بينما كانت ع. أ.، وهي سورية تعيش في أحد مخيمات البقاع اللبناني، وأم لثلاثة أطفال يعانون من قصور عقلي وجسدي وضمور عضلي، تُحضِّر العشاء لأسرتها عند مغيب يوم شتوي عام 2020، افتقدت ابنتها البالغة من العمر 12 عاماً.
بعد أن بحثت عنها، وجدتها في الخيمة وتبدو عليها علامات الرعب. كانت حينها قد وقعت ضحية اعتداء جنسي من طفل متحرّش في المخيم يكبرها بعامين فقط.
تروي الأمّ الحادثة لرصيف22: "قبل عامين، كانت ابنتي تستطيع الحركة بشكل جزئي، وكان أولاد المخيم يضربونها بالحجارة ويتنمرون عليها ويقلدون حركاتها وبعض الأمهات يضحكن، ولذلك كنت أمنعها من الخروج. في ذلك اليوم استغل الطفل المعتدي، وهو قريب لشاويش المخيم، وقوعها على الأرض في أثناء عودتها من الدكان، وسحبها إلى خيمته بحجّة مساعدتها على النهوض. أغلق الباب بغياب والدته، ثم أغلق فم ابنتي، واعتدى عليها".
ذهبت لأهله لأشتكي، فتهجموا عليّ ونكروا أن تكون لابنهم يد في ما حصل لابنتي.
لم تروِ الابنة الحادثة فوراً لوالدتها. كانت فقط تبكي وتشير إلى الطفل. تضيف الأم: "عندما بدلت لها ملابسها، لاحظت وجود دماء، واعتقدت أنّها دورتها الشهرية الأولى. لكن لاحظت وجود خدوج داخلية، وآثاراً لأظافر على جسدها ورجليها الضامرتين. كررت أسئلتي لها: من اقترب منك؟ لم تجِب. لكن جارتي رأت الطفل عندما رفعها عن الأرض. ذهبت لأهله لأشتكي، فتهجموا عليّ ونكروا أن تكون لابنهم يد في ما حصل لابنتي".
القضية ماتت بمرور الوقت
اتصلت الأمّ بجمعية حماية المختصة بمنع العنف ضد الأطفال، وبعد ساعتين حضرت إحدى الموظفات. "طلبت منّا الذهاب معها إلى الطبيب الشرعي. اقترب الشاويش وأصرّ على مرافقتنا وتكذيبنا، فمنعته الموظفة. كشف الطبيب على ابنتي وأخبرنا بأنّها متضررة بشكل خارجي، وبأنّها تعرضت لمحاولة اغتصاب. في هذه الأثناء، تعرّضنا لضغط كبير من صاحب الأرض والشاويش. قالوا إنّنا نريد تشويه سمعة المخيّم، هذا غير نظرات الناس إلي وإلى ابنتي بأنّنا سبب المشكلة مع تبرئتهم للجاني".
تقدمت العائلة ببلاغ وشكوى قضائية لمخفر الدرك مع إثبات التقرير الشرعي، بتوجيه من الجمعية، ولكن الأوراق الثبوتية وقفت عائقاً لعدم امتلاكهم إقامةً صالحةً في لبنان. عمل الأب على تسوية وضع إقامته ودفع المستحقات المالية ليكمل تحصيل حقّ ابنته قانونياً، ولم يكن ذلك بالأمر السهل. تتابع السيدة: "قالوا لنا بعد خمسة أشهر يمكنكم مراجعة المخفر. ولكن في كلّ مرة نذهب لمتابعة قضيتنا، لا جواب".
خرجت العائلة من المخيم إثر الحادثة، وحُرموا لفترة من المساعدات المخصصة لأطفالهم بسبب تغيير مكان سكنهم، كما تعرضوا لتهديدات بغية الضغط عليهم لإسقاط الدعوى. ومن جهة أخرى، وبسبب الإغلاق خلال جائحة كوفيد19، لم تتمكن الأم من تحصيل جلسات دعم نفسي لابنتها: "صارت ابنتي تخاف أكثر. حتى نحن في البيت وبشكل لا إرادي صرنا نلومها. لماذا خرجتِ؟".
بعد سنة وأربعة أشهر، أيقنت العائلة أنّ قضيتها ماتت. لكن مخفر بعلبك اتصل بهم، وطلبوا من الأب وابنته الحضور؛ ليتفاجؤوا بوجود الطفل المعتدي. "كأنّ ابنتي شعرت بالنصر، عندما رأتهم في المخفر يضربونه. وبالرغم من أنّ كلامها غير مفهوم، إلّا أنّها كانت تلفظ ببطء: أخدولي حقي وضربوه"، تقول الأم، وتشير إلى أن الطفل سُجن لمدة محدودة فقط، وخرج بعدها لمتابعة حياته.
من أحد مخيمات اللجوء السوري في لبنان - تصوير مزنة الزهوري
معدلات عنف مرتفعة
هذه القصة واحدة من آلاف الحكايات التي تعاني منها عوائل ذوي الإعاقة السوريين في لبنان، وتبقى غالباً في الخفاء، إذ إن هذه الفئة هي من الفئات الأكثر ضعفاً، وتتعرض للعديد من الضغوط المجتمعية في حال تعرّض أحد أفرادها للاعتداء الجنسي أو التحرش، بالإضافة إلى معاناتهم اليومية مع صعوبات تأمين احتياجات أبنائهم وبناتهم من الأدوية والمستلزمات الخاصة، وتكاليف العلاج، وفرص الحصول على إرشادات ودعم نفسي للأبناء والأهل.
وفي حال حصول هكذا نوع من الاعتداءات، يواجه اللاجئون صعوبات عند التقدم بدعوى متعلقة بأوراقهم الثبوتية، وبشكل عام أمامهم ثلاثة خيارات: إما التقدم بشكوى فردية بشرط امتلاك إقامة صالحة، أو توكيل محامٍ، الأمر الذي يتطلب تكاليف ماليةً كبيرةً، أو اللجوء إلى الجمعيات المتخصصة التي يمكن أن تقدّم الإرشاد والمتابعة مع المحامين المختصين والنيابة العامة والضابطة العدلية والقضاء.
تقدمت العائلة ببلاغ وشكوى قضائية لمخفر الدرك مع إثبات التقرير الشرعي، ولكن الأوراق الثبوتية وقفت عائقاً لعدم امتلاكهم إقامةً صالحةً في لبنان. عمل الأب على تسوية وضع إقامته ودفع المستحقات المالية ليكمل تحصيل حقّ ابنته قانونياً، ولم يكن ذلك بالأمر السهل
وتقدّر منظمة الصحة العالمية أن 15% من سكان العالم، أي ما يقارب مليار شخص، يعانون من أحد أشكال الإعاقات، وثمانين في المئة منهم يعيشون في البلدان النامية. تتعرض هذه الفئة أكثر من غيرها لحالات العنف بمختلف أشكاله، بمعدل يصل حتى أربعة أضعاف، وللأمر أسباب عدة منها وصمة العار والتمييز والجهل والافتقار إلى الدعم اللازم لهؤلاء الأشخاص ومن يقومون على رعايتهم.
وبالتوازي مع هذه الأرقام، فإنّ طفلاً من بين كل طفلين في لبنان معرّض لخطر العنف الجسدي أو النفسي أو الجنسي، في الوقت الذي تكافح فيه الأسر لمواجهة الأزمة المتفاقمة في البلاد، بحسب تقرير حديث صادر عن منظمة اليونسيف.
معاناة ونقص في الدعم والحماية
يشرح الناشط اللبناني فايز عكاشة، مؤسس ورئيس جمعية "مؤشرات تنموية" التي تسعى إلى دعم ذوي الإعاقة والمطالبة بحقوقهم، عن الانتهاكات التي تتعرض لها هذه الفئة في لبنان، قائلاً إنّ معظم العوائل ترى ابنها أو ابنتها من ذوي الإعاقة في "مرتبة ثانية"، سواء بالمعاملة ضمن العائلة أو حتى تحصيل الخدمات الأساسية. "يبدأ التعنيف من الأهل الذين ينتقدون الشكل وطريقة الحكي والتصرف والحركات وغيرها، ويمنعونهم في كثير من الأحيان من التعبير عن آرائهم، وصولاً إلى التعنيف من المجتمع بأشكال مختلفة".
وتكمن المعاناة الأكبر بحسب ناشطين مجتمعيين، عندما تكون السيدة أو الفتاة من ذوي الإعاقة، فتكون فرصها في الخروج والحصول على التطور والدعم أقل، وتتعرض للاستغلال والتعنيف أكثر من الرجل ذي الإعاقة، وفي حال تعرضها لأي حادث عنف يوضع اللوم عليها وعلى والدتها وتُتَّهم بنقص الوعي.
أما الخطورة الكبرى فتحدث عندما يستغل بعض أفراد المجتمع ضعف هذه الفئة، أو معاناتها لتنفيذ رغباتهم وخاصةً الانتهاكات الجنسية، وهي حوادث باتت متكررةً في مخيمات اللجوء بشكل خاص، وكثيراً ما تبقى من دون عقاب وحتى من دون تداول بالمستوى المطلوب نتيجة خوف العائلات وخجلها.
يقول عكاشة: "نذهب لزيارة العوائل التي نعرف عن وجود حالات خاصة داخل منازلها، بغرض تقييم الاحتياجات ومحاولة مساعدتهم، ولكن بعضهم يخفون أبناءهم وبناتهم، وينكرون وجود ذوي إعاقة في منزلهم، خشيةً من عار المجتمع. هؤلاء الأشخاص محرومون ومغلقة عليهم الأبواب. وهم أكثر عرضةً للتعنيف. وقد رصدنا العديد من الحالات التي يقوم بها المحارم والأقارب المحيطون بالمعوّق أو المعوّقة بالتعنيف والانتهاك الجنسي".
وعليه، لا بدّ من دعم أهالي ذوي الإعاقة للخروج من الضعف والسكوت عن الانتهاكات التي يتعرضون لها أو يتعرض لها أبناؤهم وبناتهم. في مجتمعنا يخشى الناس أن تُكشف الحقيقة عن جريمة في حقّ المعوّق والمعوّقة، ويُعطى الحقّ للمعتدي، وتكون الإدانة للضحيّة.
عند وصول شكوى من أي شخص تعرّض لحالة اعتداء جسدي أو جنسي، مباشرةً يقوم الأخصائيون والمرشدون الاجتماعيون من المنظمة بالتدخل وتحويلها إلى منظمات متخصصة بالحماية، ونقلها إلى مأوى آمن
كيف يحمي ذوو الإعاقة أنفسهم؟
يصنّف عكاشة أنواع حالات ذوي الإعاقة بين مدركة وغير مدركة: "على الأهل أن يقوموا بتوعية الشخص المدرك وإرشاده ليحمي نفسه ويدافع عنها. أما عن غير المدرك، مثل حالات الإعاقات الدماغية، فتكون مسؤولية الأهل مضاعفة الانتباه الدائم له وحمايته في كل مكان، وعدم تركه وحده في مكان غير آمن، وخاصةً الأشخاص من ذوي متلازمة داون، لأنّهم سريعو الانجذاب إلى الآخرين ولا يدركون نوايا الآخر وحقيقة تصرفاته ومشاعره".
ويرى أنّه يوجد تقصير واضح من الجمعيات المعنية بحقوق ذوي الإعاقة: "يعملون ولكن لا تكفي الجهود المبذولة. لا بدّ من تكريس أهمية حصول هذه الفئة على حقوقها. هناك فجوة في العمل الاجتماعي المقدّم من الجمعيات، وينبغي أن يكون الدور فعّالاً بالتوعية والإرشادات لوصول الضحايا إلى حماية أنفسهم قانونياً".
هؤلاء الأشخاص محرومون ومغلقة عليهم الأبواب. وهم أكثر عرضةً للتعنيف.
وفي هذا الصدد، يوفر مرصد حقوق الأشخاص المعوقين الأدلة التوعوية والتدريبية المتعلقة بقضايا الإعاقة، ويعمل فريق المرصد على تدريب المعوقين حول مبادئ وآليات الرصد، كي يتمكنوا من إنشاء حملات مطلبية والمدافعة عن حقوقهم المشروعة. ويهدف المرصد إلى إيصال صوت هذه الفئة من المواطنين اللبنانيين واللاجئين الفلسطينيين والسوريين في لبنان، عبر توثيق الشكاوى حول انتهاك حقوقهم وفق التشريع المحلي أو التشريعات الدولية ذات الصلة.
ويحث المرصد الأشخاص المعوقين على التبليغ عن أي انتهاك يطال حقوقهم في شتى المجالات، ومنها التربية والتعليم والعمل والصحة، وفي هذه الحالة يمكن تعبئة استمارة شكوى إلكترونية عبر موقع المرصد، الذي يضمن السريّة في التعامل مع المعلومات الشخصية الواردة فيها. كما يمكن لأي شخص التبليغ عن انتهاكات تطال حقوق الأشخاص المعوقين عبر الاتصال على الرقم 01807367، وللمرصد مراكز منتشرة في كل لبنان، ومن ضمنها مركز في بلدة بر الياس البقاعية.
وضمن السياق نفسه، التقى رصيف22، بمديرة مركز منظمة "إنترسوس" في بلدة بر الياس البقاعية، ثراء ياسين، وهي مديرة قسم المرشدين الاجتماعيين أيضاً، وتحدثت عن الخدمات التي يقدمها المركز من دعم اجتماعي وقانوني وتوعوي وغيرها لمختلف فئات المجتمع والجنسيات.
وتشرح ياسين عن آلية عملهم في المركز: "عند وصول شكوى من أي شخص تعرّض لحالة اعتداء جسدي أو جنسي، مباشرةً يقوم الأخصائيون والمرشدون الاجتماعيون من المنظمة بالتدخل وتحويلها إلى منظمات متخصصة بالحماية، ونقلها إلى مأوى آمن فوري عند الحاجة، وفي حال كان التبليغ على الهاتف يعمل الفريق نزولاً عند رغبة الضحية، ويوفّر الإرشادات والدعم عبر الاتصال".
وفي حال كانت الضحية من فئة الأطفال، تُحال إلى المنظمات المتخصصة مثل منظمة "إنقاذ الطفل"، و"المجلس الدنماركي"، وجمعية "حماية". وإلا يعمل المرشدون الاجتماعيون مع الحالة بجلسات مباشرة وفورية لتقييم وضعها وخطورتها، وتحال إلى إدارة الحالات، وهنا يقرر هذا القسم مدى احتياجها إلى دعم قانوني، فيتمّ توكيل محامٍ عن الضحية بموافقتها، ويرشدها إلى خطوات رفع الدعوى في المخفر مع مرافقته لها في الجلسات، ثم يرفع الدعوى وتدعم الجمعية كافة التكاليف ذات الصلة. وتشير المتحدثة أيضاً إلى دعم الحالات بمساعدة مالية سريعة في حالات الطوارئ، مثل الاعتداء أو الاغتصاب.
وعن معرفة المحيط المجتمعي بخدمات المركز وخاصة ذوي الإعاقة، تقول ياسين: "تزداد الأعداد المستفيدة من خدماتنا، ويعرفون عنها ويستطيعون الوصول من مختلف المناطق المحيطة، والمركز مؤهل لوصول ذوي الإعاقة ودعمهم. وتستطيع أيّة حالة التبليغ وطلب المساعدة عبر الخط الساخن للمنظمة 81736338".
الحاجة كبيرة وملحّة، والمشكلة دائماً في قلّة الدعم والتمويل.
وتختتم حديثها: "نتمنى أن نبني عملاً مشتركاً بين المنظمات الدولية والجمعيات المحلية لذوي الإعاقة، ولكن المشكلة دائماً في قلّة الدعم والتمويل. الحاجة كبيرة وملّحة، ونبقى مهما فعلنا لخدمة ذوي الإعاقة مقصّرين تجاههم".
لا زالت الجمعيات غير قادرة على التدخل الكافي والحقيقي المطلوب، ولا تملك القدرة اللازمة لإقناع الضحايا بالتعامل مع قضاياهم والمطالبة بحقوقهم. ولكن لا بدّ من التأكيد على وجود جهات عديدة تدعم قضايا هذه الفئة وحقوقها، ولا بدّ لكلّ فرد من أفراد المجتمع العمل جاهداً على دعم أقرانه، والتبليغ عن العنف ضدهم.
أرقام اتصالات داعمة:
الخط الساخن للقوى الأمنية في لبنان الخاص بالعنف الأسري 1745
الخط الساخن لمنظمة "أبعاد" 81788178
الخط الساخن لجمعية "حماية" 03414964
الخط الساخن لجمعية "بسمة وزيتونة" 76939238
والمزيد من الأرقام والعناوين لعدد من المراكز التي تقدم خدمات ذات صلة هنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 20 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...