اعتقدتُ طويلاً أن النجاة من الحروب الموسمية في غزة يتمثل في الخروج منها، ولكنني كنت مخطئاً، وأظن أن محمود درويش كذلك كان مخطئاً عندما قال: وطني ليس حقيبة، وأنا لست مسافراً. فقد أثبتت لي الحرب الأخيرة التي امتدت ثلاثة أيام فقط، أن الوطن حقيبة حملتها معي عندما سافرت، وحملها كل غزي معه وهو يجر ذكرياته خارجاً من بوابة معبر رفح.
فالأمر لم يختلف هذه المرة، فقد زارني القلق ذاته الذي عايشته طوال أربع حروب سابقة، وحاصرني الخوف من صوت الطيران الذي اعتقدت في كل ثانية أنه سيرج المنزل بصاروخ جديد، ولم تساعدني قدماي على الخروج من البيت وممارسة الحياة الطبيعية التي يفترض أنني أعيشها الآن بعيداً عن الموت. حدث كل ذلك ليؤكد لي مقولة كتبتها مرة وبات أصدقائي يستخدمونها بشكل دائم: نخرج من غزة لكنها لا تخرج منا.
كل ما خطر لنا أنها مجرد مزحة عندما أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي عن عملية عسكرية في غزة تحمل اسم "الفجر الصادق"، الجمعة 5 آب/أغسطس، فلم نكن نتخيل أنا وأصدقائي عبد الله وحسين اللذان يشاركاني البيت في إسطنبول، أنها الحرب! قلنا إن الأمر من المستحيل أن يكون صحيحاً، ولم تتوقف هواتفنا لساعة كاملة عن التنقل من منطقة إلى أخرى، ومن موقع إلى آخر، حتى أدركنا أنها ليست مزحة سمجة، وأنها الحرب تعود مرة أخرى فعلاً.
ثم لم يختلف الأمر كثيراً، جلسنا نحن الثلاثة في صالة البيت، كما كنا نفعل في غزة أثناء الحروب السابقة. صوت مذيع الأخبار لم ينقطع ثانية واحدة، صوت القصف كذلك، صور الضحايا على شاشة التلفاز، الخوف من سقوطِ صاروخ يسرق الذكريات، الاطمئنان على الأصدقاء بعد كل ضربة قريبة من أماكن سكنهم وفقدان الإحساس بالأمان، الذي تمثل في جملة حسين التي قالها وهو يطارح قدميه التي رفضتا الخروج إلى البلكون لإجراء اتصال: خفت أكلم اتصال في البلكون بلاش أنقصف.
وما زلت بعد انتهاء الحرب التي استمرت 56 ساعة، أردد كلمات صديقي عبد الله عندما قال: خوفنا هذا ليس خوفاً من الموت، بل من عجزنا عن طبع قبلة أخيرة على جباه من نحب. هذا كله أرجعني إلى الأربع حروب التي عشتها في غزة، وأضاف إلى ست وعشرين سنة مِن عمري حرباً خامسة لم أعايشها ولكنني عشتها، فالعيش خارج غزة لا يعني أبداً النجاة من حروبها.
الطيران المدني الذي استهدفنا دون قصد
في ثاني أيام الحرب، وبعدما أدركنا - بشكل ما - أننا لم نعد في غزة، وأن هذه الحرب بشكل ما بعيدة عنا على الأقل جسدياً، استطعنا تجاوز عتبة البلكون. جلسنا الجلسة ذاتها التي جلسناها في صالة البيت، ولولا الخجل لقلت إني حاولت أن أكسر صمت الحرب ببعض النكات التي لا تضحك أبداً، ولكن عبد الله لم يضحك كالعادة، واكتفى بابتسامة خفيفة كنوع من المجاملة لغبي يحاول ممارسة الحياة.
ثم لم تمضِ ساعة واحدة، إلا وقفزت قلوبنا نحن الثلاثة بعدما مرت طائرة مدنية متجهة إلى مطار إسطنبول، معتقدين أن ضربة قوية ستوجه لأجسادنا وتحولنا قطع لحم جاهزة تماماً لكي تلتهمها الهتافات، لأكتشف أنني لم أحمل وطني - الذي اقتصر على غزة دائماً – معي فقط، ولكنني حملت صوت الطائرات وجدران البيوت المهدمة ورائحة البارود وزغاريد الأمهات المودعات. وعلى الرغم من المسافة الطويلة التي كانت تفصل بيننا وبين غزة لحظتها، فقد كانت هذه المدينة أقرب إلينا من أي وقت مضى.
خوفنا هذا ليس خوفاً من الموت، بل من عجزنا عن طبع قبلة أخيرة على جباه من نحب
كتب الشاعر الغزي المقيم في الإمارات أحمد موسى واصفاً ما شعرنا به: "رغم أننا نبعد جغرافياً أكثر من 3000 ميل عن فلسطين، فإننا لا شعورياً إذا سمعنا صوت طائرة مدنية فوقنا نتوتر، وإذا أردنا التحرك من مكان إلى مكان، نقول لا شعورياً: كيف سنتحرك تحت القصف! لا شعورياً، نحن نعيش حرباً كبيرة ورهبة عظيمة متجذرة في ذاكرتنا وفي حياتنا اليومية".
الخسائر التي لا تظهر على شاشات التلفاز
في اليوم الثالث، استطعنا أن نتجاوز عتبة البيت، محاولين التغلب على الصواريخ - الشعورية - التي لم تتوقف دقيقةً واحدة عن استهداف شعورنا. فعلى الرغم مِن مرور سنة كاملة على انتهاء الحرب السابقة، ومرور أشهر طويلة على خروجنا مِن غزة، ما زلنا عالقين هناك، في الصواريخ التي لم تتوقف يوماً عن التفجر في خيالنا.
وهذا ما يجعلني أصدق ما كتبته في 21 أيّار/ مايو 2021 قبيل انتهاء الحرب السابقة، إذ قلت: "تبدأ الحرب الحقيقة عندما يتم وقف إطلاق النار، تلك الحرب الصامتة التي تخوضها أمهات الشهداء، والزوجات المنتظرات خلف الأبواب، والحبيبات اللواتي حرمن من كلمة حب أخيرة، والبيوت التي لن يعود لها أصحابها. بعد وقف إطلاق النار تدور معارك أخرى في القلوب التي فقدت، والتي انفطرت والتي انتظرت حتى عاد لها محبوها على النعوش. معارك متخفية لا تنقلها وسائل الإعلام، وليس فيها خبر عاجل واحد. نحن ندخل الحرب الحقيقية الآن فهل سنصمد؟".
لم أعِ يوماً أنني أصف نفسي عندما تحدثت عن مصطلح "الحرب الحقيقية" السنة الماضية، وصدقاً لم أكن أعرف أنني لن أستطيع الصمود أمامها، أنا الذي رأيت الهروب مِن غزة وسيلة مثالية للنسيان والتجاوز والبدء من جديد، لم أفكر يوماً فيما حدث، فكان يجب علي أن أدرك أنني لن أصمد، أنني لا أمتلك حتى وسيلةً واحدة تساعدني على الصمود. فمن حمل وطنه في الحقيبة، سيظل يقصف حتى وإن كان في آخر الدنيا، وسيخسر دائماً لكن خساراته هذه ليست خسارات ملموسة فلن تذيعها نشرات الأخبار، ولن تظهر على الشاشات.
تبدأ الحرب الحقيقة عندما يتم وقف إطلاق النار، تلك الحرب الصامتة التي تخوضها أمهات الشهداء، والزوجات المنتظرات خلف الأبواب
كعادة الحروب الأربع السابقة، كانت لحظة الإعلان عن التوصل لتهدئة تمثل طوق نجاة غريباً بالنسبة لي، ولكنني كما حدث في المرات السابقة، لم أدرك للحظة واحدة ما طبيعة هذه النجاة، لم ألمسها بيدي، ولم أعرف حقيقتها. وجاءت إلي الأسئلة ذاتها مرة أخرى: ترى هل ابتعاد الموت نجاة أم قربه هو النجاة؟ وإن كان جسدي قد نجا، فهل نجوت بشعوري الذي تناقص باستمرار كأنه زجاجة ماء مفتوحة في صحراء ظمآنة.
والآن، بعدما أصبحت الحرب من الماضي، أيقنت تماماً أن خروجي مِن غزة لم يكن نجاة، وأن الحروب تلاحقنا حتى في المنفى، وأننا بعد كل حرب، نخرج ناقصين. وها أنا أخرج من هذه الحرب ناقصاً كما كل الحروب السابقة تماماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...