هل كان المهندس بيار أوغست غيوشان يعي بأن مقرّ إقامته في الجزائر خلال بدايات الاحتلال الفرنسي (1832) سيتحول إلى واحد من أهم المعالم العمرانية والتاريخية والحضارية في الجزائر الحديثة، وسيتجاوز في شهرته وجماله وصموده العشرات من البنايات التي صممها في هذا البلد، والتي لا تزال إلى اليوم شاهدة على ذكائه وقدرته الخارقة في التصميم؟
وهل استشعر الزعيم التاريخي ورئيس الوزراء ونستون تشرشل (1874-1965) وهو مقيم فيه رهبة بريطانيا وهيبتها، بعد تخصيص قصر بهذا الشكل والفخامة والجمال، ليكون مقراً لبعثة بلده قبل أن يتم تحويله إلى فندق قبل سنوات خلت؟ وهل أحس وهو يُطل من أحد شرفاته بنسائم البحر والغابة؟ وهل انتشرت على جسده قشعريرة أو نشوة الزعامة وهو على طاولة ممتدة في قاعة "السفراء" يقابله الجنرال الأمريكي دوايت أيزنهاور، القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا، لأن خارطة العالم كانت على وشك أن تتغير انطلاقاً مما سيفرزه ذلك الاجتماع، وأن مستقبل الكرة الأرضية سيأخذ شكلاً مختلفاً؟ وأن ميزان القوة سيختلف تماماً، وأن أدولف هتلر سيقهر وينهزم وينتحر؟
كل هذا انطلق من فندق سان جورج عقب ذلك الاجتماع المفصلي في العصر الحديث، عام 1943، ليصبح بعدها أيزنهاور الرئيس الرابع والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية (1953–1961)، إضافة إلى دخول بعض الجنرالات والقادة المهمين كتب التاريخ من أوسع صفحاته وأكثرها نصوعاً، لتصبح أرواح هؤلاء ومن قبلهم أو بعدهم، من الرموز السياسية والفنية والثقافية والاجتماعية، حاضرةً في كلّ شبرٍ أو زاوية من فندق سان جورج، ليتحول هذا الصرح مع مرور الزمن، ونتيجة العديد من المحطات السوداء والبيضاء التي مرّ عليها، أو الضربات التي تلقّاها ونجا منها، رمزاً معمارياً وحضارياً يصنع صورة الجزائر الجديدة والقديمة، ويقدم موجزاً تاريخياً عن الذين ساهموا أو فكروا أو صنعوا مجد هذا الفندق وهويته الجمالية الفريدة.
من قصر للدايات إلى مقرّ للجنرالات
شيّد فندق "الجزائر" أو "سان جورج" سابقاً، وهي التسمية الأكثر تداولاً رغم مرور أكثر من 40 عاماً من تغير التسمية، من خلال تطوير عقار قديم يعود تاريخ بنائه إلى عام 1514، والمعروف تاريخياً تحت تسمية "قصر الداي"، ومن المرجح أنه قد كان مقرّ إقامة الأمير سالم التومي حاكم الجزائر في ذلك الوقت. خاصة وأن التاريخ يتناسب مع فترة حكمه، وقد استسلم هذا الحاكم للإسبان بعد سقوط مدينة بجاية في أيديهم سنة 1510، وأرغموه على بناء قلعة الصخرة في مدينة الجزائر، لتكون موطأ قدم لهم، تطل على البحر وتحمي الجيوش الإسبانية من الهجمات البحرية للقراصنة والجيوش، حيث أقام فيها 200 جندي إسباني، وهو الأمر الذي كان بمثابة حجر عثرة في طريقه.
هل استشعر ونستون تشرشل وهو مقيم في هذا الفندق رهبة بريطانيا وهيبتها، بعد تخصيص قصر بهذا الجمال، ليكون مقراً لبعثة بلده قبل أن يتم تحويله إلى فندق قبل سنوات خلت؟
من أجل ذلك استنجد سالم بالإخوة بربروس الذين حرروا مدينة جيجل من الاحتلال، وعندما لبى عروج بربروس النداء، وأبحر بسفنه وجيشه لميناء الجزائر، بدأ في محاصرة قلعة الصخرة وحررها منهم، وفي تلك الفترة انتشر الأتراك في المدينة، وباتوا ينهبون ويسلبون، وحولوا حياة السكان إلى جحيم، لهذا عرف سالم التومي بأن هذا احتلال، وأن سلطته تسير نحو الزوال. لهذا حاول الاتصال بالإسبان والاستنجاد بهم من جديد، لكن الأتراك تفطنوا له، وقاموا بخنقه بعمامته، ليعلن بعدها عروج بربروس نفسه سلطاناً على مدينة الجزائر وما جاورها، ورفع راياته وصكّ النقود باسمه، وقد خلفه أخوه خير الدين بربروس بعد وفاته.
توالت بعد ذلك على الإمارة العديد من الدايات، وكلهم أو معظمهم مروا أو أقاموا في "قصر الداي" الذي تحيط به العديد من العقارات المهمة التي كان يملكها الأثرياء الأتراك، إضافة إلى قصور أخرى، لكن يبقى "قصر الداي" هو الأهم.
تحول هذا القصر في ما بعد إلى مدرسة داخلية للبنات، ومن ثمة إلى إقامة للجالية البريطانية، وبعدها إلى فندق سان جورج، نتيجة موقعه الإستراتيجي الهام الواقع على هضبة مرتفعة، يقابله الساحل الممتد، إضافة إلى الميناء والأحياء القديمة، وهذا مع بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1832. وقد مر عليه وأقام فيه العديد من الجنرالات الفرنسيين، أبرزهم الجنرال برتران كلوزيل (1772-1842) الذي كان حاكم الجزائر، وصار المكان بعد أكثر من قرن مقراً للجنرال الأمريكي أيزنهاور الذي سكن فيه حوالى سنة كاملة.
الهندسة المعمارية بين الأصالة والحداثة
بعد احتلال فرنسا للجزائر قام المهندسون المعماريون بتغييرات جذرية في نمط الهندسة التي كانت تعتمد في مجملها عن النمط العثماني أو الأندلسي أو خليط بينهما، وهذا من أجل القطيعة مع تلك المرحلة، وإبراز الهوية الفرنسية، ولكن في المقابل نجت من هذه المجزرة العمرانية العديد من المباني، ولقد انتبه المهندسون الفرنسيون من الجيل الثاني والثالث إلى هذا النمط المعماري الإسلامي وجماله وتناسقه، ولهذا عادوا إليه من جديد.
وكذلك حدث أيضاً في هندسة مقرّ البريد المركزي في الجزائر العاصمة، وهو تحفة معمارية صممها المهندس الفرنسي ماريوس تودوارد عام 1913، وحاول من خلالها محاكات الطراز الإسلامي، وهو نفس الأمر الذي تم الاعتماد عليه في فندق سان جورج، وبالرغم من التغييرات التي طالته عبر الزمن، إلا أنه بقي محافظاً على لمسته الأساسية.
وحسب بعض المصادر التاريخية فإن هناك حوالى 200 مبنى لم يطلها المحو في الجزائر العاصمة، وقد نجا منها حوالى 90 بيتاً، حافظت على وجودها إلى غاية ثلاثينيات القرن الماضي، حيث تم ترميمها وتجديدها وزخرفتها وفقاً للنمط المحلي، وهذا حفاظاً على ما تبقى منها، خاصة المباني التي كانت ملكاً لمن كانوا في السلطة أثناء الحكم العثماني وتمت مصادرتها من طرف السلطة، حيث تمّ تحويل ملكية الكثير منها إلى القطاعات العسكرية والتعليمية والدينية، على عكس بيوت الأثرياء التي كانت منتشرة في الضواحي، إذ كانت عبارة عن بيوت ريفية تحيط بها البساتين، وقد تم الضغط على أصحابها لمصادرتها أو استيجارها منهم بمبالغ زهيدة لمدة تزيد عن نصف قرن.
ومع الوقت تم انتزاع ملكية هذه المباني منهم بالمكر والضغط، وقد تم تحويل ملكية "قصر الداي" إلى المهندس بيار أوغست غيوشان (1806-1875)، وبعد سنوات حوله الابن جورج أدريان أوغست غياوشين (1840-1912) إلى مدرسة داخلية للفتيات الصغيرات اليتيمات، ليتحول خلال الحرب العالمية الأولى إلى مقر للبعثة والجالية البريطانية، التي أعجبتها هذه الإقامة، وأصبحت حاضرة فيها بقوة، ومع الوقت تم تحويل نشاطها (بداية من عام 1889) إلى فندق سان جورج.
أصبح فندق الجزائر (سان جورج) معلماً سياحياً مهماً، يقصده المئات من السياح سنوياً، خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، من الذين يدفعهم الفضول لزيارة الغرفة 1101 التي أقام فيها أيزنهاور 13 شهراً كاملاً
رمّم هذا الفندق الحفيد جاك غيوشان (1884-1965) الذي خلق فيه حوالي 180 غرفة، كما أنه شهد العديد من التغيرات عبر الزمن، خاصة بعد أن تم قصفه من طرف الطائرات الألمانية، إضافة إلى الترميم الذي خضع له بعد استقلال الجزائر، وتم إغلاقه لفترة من الزمن سنة 1978، أين اجريت عليه بعض الترميمات، كما تمت إضافة جناح جديد، ليصبح عدد الغرف التي فيه 296 غرفة، ويُفتتح من جديد عام 1982 بتسمية جديدة، هي "فندق الجزائر".
بعض من أقاموا في هذا الفندق
لا تزال العديد من الأشياء الأثرية موجودة في هذا الفندق، وتعود معظمها للحقبة العثمانية، من صناديق وخزائن وكراسٍ وأخريات، إضافة إلى الزليج الأصلي أو الفسيفساء الرومانية التي تمت إضافتها خلال الفترة الاستعمارية الفرنسية، وهي من المعطيات المهمة التي منحته جمالية، وأكسبته هيبة معمارية واسعة.
واليوم قد أصبح فندق الجزائر (سان جورج سابقاً) معلماً سياحياً مهماً، يقصده المئات من السياح سنوياً، خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، من الذين يدفعهم الفضول لزيارة الغرفة 1101 التي أقام فيها أيزنهاور 13 شهراً كاملاً، من شباط/نوفمبر 1942 إلى كانون الأول/ديسمبر 1943، إضافة إلى قاعة "السفراء" التي تم فيها التوقيع على وثيقة انضمام الولايات المتحدة الأمريكية إلى جيش الحلفاء بتاريخ 10 شباط/نوفمبر 1942، إضافة إلى الغرف الأخرى التي أقام فيها كل من الجنرالين مارك وين كلارك وبرادلي وغيرهم كثير، وهو الأمر الذي يستهوي الأمريكيين.
كما مرّ على هذا الفندق العديد من الرؤساء والملوك والثائرين من العالم العربي والأجنبي، مثل جورج الخامس ملك بريطانيا العظمى، وفيديل كاسترو، وتشي جيفارا، ونيلسون مونديلا، وجمال عبد الناصر، والحسن الثاني، والملك اليوناني جورج الثاني وغيرهم، إضافة إلى فنانين مثل عبد الحليم حافظ، وفرد الأطرش، وصباح، وإديث بياف، وداليدا، وكاترين دونوف، والممثلة كيراي دارك، والشاعر والمخرج جان كوكتو، والممثل فريديرك ديفنتال، والكاتبة سيمون دي بوفوار، وجون بول سارتر، وأندري جيد، والكاتب البريطاني روديارد كيبلينغ، والقائمة طويلة لا يمكن حصرها وتعدادها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت