يعيش أهل بلدي
بجلبابٍ طويل وابتسامةٍ خفيفة، تجلس أم ربيع كلّ صباح على كرسي الخيزران، أمامها كوب الشاي بلبن وفُرشة من الكتب والمجلات. نتبادل التحية. تعطيني الجريدة. تلاطف ابني، ثم تودعني بعبارة ترنّ في قلبي ووجداني بينما أصطحبه إلى الحضانة: "ربّنا يرضيكِ ويراضيكِ".
منذ سنين تحتل المصرية الستينية تقاطعاً بين شارعين معروفين وسط القاهرة، فباتت إحدى أمارات المكان، كالغرافيتي الذي يبعد عنها بضعة أمتار، أو كشجرة البونسيانا الضاربة في تلك الأرصفة.
تراقب أم ربيع المارةَ، تفتح أحاديث مع جيرانها في القهوة المجاورة، تحاول فكّ النزاعات التي تقع أمامها، تبيع الجرائد والكتب -أو كما تسميها "الجرانين"- لكن دون أن تقرأها. أسألها عن السبب فتعلل بأن عليها حراسة الفُرشة فقط، وإذا انشغلت بالقراءة سوف تُسرق الكتب والمجلات.
تروي لي أن أحداً سحب جريدةً وتابع طريقه دون أن يدفع سعرها، بينما كانت منشغلة بقراءة بعض العناوين، فأقلعت عن المحاولة.
أشجّعها على القراءة حتى لو بعض الأسطر كل يوم، تومئ برأسها بالإيجاب دون أن تفعل. ذات صباح أسعدني مشهدها وهي ترفع إحدى الصحف المحلية بموازاة ناظريها، أقترب منها فتخبرني أنها تقرأ العنوان المرافق لصورة الرئيس السيسي.
وفي حينٍ آخر وجدتها منشغلةً ببعض الصفحات، تقرؤها وتكتب، وإذ بها حسابات المبيعات تحاول إنجازها قبل مجيء زوجها الذي سوف يعنفها إن لم تنهِ ذلك. الأمر الذي تكرر أمامي مراتٍ عديدة.
أعوامُ الضجيج والكدر
صورةٌ فاجرة للعنف الزوجي، جسدٌ هزيل بصوت صارخ على الملأ وعيون جوفاء من أي أدب أو إنسانية. كما القادم من شخصيات بودلير البائسة: "هناك شخصيات تأمليّة على نحو خالص، وغيرُ صالحة تماماً للفعل لكنها مع ذلك تقوم به، بدافع غامض ومجهول".
تراقب أم ربيع المارةَ، تفتح أحاديث مع جيرانها في القهوة المجاورة، تحاول فكّ النزاعات التي تقع أمامها، تبيع الجرائد والكتب لكن دون أن تقرأها. أسألها عن السبب فتعلل بأن عليها حراسة الفُرشة فقط، وإذا انشغلت بالقراءة سوف تُسرق الكتب والمجلات... مجاز
لا تدرك أم ربيع و-قد لا يعنيها- أنها واحدة من مليار امرأة حول العالم تعيش تحت ثقل العنف كل يوم، في مجتمعات تعتقد أنه أمر طبيعي ومسموح به، تلك المجتمعات العابرة للجغرافية والممتدة بين شرق العالم وغربه تكرس الأدوار الذكورية، تبرّئ الفاعل وتبرّر له بل وتنكر سوء سلوكه، دون مبالاة بآثار العنف المدمرة على حياة النساء.
تحكي لي أم ربيع عن صراخ زوجها الذي يثقل حياتها بالضجيج والكدر منذ 40 عاماً، صراخٌ أدمى قلبها بارتفاع الضغط وجسدها بداء السكري: "يشاجرني في البيت في الطريق في عيادة الطبيب، أمام الأولاد والقطط وحتى القبور، في أي وقت وأي مناسبة. حاولت عبثاً تغيير ذلك".
أنصتُ لها، وأطلب منها الانشغال ببضع صفحات من فُرشتها، لعلها ترى ما يحدث أمامها بعيون أخرى، لعلها تتوقف عن التسمّر أمام زوجها، وتظهر انفعالاتٍ غير تلك الباردة التي تحكي الخذلان القابع داخلها.
أعود بالذاكرة إلى امرأة في ضيعتي البعيدة، كان يضربها زوجها باستمرار دون أية مقاومة منها، وذات مساء ضربته بعصاً خشبية غليظة كسرت يديه الاثنتين، هو الذي كان يعمل نجاراً، فكان الجزاء من روح العمل ومن جسدٍ أثخنته الضربات وهدّته.
كي نفهم العالم
القراءة لن تمنح أم ربيع تلك العصا الخشبية السحرية، ولن تقلب واقعها ربما، لكن الجهل يعزّز الظلم وبعض القراءة يعطي جرعة للمواجهة. ويجعلها ترى الحياة بعيون أوسع أو كما تقول الحكمة اليونانية: "من يستطع أن يقرأ يرى ضعف ما يراه الآخرون".
"نحن نقرأ كي نفهم العالم، كي نواجه هذه الفوضى. إننا نريد الوصول للنهاية، فقط لأننا نريد مواصلة القراءة. نقرأ كالكشافة الذين يقتفون الخطى ناسيين كل ما حولهم"
عبارة للإسكندر الأكبر مؤسس مدينة الإسكندرية، عاشقة القراءة التي جمعت معارف البشرية وحافظت على ذاكرة العالم قبل الميلاد بـ300 عام. أم ربيع تزور مدينتها كل عام وترى أهلها وأقاربها، ولا تأبه بالتأكيد لما ورد في كتاب البرتو مانغويل "تاريخ القراءة".
يقول الكاتب الأرجنتيني: "نحن نقرأ كي نفهم العالم، كي نواجه هذه الفوضى. إننا نريد الوصول للنهاية، فقط لأننا نريد مواصلة القراءة. نقرأ كالكشافة الذين يقتفون الخطى ناسيين كل ما حولهم، نقرأ شاردي الذهن متجاوزين بعض الصفحات، نقرأ باحتقار، بإعجاب، بملل، بانزعاج، بحماس، بحسد، وشوق".
يذكر مانغويل أن الولعين بالكتب سبعة أنواع. أولهم من يجمع الكتب كالأثاث، لا يقرؤونها بل يستخدمونها للزينة: "هؤلاء المهووسون ربطوا الكتب بسلاسل، ولو استطاعت الكتب أن تتحرر لكانت تقودهم إلى المحاكم وتطالب بسجنهم هم، لا هي". النوع الثاني هو المفرط بالقراءة بهدف تحقق الحكمة: "وكأنه معدةٌ معتلّه محشوة بطعام كثير".
النوع الثالث من يجمع الكتب ويكتفي بتصفحها لإرضاء فضوله المتعجرف، "كمن يركض عبر المدينة محاولاً حفظ جميع اليافطات المصورة والشعارات المدونة على المنازل".
النوع الرابع الذي يفضل الكتب ذات الصور الكثيرة، والخامس يجلّد كتبه بمواد ثمينة، "فتصبح الكتب كالحمّامات أو زينة لمنزل يرفل بالثراء". النوع السادس هو القارئ الذي أصبح كاتباً ولا يقاوم إغراء وضع مؤلفاته قرب مؤلفات العظماء، وهو غير ملمّ بقواعد الإملاء والنحو ولم يقرأ المؤلفين الكلاسيكيين.
النوع السابع هو الذي لا يبالي بالقراءة ولا يقرأ، رغم ذلك يجمع الكتب ويحرص عليها. هذا الأخير ربما ينطبق على أم ربيع، فهي متمسكة بكتبها ومجلاتها، تقبل عليها كل صباح، ترتبها، تنفض غبارها، لا تسمح للمارة بالعبث بها، لكن دون أن تقرأها.
في رواية "دارية" للكاتبة المصرية سحر الموجي، تحاول البطلة التي تحمل ذات الاسم مقاومة السلطة الذكورية برسم خط حياتها المستقل والموازي لكونها زوجة وأماً، عبر القراءة ثم الكتابة. أمر يعارضه الزوج، ويعتبره ثانوياً ولا حيز له في حياتهما، أو لعله الخوف من وعي شريكته وانفتاحها الفكري الذي قد يهدد وجوده.
انسحبت العجوزُ الطيبة إلى عزلتها الأبدية، وراحت تبكي في أحد الأركان، وهي تكلم نفسها: "آه بالنسبة لنا، نحن النساء العجائز التعيسات، فات أوان القدرة على الإبهاج، حتى إبهاج الأبرياء، ونبثّ الرعب في الأطفال الصغار الذين نهفو إلى أن نحبَّهم"... مجاز
وفي هذا مثال جليّ أن القراءة تشرع الباب نحو الحرية، نحو فضاء أوسع من الواقع، وأبعد من الزمان والمكان وسطوة الآخر.
بين أوراق الكتب ستستأنس أم ربيع بشخوص أخرى تحكي حكايتها، بل وتحارب الأفكار التي تحبسها في خانة المغلوبين المستكينين للظلم، تسعى للتخلص من الجدار الأبوي والذكوري الذي يجبرها على الخنوع كل يوم.
أم ربيع ليست عاملة أو سياسية أو ناشطة، هي امرأة عادية تعيش على هامش الشارع والحياة، لكن لديها قصة تستحق أن تروى وصوتاً خافتاً يستأهل أن يتكشّف وأن يُسمع، ولعل القراءة هي أحد سبل التغيير وكسر كل هذا اليأس.
يأس المرأة العجوز
من فرشة أم ربيع تقع عينيّ على كتاب لشارل بودلير، صادر عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، أعود به إلى البيت. في الكتاب نصوصٌ شعرية ونثرية للشاعر الفرنسي، أقرأ في إحدى صفحاته: "تُحسّ المرأة القصيرة المتغضنة بالفرحة الغامرة لرؤية هذا الطفل الجميل الذي يحتفي به الجميع، هذا الكائن الجميل بالغ الهشاشة مثلها، هي العجوز القصيرة، ومثلها بلا أسنان ولا شعر.
اقتربت منه، لتقدمَ له بعضَ البسمات وبعض البشاشة اللطيفة. لكن الطفل المذعور تخبط تحت تربيتات المرأة الطيبة المتهدمة، وملأ المكان بصراخه.
حينئذٍ، انسحبت العجوزُ الطيبة إلى عزلتها الأبدية، وراحت تبكي في أحد الأركان، وهي تكلم نفسها: "آه بالنسبة لنا، نحن النساء العجائز التعيسات، فات أوان القدرة على الإبهاج، حتى إبهاج الأبرياء، ونبثّ الرعب في الأطفال الصغار الذين نهفو إلى أن نحبَّهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون