شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
دفاعاً عن العلاقات السامة... أن تحب وأن تقع في الحب

دفاعاً عن العلاقات السامة... أن تحب وأن تقع في الحب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 3 سبتمبر 202212:12 م

المضطرب

 

لا شيء مخيف في بداية الأمر، هدنة أخرى في محادثة عابرة لا أكثر، خيّم الإبهار فيها على قلبينا اللذين تجرّدا من مهمتهما كماكينتين لضخّ الدم في جسدين متباعدين جغرافياً؛ ليصبحا مقطعين في قصيدة تثير في قارئها نشوة التحليق ورغبة الحرية المستحيلة.

تدندن هي بطبقة صوتها العالية: "قبّلني وسترى مدى أهميتي".

فأرد بصوت خافتٍ يشوبه الارتياب من خليط المشاعر غير المفهوم لدي:

"لا تفتحي يدك، لا تفتحي يدك

فكلّ أغاني العالم ستنطلق منها

لا تغلقي يدك، لا تغلقي يدك

فكلّ أغاني العالم ستلتجئ إليها".

كلّ شيء على سطح هذا الكوكب تلوّن بألوان كثيرة، السماء والأرض، البيوت والأصدقاء والأعداء، الأسلحة والزهور، حتى القضايا التي آمنا بها، لم تعد تطلب أن تصبغ بلون الدم القاني.

هكذا هو الحب، يشتغل عامل دهان في البدايات...

ثم ومن دون أن تدق أجراس الإنذار وقبل أن تصل مياه الطمأنينة، نشبت النيران تحت اسمينا في محادثة الواتس أب؛ لتمتد إلى قشّ قلوبنا القابل أصلاً للاشتعال. وعن العقول، فقد توقفت في محطتين مختلفتين، من غير أن تدرك أن الوجهة واحدة.

محطة التوكسيك

وكما في معظم علاقات "التوكسيك" الدامية، لا بد من وجود طرف أعزل، بلا أسلحة وطريق عودة، ولسوء الحظ -أو ربما العكس- كنت أنا اختصاراً لجملة طويلة من قلّة التجارب والضياع، وهي جيش مدجّج باللامبالاة والجموع من الأصدقاء والمحيط المتنوع الذي يملأ وقتها وفكرها.

نالت مني جاذبية الرفض بلا أدنى شك وكبّلتني حبال التعلّق المرضي، ومع كل حرمان أو مواربة أثبت أنني مضمون أكثر، أغار أكثر، أهلوس أكثر، أجنّ أكثر، وأدرك، أو أتوهم، أن تلك الزهرة تتغذّى على سماد جثة روحي التي بدأت بالتحلل شيئاً فشيئاً، وما باليد حيلة.

أمضيت وقتاً طويلاً من التيه في تلك المحطة، كمسافر أضاع نقوده والجهات، عاجزاً عن التقدم أو التراجع، أُصبِح على رسالة أطلب فيها الصفح وأمسي على عراك يقتل النوم في عينيّ. أحيي المرأة التي أحبّها ثم أميتها ثم أحييها ثم أميتها في اليوم عشرات المرات، وكل ذلك في داخلي. ومع كل رصاصة أطلقها نحوها ترتد الشظايا لتطعن ثقتي بنفسي.

مع كل حرمان أو مواربة أثبت أنني مضمون أكثر، أغار أكثر، أهلوس أكثر، أجنّ أكثر، وأدرك، أو أتوهّم، أن تلك الزهرة تتغذّى على سماد جثة روحي التي بدأت بالتحلل شيئاً فشيئاً، وما باليد حيلة... مجاز

هناك، في تلك المحطة، فقدت معظمي، تناوبت على جعل أصدقائي دريئة للتصويب وعائلتي مكباً لخردة أيامي المهترئة، والأحداث قايضتها بشريط حبوب مهدئة لأكمل بصعوبة بالغة ست ساعات من النوم غدت بحد ذاتها حلماً.

حفظت كتب التنمية البشرية وطبّقت تعاليمها، وقفت أمام المرآة طويلاً أحدّث نفسي وأعزّز ثقتها. احتضنت نفسي، وكتبت أمنياتي على ورقة تركتها تحت وسادتي، ومخاوفي أحرقتها في ورقة أخرى. طرقت أبواب السماوات السبع، خضعت لجلسات العلاج النفسي، صعدت وهبطت سلالم التصالح مع الفقد وفكرة الخسارة، ولم يصل قطار يأخذني شبراً واحداً خارج تلك المحطة.

كانت صورتها تذكرة إقامة دائمة في المحطة، وبطاقتي لا تخولني التنقل سوى في مساحة الذكريات التي منحتني إياها.

باتجاه النجاة

للأمانة، لم تطرق المعجزة باب نومي لتوقظني على حلّ يخرجني من تلك العلاقة، كما لم أعد راجلاً من ضياعي، ولا راكباً بأجرة، ببساطة أردت الخلاص بعدما وصلت إلى الحافة، وهذا ما جرى.

التوكسيك ليس أكثر من محطة أصعد منها في رحلة اكتشاف ذاتي وعلاجها

بدأ الأمر كالتخلص من حالة إدمان، ولم ينتهِ إلا وأنا مجرّد من معظمها. جرعات من التسليم والرضا والرفض المضاد أحياناً جعلت تلك الشرايين التي تمشت فيها وعليها، تلفظها، آمنت أن لا حرية لدي في اختيار الحلول وكل محاولة لإطالة العلاقة ضرب من الذل، إما هي -والموت ظلها- أو أن أغادر المحطة بصرف النظر عن الطريقة.

صحوت؛ لا أملك عبارة أخرى تختصر ما حصل بلا إسهاب وشرح.

 اليوم وبعد مرور ما يقارب السنة على انسحابها من روحي، أجلس أمامي للحوار:

هل أحببتها؟

بالتأكيد لا، في البدء كنتُ إلهاً مستوياً على عرش من اختراعها، فأنزلتني إلى الأرض ومن دون اختبار أو رسالة تذكر. أتعرف ما مصير إله على الأرض، يصفع على كلا خديه؟ أتدري وحشته من غير صلاة تُرفع إليه في الغداة والعشية؟ لا شيء، سوى أنه سيجلس ويستمع إلى الأغاني العراقية التي تركل الفراق ككرة في ملعب الوقت، جيئةً وذهاباً، وكنت مستمتعاً أيضاً بجرعات الدوبامين التي تأتي بشكل طارئ منها؛ وتنسحب بنفس الشكل.

لذلك لم أكن أحبها، بل سعدت في البداية بالحالة وبكوني شخصاً ذا شأن، على الأقل في عينيها. ثم خفت فقدان الحالة من دون تعويض.

هل تكرهها؟

قطعاً لا، عبرتُ ذلك الحقل الشائك منذ زمن، وبتُّ مؤمناً أنها كانت مبضع جراحة مرّ على روحي، فأظهر عقدي التي حملتها في مراحل متعددة من العمر، وعرّضه للشمس كي أتطهر من البكتيريا، أو ربما لأنتبه إلى تلك العقد، وأحاول تحنيطها وعرضها على جدار حياتي كتحفة من زمن غابر.

أتعرف ما مصير إله على الأرض، يصفع على كلا خديه؟ أتدري وحشته من غير صلاة ترفع إليه في الغداة والعشية؟ لا شيء، سوى أنه سيجلس ويستمع إلى الأغاني العراقية التي تركل الفراق ككرة في ملعب الوقت، جيئةً وذهاباً... مجاز

هل كانت علاقتكما سامة؟

لا أعتقد ذلك.  فكلمة السر هنا هي "التّروما" فكل منا حمّال لعقد بائتة وطازجة، ولم تكن هي الطرف الآخر المجبر على التعايش معي بكل سيئاتي وحسناتي، أو ليست ممن يقدمون مساعدة لحل تلك العقد ثم تجاوزها، وهذا بالطبع لا يعيبها، فقد تكون هي الأخرى بحاجة لترميم صدع ما في روحها، ولم أبادر لتقديم الملاط للترميم، فقد كنت في حالة نشوة مستمرة.

هكذا هو الحب، يشتغل عامل دهان في البدايات...

والشيء الآخر المهم، وجدتْ فيّ الرجل المنكسر أمامها، وهذا ما أخذها إلى ممارسة التسلّط، وأيضاً هذا الأمر لا يعيبها، فعلى الأرجح كان إفراطاً منها في استخدام آلياتها الدفاعية لتجنب تروما جديدة تُضاف إلى ما كان في ماضيها. لربما عانت من نرجسية رجل في مرحلة ما من الحياة، أو عاشت وقتاً طويلاً في الحرمان وانعدام الأمان العاطفي، وهنا لا أجلد ذاتي في محاولة لجعلها ملاكاً هابطاً من السماء، بل فقط توضيحاً لما أقصده: أنا من منحها ذلك الدور وبكامل الرضا.

هل آذتك؟

على العكس، فتحت بصيرتي نحوي؛ صرت قادراً على فهمي أكثر من السابق. يوماً ما حاولتُ الانتحار بتعليق حبل والتأرجح تحت أغصانها، لكن في نجاتي الآن -على الأقل إلى حين محاولتي القادمة- سأكون ممتناً لها بكشف جزء من الستار نحو نفسي.

هل بتَّ قادراً على التعامل مع عقدك؟

بالتأكيد لا، أنا في مرحلة وعي جزئي، ولا بد من آخر جديد ليزيح جزءاً أكبر من الستارة التي تغطي مسرح روحي، وإن نجوت حينذاك أيضاً، سأتابع عرض تجربتي كما الآن، مثل أي مشاهد متسلّح بكيس فشار وقنينة مياه غازية، وإلى ذلك الحين سأقول: التوكسيك ليس أكثر من محطة أصعد منها في رحلة اكتشاف ذاتي وعلاجها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image