منذ العام 1979، حين أقام معرضه الأول عقب تخرجه في كلية الفنون الجميلة، أصبح محمد عبلة واحداً من الوجوه الفنية المصرية ذات الشخصية المميزة، في سعيه الدائم للتجدد وتبنيه مفهوم ضرورة الارتباط بين الفنان والشارع.
شوارع مصر –لا القاهرة وحدها- وحواريها وبسطاؤها هم عماد المشروع الفني لمحمد عبلة، الذي تسلم مساء أمس الأحد، 28 آب/أغسطس، ميدالية غوته، وهي أرفع الأوسمة الفنية والثقافية التي تسلمها الحكومة الفيدرالية الألمانية، خلال احتفالية خاصة في مدينة فايمار الألمانية التي عاش بها الكاتب والشاعر الألماني الشهير يوهان فولفغانغ فون غوته، بالتزامن مع الاحتفال بيوم ميلاده.
ويمنح معهد غوته هذا الوسام منذ عام 1955، وهو الوسام الرسمي وأهم جائزة على مستوى السياسة الثقافية الأجنبية لجمهورية ألمانيا الاتحادية. وفي عام 2001 كان الشاعر السوري أدونيس أول أديب عربي يحصل عليها، بينما يعد محمد عبلة أول فنان عربي يحصل على هذا الوسام الألماني الرفيع.
وأشار بيان إعلان الجائزة المنشور على الموقع الرسمي لمعهد غوته إلى أن عبلة "يرى أن الفنانين عليهم مسؤولية اجتماعية، ولا يمكن فصل حياتهم عن عملهم، وعلى مدار عقود من الزمن سعى للتنوع والتغيير في المشهد الثقافي المصري، وقاد حملات من أجل حرية التعبير، واستخدم موهبته كفنان للوسائط المتعددة في تعريف الجمهور المحلي والدولي بكلّ جوانب المجتمع المصري، سواء كان ذلك من خلال صور واقعية للأحداث الاجتماعية والسياسية المعاصرة أو صور تجريدية لمصر وشعبها، فأعماله لا تقدم رؤى شاملة لجذوره ومجتمعه فحسب، وإنما أيضا لمحات من التراث المصري الثري".
لا يلوم عبلة سواه من الفنانين الذين اختاروا الصمت والابتعاد: "الانخراط في قضايا المجتمع اختياري وليس فرضاً على أحد، هذه رؤيتي أنا للفن"
في الشارع
كانت مراسم محمد عبلة التي يعمل فيها تتوزع في مناطق ذات دلالة. بين شقة فسيحة تعلو واحداً من أشهر مقاهي وسط القاهرة، وجزيرة يعمرها الفلاحون والصيادون وسط نيل الجيزة القريب من العاصمة، وفي قرية باتت وجهة سياحية في محافظة الفيوم، وهي واحة مترامية في صحراء جنوب غرب القاهرة.
كانت قضية القرصاية فرصة لتسخير الفن لخدمة المجتمع وقضاياه، ومن خلالها حقق عبلة مفهومه مستخدماً أشكالاً مختلفة من الفنون إلى جانب التظاهرات السلمية "لأنها معركة حياة" تعلقت بوجوده بما أنه كان من سكان الجزيرة ويعيش بين أهلها
المقهى الذي كان يتعين على زوار ستوديو وسط البلد المرور عليه، أغلقته السلطات وسط حملة "إزالة إشغالات" في وسط القاهرة، لتغدو سلسلة مقاهي البورصة الشهيرة التي شهدت لعقود تجمعات المثقفين والمعارضين السياسيين منذ عهد جمال عبدالناصر وحتى إطاحة حكم الإخوان المسلمين، أثراً بعد عين. أما جزيرة "القرصاية" النيلية التي كان عبلة في قلب نضال سكانها للحفاظ عليها ضد محاولات السلطات مصادرتَها لصالح مشروعات سياحية ترفيهية تقضي على وجود السكان فيها لصالح رجال أعمال مصريين وخليجيين، فقد نجحت السلطات أخيراً في مصادرتها في إطار "حملة القضاء على العشوائيات"، إذ تتحول الجزر النيلية الكبرى إلى مشروعات إسكان فاخر، لا مكان لبسطاء الجزر وسكانها الأصليين فيها، ولا يتبقى لعبلة سوى مرسمه ومتحف الكاريكاتير في قرية تونس بالفيوم، والتي ربما تطالها قريباً يد "التطوير" سيئة السمعة.
يقول محمد عبلة في حديثه لنا إن "الحياة اختيارات"، وإنه اختار، كفنان، ألا يبتعد عن مجتمعه، يعبر عنه ويتفاعل مع قضاياه الاجتماعية والسياسية، إلا أنه لا يلوم سواه من الفنانين الذين اختاروا الصمت والابتعاد، "الانخراط في قضايا المجتمع اختياري وليس فرضاً على أحد، هذه رؤيتي أنا للفن".
اختار عبلة طريقاً ترتبط فيه أعماله بالمجتمع وكل ما يحدث فيه، ولذلك كان شريكاً أساسياً ومواكبا لثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011 بكل تفاصيلها، وتنبأ بها في أعماله على مدار سنوات. ويقول: "كنت دائماً مهتماً بالمجتمع، ومنشغلاً بالشارع والناس. الفن ليس حدثاً، وإنما تراكمات، وأعتبر نفسي نموذجاً للفنان المهتم المنتمي لمجتمعه، وأتمنى أن تكون تجربتي ملهمة ومؤثرة في الشباب، فنحن نعيش لنتعلم، فحياة الفنان واختياراته مادة للتعلم".
حرك عبلة في عام 2007 حملة كبيرة لوقف تهجير أهالي جزيرة القرصاية التي كان يعيش فيها في ذلك الوقت، ونظم تظاهرات سلمية ومعارض فنية وعروضاً أدائية، وأنتج وأخرج فيلماً تسجيلياً عن الجزيرة وأهلها بعنوان "زي السمك" (Out...of Water)، واستغل شهرته الدولية في دعوة وسائل الإعلام المحلية والعالمية لمساندة أهالي الجزيرة في معركتهم ضد الدولة، وبالفعل نجحت هذه الحملة وقتها في تحقيق الهدف منها مؤقتاً -قبل عودة هجمات القوات المسلحة للسيطرة على أرض الجزيرة من جديد بداية من 2012-، ويقول عبلة إن قضية الجزيرة لم تكن تتعلق بممارسته للفن وإنما هي حياة كاملة.
كانت قضية القرصاية فرصة لتسخير الفن لخدمة المجتمع وقضاياه، ومن خلالها حقق عبلة مفهومه مستخدماً أشكالاً مختلفة من الفنون إلى جانب التظاهرات السلمية "لأنها معركة حياة" تعلقت بوجوده بما أنه كان من سكان الجزيرة ويعيش بين أهلها.
للاختيارات ثمن
يؤكد عبلة لنا أن هذا النوع من الخيارات "كان له عواقب جسيمة" أثرت على مسيرته الفنية وحياته بالكامل، واجه الكثير من المعوقات والحروب التي "وصلت إلى حد الاضطهاد والمنع والإقصاء والتجاهل، وأحياناً التعرض للضرب في الشارع". لكن كل هذا لم يغير قناعاته، لأن الفنان من وجهة نظره "لا بد أن يكون ضد النظام الحاكم"، وضد كل الأنظمة بشكل عام. و"يجب أن يكون على الجانب الآخر من السلطة، لأنه يطمح دائما للأجمل والأفضل". ويقول عبلة: "أريد لمصر أن تكون أجمل مكان في العالم وأفضل بلاد الدنيا، وإذا لم أشعر أن من حولي يسيرون في هذا الاتجاه بالتأكيد سأكون معارضاً".
الثورة والدستور
تنبأ عبلة بثورة 2011 ويقول عن هذا: "شعرت أن البلاد تنتظر الانفجار، فلم يكن من الممكن أن تستمر على هذا الحال. وأثناءها نظمت المعارض الفنية داخل ميدان التحرير، وكنت أحد المؤسسين لفعالية الفن ميدان التي شهدها ميدان عابدين لعدة سنوات، وشاركت في كتابة الدستور عام 2014، وهو دور سياسي واجتماعي مهم تشرفت بترشيحي واختياري من قبل عدد من الفنانين والمثقفين للقيام به، ومنحني الفرصة لأتعرف على أحلام الناس وأسعى لتحويلها إلى واقع، وكانت مسؤولية كبيرة في هذا التوقيت الصعب. ولكن الأصعب كان محاولة الحصول على نتيجة إيجابية ومفيدة للناس في مواجهة الصراعات والمواءمات، وللأسف الكثير من هذه الأشياء لم تتحقق، وأصبحت محبطة. لكن الشيء الوحيد الباقي هو أن هذه الثورة ستظل في الوجدان المصري ولن تُمحى أبداً".
ويشير إلى أنه اعترض بشدة أثناء المشاركة في كتابة الدستور على المادة الثانية لأنه يرفض فكرة أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع في بلد مثل مصر الذي يمتد تاريخه لآلاف السنين ويحتضن على أرضه أصحاب ديانات وثقافات مختلفة لهم الحق في الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...