شهدت الأيام السابقة سجالات واسعة بين أدباء وشعراء مصريين على موقع فيسبوك، بدأت على خلفية اتهامات بسرقة الأعمال الأدبية، كليّاً أو جزئيّاً، وطالت كالعادة العلاقات الشخصية، في محاولة لوصم هذا الطرف أو ذاك أخلاقيّاً، في مجتمع يعيش حالة "تديين" عميقة يمكن للناس فيها أن يتساهلوا مع الرشوة والفساد والذبح جهاراً نهاراً، بينما لا يتقبلون ما يعتبرونه خروجاً عن الأخلاق حسب وجهات نظرهم!
لكن آخرين أخذوا السجال إلى ساحة "التطبيع الثقافي" مع إسرائيل إمعاناً في الخصومة وبحثاً عن إدانة تقصم الظهر، باعتباره السلاح الأشد وصماً للخصم، والأسرع قتلاً له، خاصة إذا رافق الخطاب أداء صوتي وحركي مبالغ فيه، مع ادّعاء الوطنية، ثم إطلاق "نداء" واضح للجماعات الدينية لتدخل ساحة السجال وتحسمه ضد "المطبِّع"، وتلك القوى جاهزة دائماً، ودموية أحياناً!
التطبيع مع رام الله
في الفترة التي اشتغلتُ فيها مسؤولاً إداريّاً في الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، حاول أمين عام الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، الذي يضم كل الكتاب الفلسطينيين في الضفة وغزة وفي الداخل الفلسطيني وفي الشتات، أكثر من مرة، دعوة المكتب الدائم للاتحاد العام للانعقاد في "رام الله"، وهو ما كان يُقَابَلُ بفتورٍ، بدليل أن الدعوة لم تُقبل ولم توضع موضع التنفيذ حتى اليوم رغم مرور سنوات. فرؤساء اتحادات الكُتَّاب العربية الأعضاء في الاتحاد العام كانوا يخافون، ولا يزالون، من أن يواجَهوا في بلدانهم بتهمة التطبيع، وقد يستغلها خصومهم الانتخابيون في تشويه سمعتهم وإقصائهم عن مناصبهم.
مَن يعرف أمين عام الاتحاد الفلسطيني الشاعر مراد السوداني، كما أعرفه، لا يشك لحظة واحدة في وطنيته وعروبته، كما أن محاولاته لا تتوقف ولا تفتر لصنع رأي عام ثقافي عربي مساند لقضية فلسطين، إضافة إلى أنه خدم أدباء وشعراء ومترجمي فلسطين لتحسين أوضاعهم الثقافية والمعيشية في الداخل والمهاجر، بترشيحهم للجوائز العربية هنا، ودفع كتبهم إلى الهيئات ودور النشر العربية هناك، وتكريم رموز الثقافة الفلسطينية في الداخل والشتات... وهذه الأفعال جعلته رمزاً من رموز "النضال الثقافي" الفلسطيني من وجهة نظر زملائه، ومن هنا لا بد أن نتوقف أمام رؤيته لدعوة الأدباء العرب إلى "فلسطين"، وتألمه من رفض غالبيتهم.
دعم المرابطين حول المسجد الأقصى
بعكس مفهوم الأدباء والمثقفين العرب، يرى المثقفون الفلسطينيون أن مَن يقاطع "رام الله" إنما يقاطع فلسطين ويسهم في عزلتها، وأن تواجد المثقفين العرب يثري الحركة الثقافية الفلسطينية، ويرسل رسالة إلى أدباء فلسطين المُحَاصرين من كل الجهات بأنهم ليسوا وحدهم... كما أن المثقف العربي أثناء زيارته لـ"رام الله" يتحرك على أرض فلسطين التاريخية، وإنْ اضطر للحصول على "ختم" دخول إسرائيلي.
تناقشتُ مع أمين عام الاتحاد الفلسطيني مطولاً مرات عدة في الأمر، واتفقنا على ضرورة عقد مؤتمر موسع يعيد تعريف "التطبيع الثقافي" في ظل المستجدات على أرض فلسطين بعد أوسلو ومدريد والحكم الذاتي وتحرير غزة...
"يرى المثقفون الفلسطينيون أن مَن يقاطع رام الله إنما يقاطع فلسطين ويسهم في عزلتها، وأن تواجد المثقفين العرب يثري الحركة الثقافية الفلسطينية، ويرسل رسالة إلى أدباء فلسطين المُحَاصرين بأنهم ليسوا وحدهم"
بل في أحد المؤتمرات التي كانت تُناقش موضوع "مدينة القدس: المكان والمكانة"، عُرض فيلم تسجيلي –أظن أنه لمخرج أردني من أصل فلسطيني- يعرض معاناة "المرابطين" الفلسطينيين الذين يعيشون حول المسجد الأقصى ويعتاشون من بيع بضائع بسيطة للسياح ويواجهون اضطهاد قوات الاحتلال لهم ومصادرة بضاعتهم، ومحاولة إخراجهم من المدينة، فيما هم يستميتون للبقاء حفاظاً على الوجود العربي حول المسجد الأقصى... في هذا المؤتمر ساد رأي بين المثقفين الحاضرين، وأغلبهم فلسطينيون ومشهود لهم بالوطنية، يقول بضرورة مساندة هؤلاء بشراء بضاعتهم، ولن يتم ذلك إلا بزيارتهم للقدس ذاتها.
التطبيع الثقافي قبل الاتفاقيات وبعدها
ثمة اتفاق الآن على أن عدم وضوح تعريف "التطبيع الثقافي"، وتمدده وانكماشه حسب الموقف والشخص ونوع الصراع وتوقيته والغرض منه، إلخ، أصبح مقلقاً، لأنه يُستخدم كسلاح للنيل من مثقفين لهم مواقفهم الوطنية ويرفضون الاحتلال، ويقفون بجانب حق الشعب الفلسطيني في العيش بسلام في دولة آمنة، سواء بحل الدولتين، أو الدولة الواحدة التي تستوعب العرب والمحتلين.
فالتعريف الحاكم "المؤمل" لا بد أن يفرق بين زيارة الأراضي تحت الحكم الفلسطيني في الضفة وغزة وبين زيارة الأرض المحتلة عام 1948، كما يجب أن يضع في اعتباره "الهدف" من الزيارة، فالزيارات التي تهدف إلى التعاون أو التجارة مع الاحتلال لا تتساوى مع التي ترمي إلى مساندة فلسطينيي الداخل، والزيارات الرسمية ليست كالزيارات الفردية كالتي أقدم عليها الكاتب المسرحي الراحل علي سالم، والتي أصدر بعدها كتاب "رحلة إلى إسرائيل" داعياً فيه إلى التعامل مع "إسرائيل" بشكل طبيعي، وغاضّاً الطرف عن استمرار احتلالها لأراضي فلسطين وجنوب لبنان ومرتفعات الجولان وقرية أم الرشراش المصرية التي تحولت إلى ميناء إيلات.
كان الصراع العربي الإسرائيلي يتخذ شكل المواجهة العسكرية المباشرة قبل زيارة الرئيس الراحل أنور السادات للقدس عام 1978، ثم توقيع اتفاقية كامب دايفيد في العام التالي. وبعدها، عمليّاً، استحالت الحروب الكبرى ضد إسرائيل بخروج مصر من المعادلة وتغيير بوصلتها تجاه دولة الاحتلال. صحيح أنه قامت "معارك"، لا يمكن وصفها بأنها شاملة، في بيروت عام 1982، وفي غزة، وفي جنوب لبنان، لكن استراتيجية هذه "المواجهات" اختلفت من نظرية تحرير كامل فلسطين إلى كسب مواقف مرحلية بهدف تحسين الأوضاع التفاوضية، أو لإجلاء قوات الاحتلال عن مناطق محدودة.
"عدم وضوح تعريف ‘التطبيع الثقافي’، وتمدده وانكماشه حسب الموقف والشخص ونوع الصراع وتوقيته والغرض منه، إلخ، أصبح مقلقاً، لأنه يُستخدم كسلاح للنيل من مثقفين لهم مواقفهم الوطنية ويرفضون الاحتلال"
هذا التغير في المفهوم الاستراتيجي، وفي العقيدة العسكرية، إضافة إلى "خلق" أوضاع وكيانات وجغرافيات جديدة على الأرض، كان لا بد أن يستتبعه تعريف جديد لمفهوم التطبيع. ففي شكل العلاقات بين العرب والاحتلال قبل الاتفاقيات كان يُعَدّ أي اتصال مع العدو، بأي شكل من أشكال الاتصال، خيانة للوطن تستوجب المحاكمة، بل والإعدام، لأن "الوطن" العربي كله في حالة عداء وحرب مع "الكيان" الغاصب، حتى أن بعض الدول التي كانت لها علاقات معه، كانت تحرص على إخفاء ذلك حتى لا يطالها غضب المواطنين العرب من المحيط إلى الخليج... وبعض المحاضر والمعلومات التي وردت في الكتب، عند محمد حسنين هيكل على سبيل المثال، تشير إلى زيارات "متخفية" قام بها قادة عسكريون وسياسيون إسرائيليون إلى بعض الدول العربية، كما أن ثمة إشارات وأخباراً عن تبادل المعلومات، حتى أن إسرائيل أُبلغت، على أعلى المستويات، بخطط الحروب قبل اندلاعها، حسب هيكل!
تطبيع الأفعال العابرة
المثقون العرب بحاجة ماسة إلى إعادة تعريف التطبيع الثقافي، لنزع سلاح المزايدات ووقف ميل بعضهم إلى استهداف آخرين نتيجة أفعال تبدو صغيرة. فهل يعد تطبيعاً، مثلاً، أن يشارك مثقفون عرب في مؤتمر دولي يشارك فيه مثقفون إسرائيليون، حتى وإنْ حرصوا على عدم التجاور في ندوة واحدة والجلوس على منصة واحدة؟ وهل يعد تطبيعاً مشاركة أديب مصري في مسابقة للقصة القصيرة مفتوحة لمشاركين إسرائيليين؟ حدثت بالفعل لقاءات مثل تلك واختلفت ردود أفعال شعراء وكُتَّاب ومثقفين مصريين تجاهها، في ذات اللحظة ونفس المؤتمر أو اللقاء، فقد قبل أحدهم ورفض آخر، فهل الذي قبل الجلوس على المنصة باعتبار أن الثقافة عالمية، وأن جلسته لن تزيد معاناة الشعب الفلسطيني، خائن؟ وهل الذي رفض الجلوس أكثر وطنية؟
السؤال الأهم: هل تتساوى تلك الأفعال العابرة الصغيرة مع أفعال كبيرة مثل زيارة الأرض المحتلة والترويج لـ"طبيعية" إسرائيل والتغاضي عن ممارساتها ضد الفلسطينيين تحت الاحتلال كما فعل علي سالم؟ وهل زيارة علي سالم باعتباره مثقفاً حرّاً تتساوى مع زيارة الشيخ علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر، والمفتي السابق، باعتباره رسميّاً بوجه من الوجوه؟ وهل تتساوى الأفعال الصغيرة المذكورة مع التعاقد مع الحكومة الإسرائيلية أو مؤسسات أهلية فيها، مثل دور النشر مثلاً أو الإذاعة والتلفزيون وشركات الإنتاج، على ترجمة أعمال أدبية أو الظهور على الشاشات أو إنتاج أعمال مشتركة، إلخ؟
كثيرون سيرون أن الأفعال الصغيرة إذا تجمعت ستنتج مشهداً كبيراً يساهم في "تقبُّل" التعامل مع المؤسسات الثقافية في إسرائيل، بل ويرون أن التعامل مع مؤسسات دولية تعترف بإسرائيل نوع من الاعتراف "الثقافي" بها، في حين أن آخرين، لا يمكن الاستهانة بهم، عدداً وقيمة، يرون أن الوضع تغير، وشكل الصراع لم يعد كما كان في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وبالتالي سينادون بوجود مفاهيم جديدة تستوعب تلك المتغيرات... وكلا الموقفين له وجاهته وأسانيده وحججه، وبالتالي فإن هذا يستدعي إعادة مناقشة الفكرة، على أن يتصدر هذه المناقشة الأدباء والمثقفون الفلسطينيون أنفسهم، باعتبار أنهم الأقدر على معرفة ما الذي ينفعهم وما الذي يضرهم... فهل يستطيعون ذلك؟
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةيعني اذا اليسا اللي عملت اغاني وفيديو كليبات عن العنف ضد النساء وقال حملت قضايا المرأة العربية، غنت ودافعت عن المغتصب سعد المجرد... قرطة منافقين.
Farah Alsa'di -
منذ يومرغم قديه الحادثة موجعة ومؤسفة إلا أني مبسوطة أنه هاي من المرات القليلة تقريباً اللي المجتمع الأردني بوقف فيها مع "المرأة" الضحية... عشان تعودنا يكون الحق عليها دايماً أكيد!
Line Itani -
منذ يومعجيب في بلد ومجتمع "محافظ" زي المصري انه يكون فيه حرمات على أشياء كثيرة بس الموت لا - ودا بس لأن فيها أرض ومصاري..
jessika valentine -
منذ يومينالمشكلة هي المجتمع واللغة انبثقت منه وتغذي هذا الفكر الذكوري. لن تتغير اللغة الا إذا نحن تغيرنا. وزيادة على الأمثلة التي قدمتها للغة العربية، الانكليزية ليست افضل حالا فيُقال للقميص الابيض الذي يُلبس تحت القمصان wife beater باللغة الانكليزية، والنق bitching. وعلى سيرة say no، يقول الذكور المتحدثون باللغة الانكليزية no means yes and yes means anal. على الدجاجة أن تكسر قوالب التربية لبيضها الإناث والذكور لان أحدا سواها لن يفعل.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعit would be interesting to see reasons behind why government expenditure on education seems to be declining -- a decreasing need for spending or a decreasing interest in general?
Benjamin Lotto -
منذ أسبوعجدا مهم البحث