لم يكن الطريق سهلاً إطلاقاً إلى منطقة "بشارة" التي تبعد حوالى 30 كم من مدينة المسيلة، مركز محافظة جزائرية تقع شرق البلاد على بعد 225 كلم من الجزائر العاصمة، يعتبر القمح والشعير من أهم محاصيلها الزراعية، إضافة إلى أصناف كثيرة من الفواكه كالمشمش والرمان، وتشتهر أيضاً بتربية الأغنام.
التفكير في زيارة هذه المنطقة، كان أمراً غريباً بالنسبة لي، لأنني من عشاق المروج الخضراء والأنهار والبحار وسفوح الجبال، لكن متعة الاكتشاف وغريزة الفضول دفعتني لزيارة أهم الشواهد الأثرية المهمة في بلاد المغرب العربي، قلعة بني حماد الجزائرية التي احتفت سنة 2007 بمرور ألف عام على تشييدها، هي التي تعتبر عاصمة ثاني دولة تقوم بالمغرب الأوسط (الجزائر) بعد الدولة الرستمية.
انطلقت رحلتنا إليها من بلدة "هراوة" (الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية)، عند الفجر وقبل بزوغ شمس الصيف الحارقة من وراء الشفق. أخذنا كل ما نحتاج إليه من غذاء يكفينا لسدّ حاجياتنا خلال رحلتنا إلى قلعة بني حماد.
تكشف شهادات وأقوال المؤرخين أن اختيار هذا المكان ليكون عاصمة للدولة الحمادية لم يكن وليد الصدفة، وإنما تم الاختيار بناءً على معطيات أمنية هامة، أبرزها الموقع الاستراتيجي للقلعة التي كانت تقع بالقرب من سوق "حمزة" المشهور
الطريق باتجاه هذه البلدة الصغيرة لم تكن هينة، لأن الرحلة كانت في يوم تموزي قائض جائحه، استغرقت قرابة ست ساعات كاملة من السير، مروراً بالبويرة وبومرداس، وصولاً إلى محافظة برج بوعريريج التي استقبلتنا مطاعمها "اليشير" المشهورة بشواء رؤوس الأغنام بحفاوة وسرور.
كُلما تقدمنا في السير، ازدادت الرحلة قساوة وصعوبة بسبب بلوغ درجات الحرارة في هذه المنطقة مستويات قياسية في فصل الصيف.
ولعل أبرز شيء لفت انتباهنا منذ أن وطأت أقدامنا هذه المدينة، تلك الجبال التي تظهر من بعيد تعانق السحاب وترسم لوحة عجز الكتاب والرسامون عن محاكاتها، فهي محاطة بحزام جبلي في شكل قوس من منطقة "الأوراس" وسلسلة "بلزمة" من الشرق إلى جبال "ونوغة" غرباً، عبر جبال بوطالب والمعاضيد مشكلة حدوداً جغرافية بين المناطق المتوسطية التلية والسهول السهبية والصحراوية للحضنة والزيبان.
تسحرنا بالأخص وقت الغروب، تجذبنا وتجعلنا نحس أننا قريبون منها، لكن كلما اقتربنا تبتعد منا، فنستمر سعياً لبلوغ قممها التي تتفاخر بجمالها الأخاذ.
أخذنا قسطاً من الراحة وسط طريق طويلة خالية على عروشها، أهم ما يميزها المساحات الخضراء المترامية على جنبيها، لنكمل طريقنا المؤدي إلى القلعة، فنصل إليها في حدود الساعة الثانية بعد الظهر.
لم أستطع في بداية الرحلة التأقلم مع قساوة المناخ، لكن عندما أبصرت القلعة التي شيدت خلال الفترة الممتدة بين 398/ 399هـ و1007 / 1008م على سفح جبل "المعاضيد" وسط سلسلة جبلية صعبة تمتاز بصخورها القاسية ومسالكها الوعرة، زال ذلك التشاؤم، وجذبني حب الاستكشاف والمغامرة لمواصلة الرحلة.
شهادات تاريخية
ولقد زودنا عبد الرحمن بن خلدون أحد العلماء الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية، بمعلومات غزيرة عن تاريخ هذه القلعة التي تعود تسميتها إلى حماد بن بلكين (بلقين) بن زيري بن مناد الذي استقل بالمغرب الأوسط عن الدولة الزيرية انطلاقاً من سنة 405 هـ، ليدخل في صراع ضد أخيه المنصور -باديس بن بلكين- ثم ابنه المعز بن باديس.
وشيدت القلعة فوق موقع إستراتيجي هام، فهي محمية من الشمال بجبل "تاقرست" الذي يبلغ ارتفاعه حوالي (1418 متراً)، ومن الغرب فهي محمية بجبل "قرين" (َ1190 متراً)، ويحيط بها من الشرق واد كبير يشكل "سوراً" طبيعياً لهذه المدينة العظيمة، أما من ناحية الجنوب فإن المسلك الوحيد الذي يؤدي إلى القلعة هو عبارة عن مسلك ملتوي يتبع "وادي فرج".
وتتميز قلعة بني حماد التي تقع في الحدود الشمالية لسهول "الحضنة" بموقعها الإستراتيجي الهام، فهي من الشمال محمية بجبل تاقرست الذي يبلغ ارتفاعه (1418 متراً) ومن الغرب بجبل قرين (1190 متراً) ويحيط بها من الشرق وادٍ, تشكل مضائقه سوراً طبيعياً للمدينة.
أما من جهة الجنوب فالطريق الوحيدة المؤدية إلى القلعة عبارة عن ثنية ملتوية تتبع "وادي فرج"، ولذلك كان ابن الأثير دقيقاً حين وصفها بأنها: "من أحصن القلاع وأعلاها, لا ترام على رأس جبل شاهق, يكاد الطرف لا يحققها لعلوها".
تكشف شهادات وأقوال المؤرخين أن اختيار هذا المكان ليكون عاصمة للدولة الحمادية لم يكن وليد الصدفة، وإنما تم الاختيار بناءً على معطيات أمنية هامة، أبرزها الموقع الإستراتيجي للقلعة التي كانت تقع بالقرب من سوق "حمزة" المشهور، كما أنها كانت تتميز بميزة استثنائية، وهي صفة التعايش والتلاحم بين جميع الطوائف والأعراق المختلفة.
وورد في كتاب "الاستبصار في عجائب الأمصار" (كتاب يجمع بين أسلوب المسالك والممالك وأدب الرحلات)، أن القلعة تضم مباني عظيمة وشاهقة وقصوراً منيعة متقنة البناء عالية السناء، وأبرز ما عرفت به تربية المواشي والصناعة والنشاط التجاري.
ومن الشهادات أيضاً نجد الشهادة التي دونها الرحالة والجغرافي الإدريسي في "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" حين مرّ على قلعة بني حماد، إذ كتب: "مدينة القلعة من أكبر البلاد قطراً، وأكثرها خلقاً، وأغزرها خيراً، وأوسعها أسواراً وأحسنها قصوراً ومساكن وأعمها فواكه وخصباً، وحنطتها رخيصة، ولحومها طيبة سمينة، وهي في سند جبل سامي العلو صعب الارتقاء، وقد استدار سورها بجميل الجبل ويمسى بتافريست، وأعلى هذا الجبل متصل بسيط من الأرض".
إهمال
وحسب المعلومات التاريخية وحتى الحكايات المتداولة بين أبناء هذه المنطقة، فإن حماد بن بلكين بذل كل ما وسعه لجعل قلعة بني حماد قبلة للعلم والعلماء ومنارة للشعر والشعراء، فلم يكن قادراً على مواجهة العباسيين ما لم يعتمد على استدراج العلماء عن طريق مدينة لها مواصفات قوية، وهو ما تحقق فعلاً حيث أصبحت القلعة عقر دار الكثير من العلماء، على غرار الشاعر العالم أبي الفضل ابن النحوي والعالم اليهودي عبد الرحيم ابن إسحاق ابن المجلون الفاسي.
أبرز شيء لفت انتباهنا كان التدهور الكبير الذي تشهده قلعة بني حماد، بفعل العوامل الطبيعية وحتى البشرية، بالرغم من تصنيف القلعة من طرف منظمة اليونسكو عام 1980 ضمن المواقع المهمة التي يجب الاهتمام بها
ومن أبرز المعالم الأثرية التي مازلت بارزة إلى اليوم، القلعة المبنية وسط تلال تكتسي اللون البني بالأخص في فصل الصيف، يصعب كثيراً اختراقها، وواحد من الأبواب الثلاثة الرئيسية الذي لازال واقفاً إلى اليوم تلتصق به بناية يرجح أنها كانت تستخدم للحراسة، وتضم القلعة أيضاً أربعة قصور يلقب الأول بـ"المنار"، والثاني بـ"قصر البحر"، والثالث بـ"السلام"، والرابع بقصر "النجمة". وفي الجانب العلوي يمتد قلب المدينة حيث يوجد قصر البحر والجامع الكبير والحمامات. أما الجزء الجنوبي، فمساحة واسعة منه خصصت للأسواق.
ولعل أبرز شيء لفت انتباهنا كان التدهور الكبير الذي تشهده قلعة بني حماد، بفعل العوامل الطبيعية وحتى البشرية، بالرغم من تصنيف القلعة من طرف منظمة اليونسكو عام 1980 ضمن المواقع المهمة التي يجب الاهتمام بها، لتضاف بذلك إلى قائمة المواقع الأثرية التي طالها الإهمال على غرار حي القصبة العتيق بالجزائر العاصمة، والحصن التركي الذي شيده الثعمانيون سنة 1661 على موقع إستراتيجي هام في منطقة "برج الكيفان" (الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية).
وحسب التصريحات التي قدمها ممثل ديوان قلعة بني حماد عام 2007 بمناسبة الاحتفال بالذكرى الألف، فإنها لم يُكتشف من آثارها سوى 20 بالمائة، و70 بالمائة المتبقية لازالت أسراراً وكنوزاً مدفونة تحت الأرض، وحسب ما ذكر أيضاً فإنه ومنذ استقلال الجزائر في 5 تموز/يوليو 1962 لم يتم تنظيم سوى عملية تنقيب واحدة قام بها الدكتور والكاتب الجزائري رشيد بورويبة، الذي له العديد من المؤلفات بينها "الدولة الحمادية: تاريخها وحضارتها".
ويمثل هذا الكتاب مرجعاً هاماً لباحثي العلوم التاريخية بصورة خاصة والآثار والجغرافيا ومعظم تخصصات العلوم الإنسانية على تحو عام، وأجرى رشيد بورويبة بحوثه خلال الفترة الممتدة بين عام 1964 و1972 وهي العملية التي تمت بتمويل من وزارة الإعلام والثقافة في الجزائر خلال تلك الفترة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع