تحولت المنطقة الخضراء، وسط العاصمة العراقية بغداد، حيث مقر صناعة القرار السياسي، إلى ساحة مواجهات مسلحة بين التيار الصدري وخصومه من جهة، أي قوى الإطار التنسيقي، والقوات الأمنية من جهة أخرى. وتطور الأحداث هذا يأتي عقب أشهر من الانسداد السياسي، ورفض الخصمين التنازل من أجل الصالح العام.
تبدأ القصة من تغريدة نشرها في 27 آب/ أغسطس الجاري، صالح محمد العراقي، المعروف بوزير الصدر، دعا فيها الأحزاب والشخصيات التي شاركت في العملية السياسية منذ عام 2003، إلى توقيع اتفاقية خلال مدة 72 ساعةً، تتعهد فيها بعدم الاشتراك في العملية السياسية، أو امتناعه عن التدخل في مجريات الأحداث السياسية والشعبية.
ممهدات نحو الأزمة
قبيل انتهاء المهلة الزمنية التي منحها الصدر لخصومه، أعلن المرجع الديني كاظم الحائري، في 29 آب/أغسطس الحالي، اعتزاله العمل الديني، وعلّل ذلك بتراجع صحته وعدم قدرته على متابعة شؤون الأمة.
ويُعدّ الحائري، المولود في كربلاء عام 1938، واحداً من أبرز المراجع الشيعية، وعُرف بقربه من محمد صادق الصدر، والد مقتدى الصدر، وانتقل إلى مدينة قم الإيرانية بعد وفاته، وبالرغم من العلاقة بين محمد صادق الصدر والحائري، إلا أن الأخير لطالما جاهر بعدائه لابنه مقتدى ومناوئته لأفكاره.
دعا الصدر الأحزاب والشخصيات التي شاركت في العملية السياسية منذ عام 2003، إلى توقيع اتفاقية تتعهد فيها بعدم الاشتراك في العملية السياسية
وتتضح معالم العداء في بيان الحائري الذي دعا فيه أتباعه إلى طاعة المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي الخامنئي، وقال "إن حب الشهيدين الصدرين لا يكفي ما لم يقترن بالإيمان الحقيقي بأهدافهما، ولا يكفي مجرد الادعاء والانتساب لهما، ومن يسعى إلى تفريق الشعب والمذهب باسم الشهيدين، أو التصدي للقيادة، فهو فاقد للاجتهاد وليس صدرياً مهما ادعى أو انتسب".
عدّ الصدر هذا التصريح اتهاماً مباشراً له، ورد عليه في بيان نشره بعد ساعات من اعتزال الحائري، على صفحته الشخصية في تويتر، نفى فيه قيادة الحائري للحوزة الصدرية، وقال: "يظن الكثيرون بمن فيهم السيد الحائري، أن القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم. كلا، إن ذلك بفضل ربي وفيوضات الوالد الذي لم يتخلَّ عن العراق وشعبه"، في إشارة إلى استقرار الحائري في مدينة قُم.
وبيّن أن مقر الحوزة لطالما كان في النجف، وختم بيانه بالتزامه بوعده بعدم التدخل في السياسة واعتزالها بعد انتهاء مهلته الزمنية، وإغلاق كافة المؤسسات التابعة له، باستثناء مرقد الشهيد الصدر ومتحفه وهيئة التراث التابعة له.
وعلى الإثر، اقتحم أتباعه المنطقة الخضراء، ومقر إقامة رئيس الجمهورية في قصر السلام، بالإضافة إلى مباني محافظات ذي قار والبصرة وديالى.
التصعيد المسلح
سرعان ما هدأت الأوضاع في محافظات جنوب البلاد، فيما شهدت العاصمة بغداد تصعيداً كبيراً، بعد أن باشر عناصر حماية منزل زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، بإطلاق النار على المحتجين، وإصابة عدد منهم، وبينهم القيادي في سرايا السلام التابعة للصدر، عقيل الجوحي، والشيخ عباس الزيادي، بالإضافة إلى أكثر من 9 مدنيين.
ويبرر مصدر في الحشد الشعبي، عملية إطلاق النار، بقوله إن مقتل المتظاهرين لم يكن مقصوداً، بل جاء بصورة عرضية، بعد محاولة عناصر الحماية تفريق المتظاهرين من أمام المؤسسات الحكومية.
سرعة استجابة التيار الصدري لهذه الأحداث وتداركه للموقف ينبعان من جاهزيته لحماية المتظاهرين منذ انطلاق احتجاجاتهم، بحسب مصدر في التيار الصدري. الذي يلفت في تصريح لرصيف22، إلى أن "التجهز كان استعداداً من التيار وإدراكه بانفلات زمام الأمور، وهو ما حصل أمام منزل المالكي"، ويُذكر أن التيار الصدري صرح سابقاً لرصيف22، بجاهزيته ضد أي تهديد يمس حياة المتظاهرين.
يعتقد كثيرون أن خطوات الصدر جعلته أقرب إلى شريحة شعبية واسعة، خاصةً بين من رفضوا المشاركة في الانتخابات الأخيرة، بسبب مساهمة الأحزاب السياسية ذاتها الموجودة منذ عام 2003
ويشار إلى أن قطعات الجيش قد انتشرت بشكل كثيف منذ ساعات الصباح الباكر في بغداد، ويفسر مصدر سياسي لرصيف22، ذلك، بأن هذه التحركات تأتي بعد أن أدركت الحكومة عزم الصدر على الانسحاب، واحتمال اضطراب الوضع الأمني.
ولكن موقفها وُصف بالحياد، بعد تجنّبها الرد على مصادر إطلاق النار، واكتفت هذه القطعات بمنع دخول مسلحي الحشد الشعبي إلى المنطقة الخضراء، قبل أن يتراجع عن قراره.
وتوضح مقاطع مرئية تواجد عناصر الجيش بين المتظاهرين، ويزعم مقطع آخر قيام أحد عناصر سرايا السلام بإطلاق النار على القوات الأمنية أمام أنظار الجيش.
وتظهر مقاطع الفيديو المتداولة، المواجهات المسلحة بين الفصائل الحزبية، واستخدام قذائف آر بي جي، بالإضافة إلى إطلاق 6 رشقات صاروخية على المنطقة الخضراء، 3 منها انطلقت من منطقة البلديات شرق العاصمة بغداد.
الصدر ونتائج اعتزاله
في غمرة الصراع المحتدم بين الأطراف المسلحة، تثار التساؤلات عن إدراك الصدر نتائج خطواته السابقة واعتزاله، إذ ينفي الباحث السياسي علي البيدر، أن يكون موقف الصدر الأخير بهدف تأجيج الشارع، ويعدّ خطوته ردّ فعل طبيعي ومتوقع على تصريحات الحائري حصراً، وبمثابة تنبيه للشعب إلى الخيارات والتفاصيل الخاصة بواقعه.
وعلى النقيض، يعتقد الباحث السياسي حمزة الحردان، أن الصدر قد أدرك نتائج خطواته الأخيرة، نظراً إلى علمه بعجز الأحزاب السياسية عن تلبية طلبه بانسحابها جميعاً من الحياة السياسية.
ويشير لرصيف22، إلى أن هذه الخطوات جعلته أقرب إلى شريحة شعبية واسعة، خاصةً بين من رفضوا المشاركة في الانتخابات الأخيرة، بسبب مساهمة الأحزاب السياسية ذاتها الموجودة منذ عام 2003.
اجتمع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، بعدد من القيادات الأمنية بعد ازدياد حدة الأزمة، ودعا المتظاهرين إلى التهدئة والانسحاب من المنطقة الخضراء
عجز الأحزاب عن تلبية شروط الصدر، يبدو جلياً في تجديد دعوات الحوار بين الخصوم، إذ اجتمع رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، بعدد من القيادات الأمنية بعد ازدياد حدة الأزمة، ودعا المتظاهرين إلى التهدئة والانسحاب من المنطقة الخضراء، وقال: "تجاوز المتظاهرين على مؤسسات الدولة يُعدّ عملاً مداناً"، وعزا هذا التطور إلى عدم حل الخلافات السياسية، ودعا الأطراف السياسية إلى التهدئة والعودة إلى طاولة الحوار، كما أصدر لاحقاً قراراً بمنع استخدام الرصاص الحي ضد المتظاهرين.
رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، أكد من جهته، على ضرورة التهدئة أيضاً، وقال: "إن ما آل إليه الوضع هذا اليوم، ينذر بخطر كبير، وهو أمر لا يمكن السكوت عنه أو تركه يتصاعد من دون تدخل من العقلاء والمؤثرين من زعامات دينية وسياسية وعشائرية واجتماعية، للدفع في اتجاه التهدئة وضبط النفس".
وحذر رئيس الجمهورية برهم صالح، من الانجرار إلى الفتنة، مستشهداً بمقولة للإمام علي، نشرها على صفحته الشخصية في تويتر، وقال فيها: "تثبّتوا في قتامِ العِشْوةِ، واعْوجاجِ الفتنةِ عندَ طُلوعِ جَنينها، وظُهورِ كمينها، وانْتِصابِ قُطبِها، وَمدارِ رَحاهَا، تبدأُ في مَدارجَ خَفيّةٍ، وتؤولُ إِلى فظاعَةٍ جليَّةٍ، شِبابُها كَشِبابِ الْغُلام، وَآثارُهَا كَآثَار السِّلامِ".
الإطار وإيران
يرى العديد من المراقبين للشأن العراقي بأن لليد الإيرانية، علاقةً بهذه الفوضى، ولكنها على ما يبدو لم تدرك الصورة الشاملة لهذا الصراع، وكانت تزمع إثارة الصدر حصراً من خلال دفع الحائري إلى الاعتزال وانتقاد الصدر من أجل دفعه إلى العودة إلى طاولة المفاوضات.
واعتمدت طهران على السمعة التي يحظى بها الحائري، كواحد من أبرز المراجع الصدرية، ولا تهدف إلى عزل الصدر دينياً فحسب، بحسب مصدر في الإطار التنسيقي، بل إلى عزله نهائياً عن جماهيره.
ويقول المصدر لرصيف22، إن خطوات الإطار القادمة هي محاولة التهدئة بأوامر من طهران، ويستدرك أن هذه التوجيهات وقتية وتتم عبر خطوط عاجلة وراهنة، وقد تشهد تغييراً بحسب تطورات الأزمة.
وكان الإطار التنسيقي الشيعي قد جدد دعوته التيار الصدري للعودة إلى طاولة الحوار والعمل من أجل الوصول إلى تفاهمات مشتركة، تضع خريطة طريق واضحة مستندة إلى القانون والدستور لتحقيق مصالح الشعب.
لليد الإيرانية، علاقةً بهذه الفوضى، ولكنها على ما يبدو لم تدرك الصورة الشاملة لهذا الصراع، وكانت تزمع إثارة الصدر حصراً من خلال دفع الحائري إلى الاعتزال وانتقاد الصدر لدفعه إلى العودة إلى المفاوضات
وفي السياق نفسه، صرح المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، مساء الإثنين 29 آب/ أغسطس، أن الخطوة الوحيدة لتخطّي الظروف الحالية في العراق هي الحوار والاعتماد على الدستور العراقي، وأضاف المتحدث أن للعراقيين "الخبرة والأدوات القانونية للتغلب على الظروف الحالية".
وتشير مصادر إلى أن هناك محاولات من قادة الإطار للتواصل مع الصدر، أو قيادات من التيار الصدري، ولكن الأخير يرفض هذا الأمر، ويُعتَقد أن هذا الرفض هو مجرد محاولة لتهدئة وقتية، ولكنه يرجح موافقة الصدر على هذا التواصل في النهاية.
ترجيحات المستقبل
صورة أكثر من قاتمة تسيطر على المشهد السياسي العراقي، وسط مخاوف من تصعيدات مسلحة قد تؤدي إلى حرب أهلية جديدة، ويعتقد الباحث السياسي نبيل جبار العلي، أن الموقف اليوم يتمركز عند مفترق الطرق، إما التصعيد الذي سيؤدي إلى صراع سياسي اجتماعي واسع، أو لملمة الأزمة ومحاولة امتصاصها، مع ترجيح الخيار الثاني خلال الأيام المقبلة.
ويستدرك في تصريحه لرصيف22، أن احتمالية الصراع ستكون محدودةً في مناطق معيّنة، حيث يكثر أتباع الإطار والتيار الصدري، وقد تمتد إلى استهداف مكاتب الأحزاب ومقراتهم واغتيال بعض المسؤولين فيها، وتبتعد تدريجياً عن المواقع الحكومية والمنطقة الخضراء.
أما احتواء الأزمة، فسيكون بلا شك بحسب العلي، من خلال دعوات للتهدئة مقابل تعهدات سياسية لتحقيق بعض المطالب، قد تكون إعادة الانتخابات على رأسها، ووفق موعد زمني محدد.
ويتفق الباحث السياسي علي البيدر، مع هذا الطرح، ويرى أن حل الأزمة يرتبط بالدور الذي ستلعبه المنظومة السياسية في إنهاء الخلاف وتعاطي الحكومة معه من أجل تجنب التصعيد، خاصةً من الناحية الأمنية وفرض سلطة الدولة.
عاد الصدر ليؤكد التزامه باعتزال السياسة في كلمته الأخيرة اليوم الثلاثاء، واعتذر للشعب العراقي عن الأحداث التي شهدتها البلاد
ولكن الباحث السياسي حمزة الحردان، يعتقد أن من الصعوبة التنبؤ بمستقبل هذه الأزمة، وخطوتها التالية، نظراً إلى عدم وضوح موقف المرجعية الدينية التي تمتلك تأثيراً كبيراً على حراك الشارع بشقّيه، باستثناء بعض مقلّدي مرجعيات خارج العراق.
ويوضح في تصريحه لرصيف22، أن "هذه الأحداث تؤكد أن الحكومة المقبلة لن تكون على غرار الحكومات السابقة، وأن التغيير الجذري سيكون حتمياً فيها"، ولا يستبعد أن يتم عزل الكثير من الوجوه السياسية والقيادية الفاعلة حالياً، من أجل إبعاد نفسها عن صفة "الوقوف في وجه مشروع التيار وحلفائه، خاصةً أن مثل هذه الصفة قد تشكل فجوةً يصعب ردمها، وتمنع استمرار العملية السياسية بسبب قرب الصدر الكبير من الشارع وموقفه منهم ومن العملية السياسية بشكل عام".
وخطوة الصدر الأخيرة ليست الأولى من نوعها، وسبق أن اعتزل العمل السياسي في آب/ أغسطس عام 2013، كما انسحب من السياسة في شباط/ فبراير عام 2014؟ ولكن الاستثناء هذه المرة ينبع من إيعازه بإغلاق كافة المؤسسات المرتبطة به باستثناء تلك المتعلقة بالشؤون الدينية ومتحف الصدر، وهو ما يُعدّ سابقةً جديدةً.
وعاد الصدر ليؤكد التزامه باعتزال السياسة في كلمته الأخيرة اليوم الثلاثاء، واعتذر للشعب العراقي عن الأحداث التي شهدتها البلاد، مشيراً إلى أنه كان يأمل بأن تكون الاحتجاجات سلميةً، ولكنها خرجت عن المسار المرسوم لها، وعبّر عن حرمة الدم العراقي، وعدم اعترافه بالسنينة العشائرية، وهي مجموعة من القوانين التي تتخذها العشائر جماعياً، في إشارة إلى أن قرار تأزيم الوضع أتى بغير مشورته، وطالب أتباعه بالانسحاب أو التبرؤ منهم.
وما أن وصل بيان الصدر إلى مسامع أتباعه، حتى بدأوا سريعاً بانسحابهم من البرلمان العراقي والمنطقة الخضراء، فيما لا يزال الغموض محيطاً بالخطوة القادمة له، لا سيما أن بيانه لم يتطرق إلى دور تياره القادم، وفي كل الأحوال فإن الأزمة السياسية بدأت تشعل حطبها الجماهيري تدريجياً، وتنذر بكوارث وانفجارات أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.