تتفاقم الأزمة المتواصلة في قطاع المحروقات في تونس إلى حد دفع إلى إعفاء المدير العام للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية عبد الوهاب الخماسي، من مهامه بمقتضى أمر رئاسي. حسب بلاغ نشرته صفحة رئاسة الجمهورية، تأتي الإقالة بسبب "جملة من التجاوزات التي عاشتها ولا زالت تعيشها المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية كما أذن رئيس الجمهورية بفتح تحقيق إداري وآخر قضائي وتحميل كل طرف مسؤوليته في هذا القطاع المهم". الأزمة تفتح التكهّنات حول قطاع المحروقات في البلاد الذي يهدّد القطاع الاقتصادي.
أزمة المواد الأساسية
تتسع دائرة المواد الأساسية المفقودة في تونس يوماً بعد يوم، إذ طالت الأزمة مؤخراً قطاع المحروقات بعد أن كانت منحصرةً في بعض المواد الغذائية، كالسكر والدقيق والخبز والحليب، لتزداد بذلك معاناة المواطن التونسي في البحث عن أبسط الضروريات اليومية.
البحث عن بعض أنواع المحروقات، كالبنزين والغازوال من دون كبريت (وقود السيارات)، أصبح هاجس المواطن التونسي على الرغم من أن منتجات المحروقات ارتفعت أسعارها ثلاث مرات على التوالي خلال هذه السنة، مع استعداد الحكومة للإعلان عن التعديل الرابع لسد عجز الميزان الطاقي الذي تدهور بفعل الارتفاع المتواصل لأسعار الذهب الأسود عالمياً، وتداعيات الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
"جُبْتُ ثلاث محطات بنزين وكانت خاليةً من الوقود لكن بعض الأنواع الأخرى كانت متوفرة. سأضطر غداً إلى الذهاب إلى عملي في سيارة أجرة"
"محمد"، موظف في إحدى الشركات الخاصة في ضواحي العاصمة تونس، يروي لرصيف22، عن رحلة بحثه شبه اليومية عن البنزين لسيارته فيقول: "جُبْتُ ثلاث محطات بنزين وكانت خاليةً من الوقود لكن بعض الأنواع الأخرى كانت متوفرة. سأضطر غداً إلى الذهاب إلى عملي في سيارة أجرة. أزمة الوقود الراهنة ليست الأولى من نوعها، فلطالما اختفت المحروقات من السوق لأكثر من سبب من بينها إضرابات مهنيي القطاع، والمواطن هو من يدفع الثمن دائماً".
ينتقد محمد خدمات النقل العمومي في تونس، والتي وصفها بالكارثية، عادّاً أن تردّيها هو الدافع الأساسي لاقتنائه سيارةً عن طريق قرض بنكي، ومع ذلك "معاناته لم تنتهِ"، بحسب تعبيره.
أزمة مالية
يرى مسؤول في شركة لتوزيع المحروقات، رفض الكشف عن هويّته، أن أصول الأزمة الحالية وأسبابها واضحة، فهي مرتبطة بالأزمة المالية المطروحة منذ سنوات، بالإضافة إلى الارتفاع المتواصل لأسعار النفط. فبعد أن يتم تخصيص مبلغ معيّن لدعم المحروقات باحتساب سعر برميل النفط في الأثناء، تطرأ تغييرات على سعره، وهنا يكمن الإشكال.
ولفت محدث رصيف22، إلى أن الحرب الأوكرانية-الروسية أثّرت على كلفة المحروقات وعمليات الشحن، لكن المنتوج متوفر ولا وجود لشح ولا لانقطاع في المحروقات على المستوى العالمي، أي أن الموارد البترولية متوفرة في السوق العالمية، مشيراً إلى أن الإشكال في تونس يكمن في ارتفاع الديون المترتّبة عليها، والتي تُقدَّر في المجمل بنحو ألف مليار دينار.
أظهر المتحدث أن المحروقات ترد إلى تونس في باخرات، وهناك آجال تعاقديّة لسداد فواتير الشّحنات، وتحدد غالباً في غضون 30 أو 60 يوماً، حسب ما إذا كانت المواد بتروليةً أو غازيةً. لكن البلاد التونسية تتجاوز هذه الفترة بكثير، فتتخلّف عن سداد فواتير ثلاث أو أربع شحنات، وتضطر إلى سداد نسبة معيّنة من المستحقات التي في ذمتها. وبالإضافة إلى التصنيف الائتماني للبلاد أصبح التعامل مع تونس من قبل الشركات المزوّدة حذراً.
مخازن البنزين المهرب تنتشر في جميع الأحياء الشعبية تقريباً، وينتصب أصحابها على حافة الطرق مزوّدين ببراميل محروقات معروضة للبيع ويقبل عليها المارة كونها أقل ثمناً من المنتوجات المعروضة في محطات بيع الوقود
أضاف المسؤول أنه "مع كل هذه الإشكاليات ما زالت تونس تمتلك سمعةً جيدةً في السوق، وتجتهد لسداد أقساط 20% أو 30% من المبلغ، فيمكنها المزوّد من كميات مهمة من المحروقات. أعتقد أن أصل الداء هو الدواء، وهو توفير الموارد المالية لكن الحل المستدام هو الاقتصاد في استهلاك الطاقة، فسعرها مرتفع في العالم ونحن بلد مبذر للطاقة، ولا نوليها أية أهمية زيادةً على أن أسعارها منخفضة مقارنةً بالبلدان الأوروبية والبلدان غير المصدرة للنفط ووجب تحسين الاستهلاك لنتمكن من توفير السيولة اللازمة والوفاء بالتزاماتنا للمزودين العالميين".
كحلول لمجابهة أزمة المحروقات، اقترح المتحدث توفير نقل عمومي مقتصد للطاقة وربط جميع المناطق بالمواصلات لتفادي استعمال السيارات عادّاً أن الاستثمار في النقل العمومي سيوفر الكثير للدولة، لأن المواطن سيتخلى عن السيارة بالإضافة إلى ترشيد الاستهلاك وهو موضوع يجب تناوله بوعي أكبر.
كما شدد على أهمية ترشيد أنواع المحروقات، لأن البعض منها لم يعد معروضاً في السوق العالمية، ويستعمل في تونس مثل "الغازوال العادي" (وقود)، لافتاً إلى أن النقص الحالي في تونس يتعلق بالغازوال الذي من دون كبريت.
الطاقات المتجددة لمواجهة العجز
ارتفع العجز التجاري الطاقي في تونس أكثر من 600 مليون دينار خلال الثلاثية الأولى من السنة الجارية، كما ارتفع العجز الطاقي 25 في المئة مع بداية السنة.
وقد تحدث المدير العام للمحروقات في وزارة الصناعة والمناجم والطاقة، رشيد بن دالي، في تصريح إعلامي، عن لجوء تونس إلى استعمال مخزونها الإستراتيجي الاحتياطي من المواد البترولية لتغطية الطلب وتزويد البلاد بالمحروقات في الوقت الذي ينادي فيه خبراء بضرورة إيلاء أهمية كبرى للطاقات البديلة كحل أمثل لمواجهة العجز.
"لا خيار الآن أمام تونس سوى الاستثمار في الطاقات المتجددة لضمان أمنها الطاقي، لأن أسعار المحروقات في ارتفاع مستمر والغاز الطبيعي مهدد بالنفاذ"
من جهته، أكد عبد اللطيف حمودة، رئيس المجمع المهني لمنتجي الطاقات المتجددة، أن تونس انطلقت في مخطط طاقي شاركت فيه الشركة التونسية للكهرباء والغاز ووزارة الطاقة ووكالة التحكم في الطاقة، وتم الاتفاق على برنامج لبلوغ 30 في المئة من إنتاج الطاقة من الطاقات البديلة في الفترة الممتدة من 2015 إلى 2030، ويفترض أن يتم تحقيق 50 في المئة من الهدف في حدود سنة 2022، لكن لم يتم تجاوز الثلاثة في المئة، وذلك للعديد من الأسباب من بينها عدم الاستقرار السياسي.
لفت حمودة في تصريح لرصيف22، إلى وجود العديد من الإشكاليات الأخرى التي تواجه المستثمرين من بينها عدم تسوية وضعية الأراضي التي ستقام عليها مشاريع الطاقة الشمسية، خاصةً في الجنوب التونسي، إلى جانب عدم حصول المستثمرين على رخص في مشاريع طاقة الرياح بالإضافة إلى رفض نقابة الشركة التونسية للكهرباء والغاز ربط الطاقة المنتجة من الطاقات المتجددة بشبكتها.
وشدّد حمودة على ضرورة تذليل هذه الصعوبات وتشجيع القطاع الخاص والتقليص من الأداء لتتقدم مشاريع الطاقة البديلة، عادّاً "أن لا خيار الآن أمام تونس سوى الاستثمار في الطاقات المتجددة لضمان أمنها الطاقي، لأن أسعار المحروقات في ارتفاع مستمر والغاز الطبيعي مهدد بالنفاذ.
تجارة البنزين المهرّب تزدهر
مع ارتفاع استهلاك المواطن التونسي للمحروقات في فصل الصيف خاصةً، وندرة بعض المواد البترولية في محطات التزود بالوقود، يضطر بعض المواطنين إلى اللجوء لاستعمال البنزين المهرب على الرغم من خطورته على السيارات والتوصيات بعدم استعماله.
وتشهد سوق البنزين المهرب مؤخراً انتعاشةً غير مسبوقة خاصةً أن أسعار المحروقات في ارتفاع مستمر بالإضافة إلى النقص في كميات المحروقات الذي طرأ مؤخراً.
مخازن البنزين المهرب تنتشر في جميع الأحياء الشعبية تقريباً، وينتصب أصحابها على حافة الطرق مزوّدين ببراميل محروقات معروضة للبيع ويقبل عليها المارة كونها أقل ثمناً من المنتوجات المعروضة في محطات بيع الوقود. وقد أصبحت تجارة البنزين المهرب نشاط العديد من الشباب العاطل عن العمل، خاصةً في المناطق الحدودية، وعلى الرغم من التبعات السلبية لهذا النشاط على الاقتصاد التونسي، إلا أنه الملاذ الوحيد لفئة عانت لسنوات طويلة من الحيف والفقر.
بالرغم من أن الحكومات المتعاقبة حاولت إيجاد حل جذري لظاهرة تهريب البنزين من الجزائر وليبيا نحو تونس، إلا أن المحاولات باءت بالفشل ولم تتم السيطرة على هذه الظاهرة، إذ قُدّرت نسبة استهلاك البنزين المهرب إلى تونس بـ25 في المئة.
جدير بالذكر أنه على الرغم من وجود نقص فادح في بعض المواد البترولية، إلا أن الجهات الرسمية تؤكد في كل مرة على توفر "مختلف المواد البترولية في جميع محطات الوقود على كافة تراب الجمهورية وأن عملية التزود متواصلة بنسقها العادي، وأن الاضطرابات المسجلة اليوم نتجت عن ارتفاع الاستهلاك وتزايد الطلب على المحروقات".
وأكدت وزارة الصناعة في بلاغ لها، أن هذا الاضطراب جزئي وأن مصالحها حريصة على تأمين عمليات التزويد وتغطية الطلب المتزايد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين