يحمل "مو"، زجاجة زيت الزيتون معه أينما ذهب، وكأنها تميمته الخاصة. يُظهرها حسب الموقف؛ إذا شعر بصداع، وإذا أحس بالجوع، أو حتى لتخفيف وطأة مشكلة قادمة لا محالة. مثل هذا التفصيل الشديد الخصوصية، تظهر تفاصيل أخرى، من الممكن أن يفهمها بشكل واضح من عايشها، مثل تفصيل يتعلق بالفلسطيني الذي غادر الكويت بعد الغزو، وهنا الحديث عن "مو نجار"، بطل المسلسل الأمريكي MO، للمخرج سلوفان نعيم، والذي يُعرَض على نتفلكس، وهو من كتابة بطل العمل محمد عامر، ورامي يوسف وأزهر عثمان.
ليس مهماً إذا كانت قصة العمل مرتبطةً بقصة شخصية للستاند أب كوميديان، الفلسطيني الأمريكي، محمد عامر، مع أنه في عروض عدة له أشار الى أنه من مواليد الكويت، وانتظر أكثر من 20 عاماً للحصول على الجنسية الأمريكية، من الممكن أن تكون قصةً شخصيةً، لكن الأهم طريقة توظيفها كي تصبح قصةً عامة.
ليس مهماً إذا كانت قصة العمل مرتبطةً بقصة شخصية للستاند أب كوميديان، الفلسطيني الأمريكي، محمد عامر، مع أنه في عروض عدة له أشار الى أنه من مواليد الكويت، وانتظر أكثر من 20 عاماً للحصول على الجنسية الأمريكية
هذه القصة العامة تحكي عن فكرة اللاجئ الفلسطيني أينما حل وارتحل، وأهمية العمل تكمن في طريقة صناعته، الأمريكية بحذافيرها من حيث طريقة التصوير والعرض، فالمسلسل في المحصلة أمريكي بحكاية عربية تتعلق بعائلة فلسطينية هاجرت إلى ولاية تكساس، وتحديداً مدينة هيوستن، بعد الغزو العراقي للكويت، وهي العائلة التي يعيش معها المشاهدون جزءاً من ماضيها عبر تقنية "الفلاش باك" التي تستهل بها كل حلقات المسلسل الثمانية، ويعودون معهم إلى حاضرهم، هذا الحاضر الذي يضحكنا حد البكاء، فالعمل من السهل تصنيفه ضمن فئة الكوميديا السوداء.
استطاع أيضاً أن يضع يده تماماً على جرح فلسطينيي الجيل الثالث بعد جيل النكبة.
أن تكون فلسطينياً في تكساس، هذا في حد ذاته تحدٍ كبير، فكيف إذا كانت ظروفك مثل ظروف عائلة "مو" التي رحل عنها الأب والمكونة من الأم يسرا (فرح بسيسو)، والابن الكبير المصاب بالتوحد سمير (عمر ألبا)، ومو (محمد عامر)، وناديا (شيرين دعيبس)، التي قررت الزواج من كندي، متحديةً كل الأعراف والتقاليد؟ هذه العائلة انتظرت أوراقها الرسمية لتعيش في العلن أكثر من 20 عاماً، والعلن هنا يتعلق فقط بالعمل بشكل قانوني، أما المدرسة والصحة، والجامعة والسكن، فهي حق لكل من قصد أمريكا واتخذها ملاذاً له.
جزئية العمل في العلن، هي الأساس الذي بُني عليه جسم الحكاية، وفيه الكثير من الإسقاط المتعلق بالحالة الفلسطينية، فالتوتر الدائم يحضر، والارتباك عند مشاهدة دورية شرطة، والتخفي، والمجازفة، والخوف من الوقوع في الخطأ في ظل عدم إتمام مشروع الهجرة، وحينها يكون الترحيل هو العنوان. العمل بشكل علني له علاقة بالحق، وهذا الحق لصيق بالفلسطيني في خصوصية يعرفها اللاجئ تحديداً؛ لم يجلس "مو" من دون عمل، لكنه اختار الأعمال التي يستطيع من خلالها التخفي، مثل بيع بضائع مقلدة عبر صندوق سيارته، والعمل في محل لعربي لكن في الخفاء، والعمل كـ"دي جي" في نادي تعرٍّ، ومن ثم قصد مزرعةً لأشجار الزيتون حيث ينهال على أصحابها بمعرفته الوطيدة بهذه الشجرة، والأهم بالنسبة له العمل في دوائر مظلمة غير مرئية إلى أن ينصفه القانون.
ضمن دائرة "مو"، شخصيات استطاعت أن تنقل الحكاية إلى مراحل متعددة، فعلاقته العاطفية التي تربطه بماريا (تيريزا رويز) الأمريكية من أصول مكسيكية، وهي مسيحية الديانة، وهذا التناغم الذي تجده في السباق على من ثقافته الأم هي الأهم، تم تجسيدهما بشكل لطيف، وتظهر معهما اشتباكات أخرى، مثل اختلاف الديانة الذي تلوّح به الأم يسرى، وعدم الارتباط الرسمي كي لا تشعر "ماريا" بأن "مو" يريد استغلالها للحصول على الجنسية بشكل أسرع، والاحتواء الذي تقدمه ماريا لمو، مع صديقهما المشترك نيك، وهو أيضاً من المهاجرين الأفارقة، وهذه الثلاثية تحكي الكثير، وجديرة بالوقوف عندها ولمس أبعادها.
المسلسل فيه الكثير من الإسقاط المتعلق بالحالة الفلسطينية، فالتوتر الدائم يحضر، والارتباك عند مشاهدة دورية شرطة، والتخفي، والمجازفة، والخوف من الوقوع في الخطأ في ظل عدم إتمام مشروع الهجرة
في المقابل، ثمة تلويح بالخوف المشترك الذي يعيشه العرب بشكل عام، والذي يكون السبب وراء عدم دعمهم لبعضهم البعض، وتلمسونه مثلاً في الشخصية التي أداها الكوميديان المصري، باسم يوسف، لكن في الوقت نفسه الدعم يحضر عندما يعلن أحد المهاجرين العرب نيّة زواجه من أمريكية، فهذا الدعم له علاقة أيضاً بالشكل القانوني لكل مهاجر.
ثمة ذكاء في إيصال الحالة، تحديداً إلى الجمهور غير الناطق بالعربية، الذي لا يتلاءم معه إلا مثل هذا النوع من السيناريوهات، من نوع السهل الممتنع، الذي يترك المشاهدين مع ضحكة وفكرة، ويوصل الهدف المرجو منه، من دون إقحام للتفاصيل التي لا يعرف عنها شيئاً.
ثمة ذكاء في إيصال الحالة، تحديداً إلى الجمهور غير الناطق بالعربية، الذي لا يتلاءم معه إلا مثل هذا النوع من السيناريوهات، من نوع السهل الممتنع.
ثمة الكثير من المشاهد المؤثرة في المسلسل الذي يستحق المشاهدة، منها المشهد في محكمة تكساس، بعد أن قرر "مو" تغيير المحامية العربية، واستعان بمحامية بولندية يهودية ونجح من خلالها في الوصول إلى المحكمة، فهذه اللحظة التي كان ينتظرها "مو" طوال حياته وقد تحوّلت إلى لحظة انفجار كل المشاعر المدفونة المتوارثة أباً عن جد، فهو في قمة توتره، والعرق يتصبب منه طوال الوقت، وعيونه غير ثابته، وقلق، وحيرة، وتساؤلات بلا أجوبة. تلك اللحظة المنتظرة، والتي تستدعي الهدوء، أصبحت لحظةً أشبه بالمعاتبة ليس عن طريق التعبير بالكلمات، بل عن طريق الحركة ولغة الجسد، وقد استطاع "مو" إيصالها بكل حرفية، وما حدث في أثناء المحكمة من أقوى المشاهد وقد تصل بك إلى حد البكاء.
هذا الحد أيضاً يظهر بقوة عندما قررت الأم "يسرى" مواجهة "مو"، وقد أدت دورها ببراعة فعلاً الممثلة فرح بسيسو، المهتمة بالأنتيك وشراء الزجاجات التي تلفها بقطعة من الحطة الفلسطينية وترويها بزيت الزيتون الذي تصنعه، وذلك عندما وقفت أمامه مانعةً إياه من الصراخ، وقالت: "مش ذنبنا إنه صدام هدم حياتنا، ولا ذنبنا إنه الصهاينة سرقوا أرض أجدادك وأرضنا وخلّوا عيون أمهاتنا نشفت من كتر البكاء، ومع هيك لازم نضل عايشين، وزيت الزيتون مش مشروع تجاري زيت الزيتون هو إحنا".
من جهة أخرى، ولأن العمل مليء بالتفاصيل الخاصة، استطاع "مو" فعلاً أن يحكي ما عاناه الفلسطيني الذي خرج من الكويت بعد الغزو العراقي، فقصة إطفاء السجائر على جسم والده، ليس قصةً خيالية، بل حقيقية، وهذا التفصيل موجع، إلى حد عدم القدرة على البوح به بشكل علني، كي تظل العلاقات الودية بين الشعوب صافيةً. حتى في المسلسل لم يتم الحديث عنها بشكل مفصّل، وأعتقد للسبب عينه.
من جهة أخرى، ولأن العمل مليء بالتفاصيل الخاصة، استطاع "مو" فعلاً أن يحكي ما عاناه الفلسطيني الذي خرج من الكويت بعد الغزو العراقي، فقصة إطفاء السجائر على جسم والده، ليس قصةً خيالية، بل حقيقية
في المحصلة، نحن أمام عمل مصنوع بذكاء، وأداء كافة الممثلين فيه كان فيه كيمياء تستحق الإشادة. لم تظهر شخصية عابرة من دون هدف، وشخصية سمير الشقيق الأكبر لمو، المصاب بالتوحد، أهميته تكمن في عدم الكذب، فهو لا يستطيع الكذب ويحكي الأشياء كما هي، في حضرة عالم مليء بالادّعاءات. ينتهي العمل بمشهد مؤثر، ينبئ بجزءٍ ثانٍ، فمو يصبح عالقاً أمام جدار المكسيك، وهذا الجدار له من أبعاده الفلسطينية الكثيرة، ولا يهم المنفى وعنوانه، وماذا حملت الحقائب عند لحظة الرحيل، فالأهم أن هذا العمل، بالحكايات التي قدّمها، استطاع أيضاً أن يضع يده تماماً على جرح فلسطينيي الجيل الثالث بعد جيل النكبة، والذي من المطلوب منه أن يحمل معه النكبات المتتالية، وأن يحمل منفى وراء منفى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه