سرير الورد
تعودت أن أفكّر وأنا أمشي، أنسحب فجأة من البيت أو العمل لأتجول في الشوارع، شيء في السير ينظّم أفكاري ويساعدني على الوصول للأسباب والنتائج. كل الأشياء تحدث في رأسي. الانتقام، الكره، القتل والعشق، الحوارات الطويلة التي أتبنى فيها الطرفين، أنا والغريب، أو أنا ونفسي. كل الأماكن التي أزورها هم أصدقائي، يساعدوني على التخفف من الأفكار وتحليلها. حتى حجرات البيت التي أتجول فيها بجنون كلما ضغطت رأسي الهموم، هم أفراد من أسرتي، يثقلوني بالمسؤولية، ومع ذلك يشهدون لحظات الارتباك والفرح وغيمات الحزن باتساع وتفهم. أما المكان الذي يخافه البائسون كأنه بئر عميق من العذاب، هو المكان الوحيد الذي يربّت على كتفي وقلبي ويهدهد روحي القلقة، المكان الذي لا أجيد التفكير وأنا فيه، لكنني أجيد الاستسلام: سريري، الحبيب الذي ألتقيه مع كل تعب ليقدم لي الدفء والخيال.
سرير له ذراعان وفراغ دافئ
بعد يوم طويل من السير والتفكير آتيك لتضمني وتمسح على رأسي، ما أن أفرد جسدي عليك حتى تخبرني أن كل شيء سيصبح بخير، لك سحر يزيل آلام ظهري إلى أن أغادرك، ويمنحني جسد صبي، حرّاً ومرتاحاً، لا يعبئ بشيء. تمتص قلقي ببساطة وتسكّن من عذاباتي بطريقتك اللذيذة، المؤقتة. تساعدني على أن أنسى، لا أن أعالج وأحل. معك لا أشعر بالوقت ولا الجهد، ولا التاريخ الطويل من التحمّل، معك أنسى ذكرياتي القديمة السيئة من البكاء والصراخ مع من سبقك، فقط ألقي نفسي بين ذراعيك، فقط أنسى وأتحرر وأذوب في كل الأشياء التي أحبها، في الكتابة، القراءة، مشاهدة الأفلام، وفيك.
معك لا أشعر بالوقت ولا الجهد، ولا التاريخ الطويل من التحمّل، معك أنسى ذكرياتي القديمة السيئة من البكاء والصراخ مع من سبقك، فقط ألقي نفسي بين ذراعيك، فقط أنسى وأتحرر وأذوب في كل الأشياء التي أحبها، في الكتابة، القراءة، مشاهدة الأفلام، وفيك... مجاز
على سريري دائماً كتاب، مائدة صغيرة تحمل اللابتوب، طرف شاحن الهاتف، دواء الصداع الذي لا يفارقني، وشعرات قليلة منثورة، طويلة لي، وقصيرة له. جوار سريري هناك دائماً خطافات صغيرة، أعلّق عليها همومي حتى لا تفسد علي الوقت الذي نقضيه معاً. فوق سريري تنمو ثمار من الأحلام، أقضمها كل ليلة لتظل طزاجتها في قلبي، وأعيد رسمها لتظل تنمو من جديد، على الحائط الملاصق لسريري الكثير من التعهدات التي ألصقها كل يوم، تعهدات تدفعني للمحاولة أن أكون ما أريده لنفسي، لا أنفّذها عادة، لكن أجدد إيماني بها وأملي فيها كل ليلة. في سريري مكان دافئ، له شكل التواء جسده، استقامة ظهره وصلابة كتفيه، أضع رأسي على فراغه وأنام.
سرير بروكرست الذي دُعيت إليه
لم يكن الحب كل شيء له، كان كل شيء لي. اقتربت منه دون أن يستدرجني، أحسن ضيافتي وأكرمني بكل ما يبتغيه العاشقون، أدخلني التجربة وهو يحذرني منها بنبل، دعاني لقضاء الليل معه وهو يؤكد أن المراكب لن تسير إلا لوجهة نتفق عليها، وأن لي مطلق الحريّة في الذهاب أو العودة، بل وأنه سيساعدني على قراري وإن كان ضد ما يريده. أدخلني إلى سريره وهو يؤكد أنه يقبلني كما أنا، بفورة غضبي وعنادي وتقلب مزاجي ومحذوراتي الكثيرة. أخبرني أن سريره يتميز بميزة عجيبة، أن طوله يلائم من ينام عليه، لكن السرير كبير وأنا فوقه صغيرة القد. قيدّني وعلى وجهه هذه الابتسامة التي تقتلني بعذوبتها، مطّ ساقي بقسوة وهو يمطرني بالكلام الحلو، مطهما حتى انفصلا عنّي ولم أعد أستطيع التحكم بهما، مطهما حتى أصبحا تماماً على مقاس سريره.
في سريره السحري وجدت قدمي فجأة أطول من الحافة، هذه المرة بدأ عمله بجديّة، ربطني بإحكام شديد وأنا أضحك وهو يلاطفني هذه الملاطفات التي تسعدني تماماً، ثم دون أن أشعر، أو نشعر كلانا، بتر قدميّ حتى لا أتجاوز السرير... مجاز
الليل يخفي كل شيء، والحب كذلك. لم أهتم بساقي الجديدتين مادام قلبي يخفق بالحب، لكن شيئاً واحداً أقلقني، كيف سأتمشى بهذه السيقان حتى أستطيع التفكير؟ لم أعد أشبهني، حتى ثيابي لم تخف عور ساقي، أسير بساقين لا يناسباني ولا يشبهان ما أعرفه عن نفسي. في سريره السحري وجدت قدمي فجأة أطول من الحافة، هذه المرة بدأ عمله بجديّة، ربطني بإحكام شديد وأنا أضحك وهو يلاطفني هذه الملاطفات التي تسعدني تماماً، ثم دون أن أشعر، أو نشعر كلانا، بتر قدميّ حتى لا أتجاوز السرير. هذه المرة صرخت، لكنه طمأنني وأخبرني أنني حرّة وأستطيع أن أغادر متى شئت، بل وأنه سيساعدني على قراري حتى وإن كان ضد رغبته. هذه المرة واجهته بالحقيقة: أنت تماثل ميثولوجيا "سرير بروكرست"، تفرض علي قالبك وتخضعني للانسجام، ثم تدعّي أنني حرة وأنك ستساعدني حتى أبقى كذلك.
الاشتياق لسرير الوحدة
المشكلة أنه علمني أن الحب ألا نكون معاً، ألا ننتظر بعضنا، ألا نتلهف على اللقاء. كل كلمات العشق ومشاهد الغرام التي حولي أحكم عليها بالسطحية والمبالغة وأحياناً الادعاء، ذلك لأنني لن أعش مثلها أبداً معه. الأفلام التي تدمع عيني والأغاني التي تمس قلبي أرجع تأثيرهم للاتقان وليس للحرمان. المشكلة أنه جعلني أستنكر كلمات الحب العادية التي يتبادلها الشريكان، أستغرب من وجود رجل خارج غرفة قياس الملابس ليبدي رأيه في ثياب امرأة، أتعجّب وجود رجل وامرأة في الدكاكين للشراء سوياً أو التسامر معاً. جعلني غير معتادة على بقاء حبيب معي دون أن ينظر في ساعته، في هاتفه، جعلني أنا أيضاً وهو معي أنظر في هاتفي وأشتاق للوحدة كملاذي. المشكلة أنه جعلني سعيدة رغم ذلك.
في كل أوقاتي أشتاق إليه، أمنّي نفسي بالليالي التي سنقضيها سوية، ناعم ومتسع ولي وحدي، أضجع وأنام وأقرأ وأكتب وأمارس طقوسي السعيدة وأنا عليه، أعرف أنه لن يرحل ولن ينظر في هاتفه، سيضمني بحنان حتى الصباح، يدفعني لمغادرته برفق، وعندما تخطو قدماي أرض الألغام خارجه، سيشجعني ويطمئنني ويقول: "اذهبي وانجحي وتحققي، وسأكون دائماً في انتظارك. تذكّري أنني سأدعم حريّتك وقراراتك دائماً، حتى وإن كانت ضد رغبتي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...