايكل ليبانون، وحدثتني حينها عن مشروعها المطابق للمشروع المرسوم في ذاكرتي، آنذاك كنت أملك محل ألبسة نسائية وولادية، وحينها عملت على فكرة أن نحول المحل إلى إيكوسوق ecosouk، ونعمل على تشجيع الإنتاج اللبناني والاقتصاد الدائري، وبات الحلم حقيقة".
تم افتتاح Ecosouk في شباط 2019 والإقبال كان ممتازاً، بحسب ما أكدت حمدان لرصيف22: "إنه أول محل بلا بلاستيك وبلا نفايات، ومعظم الأشياء هي عبارة عن مواد مدورة أو معادة الاستعمال. الإقبال فاق التوقعات، إذ يبدو أن الناس تعي خطر البلاستيك".
عند بداية الثورة تراجع العمل، وانخفض أكثر عند بدء أزمة الدولار والحجر على أموال المودعين، والمشكلة وصلت إلى ذروتها مع وباء كوفيد-19 وفرض قوانين الاغلاق الإجباري، غير أن العمل بقي سارياً إلى حدّ ما، لكون الأغراض بغالبيتها هي ذات استهلاك يومي، والأسعار ضمن المقبول، وفق ناريمان: "هدفنا الأساسي تشجيع الناس على استعمال المواد الطبيعية، خلق وعي بيئي مجتمعي وبناء ملتقى لهم، وبالتأكيد تشجيع الصناعة الوطنية".
واللافت أنه في هذ المكان المليء بالأغراض الفريدة، أصبح الزوار يتعرفون على بعضهم البعض، ضمن مساحة عامة تلبي خصوصية حاجاتهم.
هذا وأكدت ناريمان حمدان، أن ما يميز هذا المحل عن سواه أن "كل شي في داخله مصنوع بحب، فنحن نشجّع ونشرح كل التفاصيل عن منتجاتنا، التي يقارب عددها الـ 200 منتج، في مساحتنا الصغيرة، بصدر رحب وشغف أكبر".
سوق البرغوث والعوالم الخفية
بين العلب، الأثاث، المرايا والألوان المميزة، يختبئ عالم سحري، يستقرّ جزء منه في منزل جميل يضفي فرادة إليه.
Le marche aux puce هو مجموعة من عوالم عديدة تجتمع في مكان أثري، يملؤه الحنين للسفر، وفيه الكثير من الطاقة الإيجابية.
لا يمكن إغفال التفاصيل الصغيرة التي تكتسح المكان، تشد الناظر إليها بدهشة طفولية ورغبة بالاكتشاف. هذا البيت البيروتي العتيق، هو المكان الأمثل لمحبي الاطلاع على كل جديد، والذين يدفعهم فضولهم للبحث الدائم عن رحلة جديدة يقلبونها بين أيديهم.
لكل الأشخاص الذين لم يجدوا مكانهم الثالث بعد، إنه لا يزال هنالك فسحة ضوء، رغم الغبار وكل انفجار ذاتي وخارجي، لا يزال هنالك متسع للحياة داخلكم، فمهما طالت الأيام واشتدت الصعاب، لا بدّ أن يأتي اليوم الذي تكتشفون فيه مكانكم الثالث، ومن يدري، فقد يكون بانتظاركم في شوارع بيروت الضيّقة وزواريبها القديمة؟
تحدثت صاحبة Le marche aux puce، دانيال كيريدجيان، عن فكرة البيت الملون الكائن في شارع الجميزة: "بدأ المشروع في العام 2017، كسوق نقال يحتوي على مئات القطع الأثرية القديمة والمميزة. كل قطعة لها حكايتها الخاصة، تاريخها وثقافة تحملها. وكان السوق يبسط رحاله سنوياً في عدة مناطق، إلى أن قررنا الاستقرار في مكان ثابت، وتحديداً في قلب بيروت، لأن الزبائن كانوا يتطلعون إلى وجود مكان ثابت يوفر لهم متعة الاكتشاف والسفر عبر الأغراض".
وأضافت كيريدجيان لرصيف22: "مع الوقت، تحول المكان إلى ملتقى للأشخاص، ومجتمع صغير ينتمي إليه هواة الأشياء القديمة الذين يحبون جمعها واقتناءها"، واصفة إياه بأنه "إدمان جميل لكل ما هو قديم وفريد".
وكحال أغلب الأماكن في بيروت، دمّر انفجار المرفأ جميع الأغراض في المكان، بحسب ما أكّدته دانيال:"كل الذي جمعناه من أماكن مختلفة من العالم تحطم، لكننا بقينا وسنستمر".
في الختام، نقول لكل الأشخاص الذين لم يجدوا مكانهم الثالث بعد، إنه لا يزال هنالك فسحة ضوء، رغم الغبار وكل انفجار ذاتي وخارجي، لا يزال هنالك متسع للحياة داخلكم، فمهما طالت الأيام واشتدت الصعاب، لا بدّ أن يأتي اليوم الذي تكتشفون فيه مكانكم الثالث، ومن يدري، فقد يكون بانتظاركم في شوارع بيروت الضيّقة وزواريبها القديمة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...