على ورق الورد
لن ترضى عني الحياة بعد أن تمردت عليها وأبيت الدخول معها في حلبة المصارعة. هي تكره أمثالي، هؤلاء الأشخاص الذين يفضلون حياة الهدوء والرتابة. لن ترضى عني وأنا أجلس في مقاعد المتفرّجين. تريد أن تلقي بي في الحلبة لتسحقني الأيام السريعة تحتها ولا تبالي.
أنا شخص أحمق من وجهة نظر الحياة، كوني لا أجاريها في سرعتها. أكره فيها الصراعات والضجيج.
أجلس مختبئاً في ركن هادئ، أراقب العالم من بعيد. روّاد الفضاء يحتفلون بالوصول إلى سطح القمر، بينما أنا على سطح بيتنا، في انتظار نسمة هواء خفيفة تمرّ لتطبطب على روحي. قلق ومناوشات وخلافات بين الدول تُنذر بالحرب، والجميع يتابع باهتمام بالغ نشرات الأخبار، بينما أنا همّي الأكبر هو ألا أجد النعناع لأضيفه إلى كوب الشاي حتى يمنحني السكينة، فكيف للحياة أن تحبّ شخصاً بكل هذا القدر من الهدوء واللامبالاة؟
سقطتُ في حقبة التسعينيات، ورفضت الخروج منها لأواجه العالم بعد هجمة الألفينات، تلك الفترة التي تأبى عقولنا، نحن جيل الثمانينيات البائس، أن نحتسبها من عمرنا. الهدوء هو عنوان فترة التسعينيات ذات الإيقاع البطيء، ولكنه الهدوء الذي كان يسبق عاصفة الألفية الجديدة.
أنتمي إلى تلك الفترة بكل ما فيها، الناس والأفلام والمسلسلات والأغاني وصوت الراديو الذي لا يتوقف ليل نهار، التليفون المنزلي القابع في بيت من يقدر على دفع فاتورته الشهرية، وكابينة التليفون المزروعة في الشارع، التي تسمح بالاتصال من محافظة إلى أخرى عن طريق الكارت الخاص بها.
كانت قمة التكنولوجيا واختراع العصر بالنسبة لأبناء جيلي هو الهاتف المحمول الذي لم نكن نراه إلا في إيدي الأغنياء، بينما احتلت رسائل البريد (الجوابات) مكانة خاصة في قلوبنا، قبل أن تدهسها سرعة الإنترنت برسائله السريعة التي تصل من وإلى في نفس اللحظة، خالية من أي مشاعر.
تأتي "الجوابات" من الغربة مكتوبة بشوق وحنين من المغتربين في الخارج بحثاً عن لقمة العيش إلى ذويهم، وفي الداخل كانت تلعب دور مرسال الغرام، إذ يرسلها الحبيب المتيّم مكتظة بكل عبارات الحب والغزل التي قالها العشاق منذ فجر التاريخ، تحمل في نهايتها توقيع "العاشق الولهان فلان...."، لتردّ هي بجواب مثله، تحمل سطوره كثيراً من الحب وقليلاً من العتاب، تفوح منه رائحة عطرها الذي نثرت بعض قطراته فوق الحروف، وفي النهاية عادة ما يكون التوقيع عبارة عن قبلة من شفتيها بالروج الأحمر، بجوار كلمة "بحبك".
قبل أن تفتح والدتي الجواب غلبتها دموعها وسقطت واحدة خفيفة في منديلها. إن كانت تركتْها تسقط على الأرض لأنبتت ورداً... مجاز
أقدّس الجوابات، وعلى يقين أنه لابد أن يبذل كلٌّ منا مجهوداً في كتابتها حتى يمنحها القيمة التي تليق بها، ما علينا سوى إحضار ورقة وقلم، ولنطلق لأخيلتنا وقلوبنا العنان، وندع الكلمات تتساقط من أرواحنا على الورقة مباشرة، ولنثق أن ما كُتب بحب سوف يصل بنفس مقدار الحب الذي كُتب به، ورجماً بالغيب أن الجوابات التي تكتب بالحبّ تصل من غير عناوين.
بدأت علاقتي بالجوابات مبكراً وأنا في التاسعة من عمري؛ كنت أدرس في الصف الثالث الابتدائي عندما أرسل ناظر المدرسة لأبي "جواب غياب" يبلّغه فيه بتغيبي عن المدرسة، ويطلب منه الحضور قبل أن تضطر إدارة المدرسة، غير آسفة، أن تتخذ إجراء ضدي. في صباح اليوم التالي ذهبت مع الوالد. كنت أسير خلفه وأنا أدعو الله في سرّي أن تسقط المدرسة القديمة التي تشقّقت جدرانها وتصدعت بعد أن طالتها موجة الأمطار شديدة الغزارة التي ضربت غالبية مدن ومحافظات مصر، وعُرفت بسيول 1994.
لم يستجب الله لدعائي، ووصلنا المدرسة ودخل والدي مكتب الناظر الذي قابله بترحاب شديد، وجلس أمامه، بينما أنا أقف بجوار الباب بعد أن ألقيت حقيبتي على الأرض وكأن الكتب التي بداخلها أثقل من همومي. كنت أختلس النظرات إلى والدي الذي بدأ بالكلام، وأخرج الجواب من جيب قميصه وأعطاه للناظر الذي أخبره أنني تغيبت أسبوعاً كاملاً عن المدرسة بغير عذر أو إبداء أسباب، في الوقت الذي يقسم فيه له الوالد أنني أخرج صباح كل يوم حاملاً حقيبتي فوق ظهري ومصروفي في جيبي، ومعي عدد لا بأس به من السندوتشات التي تكفى ثلاثة أشخاص وتشبعهم. وضعت يدي فوق فمي وكتمت الضحكة بعد جملته الأخيرة، لأن الوقت غير مناسب للضحك، هو وقت للضرب ليس إلا.
"ابنك بيلعب كورة في النادي مع العيال اللي مش غاويين تعليم"، قالها الناظر دون تأنيب ضمير، وهو يعلم أن جملته هذه سوف أدفع ثمنها ضرباً مبرحاً لا يقوى عليه جسدي النحيل، ولن تأخذ الوالد شفقةٌ بي ولا رحمة.
وعده أبي أنني لن أكرّر الغياب مرة ثانية وغادر، بينما أنا ذهبت إلى الفصل لأكمل اليوم الدراسي حتى نهايته، وبعد عودتي إلى البيت كانت المفاجأة التي لا يتخيّلها أكثر المتفائلين فينا، إذ سامحني الوالد، وقال لي إن التعليم هو الوحيد الذي سوف يقف بجوارك ولن ينفعك غيره، وضمّني بين ذراعيه في مشهد مؤثر تفوقنا فيه على فريد شوقي عندما احتضن ابنه سمير صبري في المشهد الشهير من فيلم "وبالوالدين إحسانا".
سافر الوالد في العام التالي للعمل في إحدى الدول العربية، وأرسل لنا "الجواب" الأول بعد مرور شهر ونصف من سفره. بعد أن أحضره "البوسطجي" إلى بيتنا، تلقفته أمي من يده بسرعة، ودخلت بعد أن أغلقت الباب، وقبل أن تفتح الجواب غلبتها دموعها وسقطت واحدة خفيفة في منديلها. إن كانت تركتها تسقط على الأرض لأنبتت ورداً.
أعطتني "الظرف" كبير الحجم. فتحته. كان بداخله صورتان؛ إحداهما لوالدي في العمل، وأخرى مع زميل له. تركت الصور وأمسكت الجواب الذي كُتب بخط يده المُرتعش بالعامية. بعد التحية والسلام بدأ يسأل عن أحوالنا ويتمنى من الله أن نكون بخير.
كنت أقرأه بصوته هو وكأنه لم يغادر، يكلم كل واحد فينا باسمه وكأننا نجلس في حضرته، حتى جاء اسمي وهو يوصيني بعدم الهروب من المدرسة ولعب الكرة، وأن أراعي والدتي وشقيقاتي لأنني رجل البيت في غيابه. ثم وجه كلامه لأمي، قال إنه سيرسل لنا ملابساً وأموالاً مع قريب أحد زملائه العائد من الغربة أول الشهر المقبل، وسوف يتكرم الرجل ويحضرها لنا إلى بيتنا. قال في نهاية الجواب: أنا بخير ولا ينقصني إلا رؤياكم، بينما قلت أنا بصوت عال: "ملعون أبو الغربة والمسافات".
قلق ومناوشات وخلافات بين الدول تُنذر بالحرب، والجميع يتابع باهتمام بالغ نشرات الأخبار، بينما أنا همي الأكبر هو أنني لا أجد النعناع لأضيفه إلى كوب الشاي حتى يمنحني السكينة، فكيف للحياة أن تحب شخصاً بكل هذا القدر من الهدوء واللامبالاة؟... مجاز
طيلة سنوات أبي في الغربة وهو يرسل لنا الجوابات وبعد أن نقرأها تأخذها أمي وتحتفظ بها. كنا نرد على رسائله بشريط كاسيت فارغ يضعه ابن عمي في مشغّل الكاسيت، ويضغط على الزر الأحمر ليبدأ بالتسجيل، ويتكلم كلّ واحد منا، يقول ما يريد ويطلب منه ما يشاء. كنا نعبئ الشريط بالحنين والشوق إليه، وفي كل مرة نسأله نفس السؤال المعتاد: "امتى هترجع؟".
كان غيابه مرّاً وكأنه وضع الفرح داخل حقيبة ملابسه وسافر معه. ما إن تنتهي بكرات الشريط حتى نقلبه على الوجه الآخر الذي كان من نصيب أمي، التي تبدأ الثواني الأولى بالسؤال التقليدي عن أحواله، وهي تخفي تنهيدات الحيرة، ثم تقول بصوتها المشحون بالحب ما عجزت عنه حروف كُتبت باليد في الجوابات، لينقل له مشاعر حقيقة لا ريب فيها.
كان شريط الكاسيت هو البديل للجوابات في زمن ما قبل الإنترنت وتطبيقاته وتعبيراته المُصطنعة، وعالمه الافتراضي، يسافر عبر المحيطات عن طريق البريد أو وسيط مسافر يجمع شمل من فرقتهم الغربة.
كانت أمي تعاتب والدي عندما يتأخر في إرسال خطاباته. ذكرتني بالجوابات التي كان يكتبها "حراجي القط" العامل في السد العالي بأسوان، وزوجته فاطمة أحمد عبد الغفار في ديوان "جوابات الأسطى حراجي القط" رائعة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، إذ كانت في إحدى الجوابات تعاتبه على التأخير وهي تقول: "شهرين يا بخيل؟ ستين شمس وستين ليل، والنبي يا حراجي ما أطول قلبك لأقطع بسناني الحتة القاسية فيه"، وفي جواب آخر تقول: "يا حراجي، جوابك بيرد الميه للزور الناشف ويبل"، بينما يرد عليها حراجي، ويصف لها حاله في الغربة: "عارفة يا مرتي الراجل في الغربة يشبه إيه؟ عود درة وحداني في غيط كمون".
عاد والدي بعد ثلاث سنوات بحقائب مكدسة فيها ملابس غالية الثمن وألعاب لي ولشقيقاتي، وعطور ذات رائحة زكية، وحقيبة صغيرة بها كل شرائط الكاسيت التي كنا نرسلها له. مدّها ناحية أمي وقال: "ده الونس اللي صبرني". أخذتها وهي تلمس يده ودخلت غرفتها، ثم خرجت وفي يدها كل "الجوابات" التي كان يرسلها، وقالت: "جواباتك كانت ترد فيّا الروح".
ليست كل الجوابات بها كلمات الحب والحنين، هي تحمل الحزن أحياناً لا تداوي كلماتها الجروح. كنت أشاهد جارنا العجوز يجلس طوال ساعات النهار أمام بيته، تحت شجرة توت، على كرسي باهت مصفرّ لونه، لم يكن جلوسه الدائم بالساعات محض صدفة، ولكن لعل أحد المارين من أمامه يجود عليه ويمنحه بعضاً من وقته للحديث في أي شيء، حتى ولو "تافه"، لعدة دقائق، حيث لا جليس ولا أنيس له بعد أن سافر ابنه الوحيد ملبياً نداء الغربة. شاهدته مرة ينتفض من مكانه وهو يسأل ساعي البريد بلهفة: "مفيش جواب؟"، ليرد الساعي بالنفي على سؤاله الذي لا يكف عن تكراره كلما مرّ من أمامه.
ثمة إحباط ممزوج بالحزن يصيبه، ثم يضع يده على كرسيه ويجلس ينظر إلى المجهول وكأنه يجلس على رصيف الحياة، يستظل تحت شجرة العمر وليست شجرة التوت. ثمة أوراق ذابلة تتساقط تحت قدميه مثل سنوات عمره، ربما كانت ذكرياته تمرّ أمام عينه مثل قطار خاطف، لم يقطع تفكيره سوى الشمس، وهي تتوارى خلف الجبل على استحياء لتعلن عن قدوم الليل، يدخل بعدها غرفته لينام.
في أحد الصباحات، وأثناء ذهابنا إلى المدرسة، لم نره يجلس كعادته. توقفنا نجمع بعض التوت الذي تمرّد على الغصن وسقط على الأرض، وأثناء العودة كانت بعض النسوة يتشحن بالسواد ويجلسن أمام بيته. عرفنا أنه مات. ربما الحزن قتله من زمن. كان في حزنه يشبه الشجر، طريقته الوحيدة في التعبير عن حزنه هي أنه يبس واقفاً مكانه. كان رجلاً طيباً مثل شجرة التوت التي بقيت تحرس بيته حتى عودة الابن "الغائب"، تضربها الريح في وضح النهار دون ذنب، وتسكن الطيور في أعشاشها فوق أغصانها بالليل عن طيب خاطر.
وبعد مرور عدة أيام، شاهدت ساعي البريد يقف أمام بيت جارنا يحمل في يده "جواباً" من الابن الذي سرقت منه الغربة خمس سنوات من عمره. استلمه أحد أقارب الرجل بعد أن أخبر الساعي بوفاته. وصل الجواب متأخراً بعد أن مات صاحبه من الوحدة وقتلَه الحنين، ولم يعد له قيمة ولا داعٍ للاحتفاظ به. مكانه الذي يليق به أن يُحرق ويُنثر رماده فوق العتبة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...