حاملاً وعاءً يحوي بعض الماء، يتنقل مصطفى بين صخور جبال بلدة كللي في إدلب حيث يقيم مع عائلته بعد نزوحه من ريف إدلب الجنوبي قبل سنوات، هرباً من الحرب التي لم تتوقف. كان هذا مشواره السادس اليوم، كما يقول وهو يجفف عرقه. أخذ نفساً عميقاً والقليل من المياه ليُكمل: "هذه حالنا منذ أشهر عدة، فيومياً عليّ السير مرات عدة ذهاباً وإياباً لأملأ ما استطعت من المياه في أوعية صغيرة وآتي بها إلى خيمتنا".
خزان المياه القريب من خيمته قد نفد منذ وقت طويل، وهو في حاجة إلى تأمين مصدر بديل للمياه ريثما تعود المياه إلى المخيم بسبب عدم قدرته على شراء المياه، إذ إن طول أمد النزوح جعله تحت خط الفقر وأسعار المياه في ارتفاع مستمر فقد وصل سعر الصهريج الواحد إلى قرابة 100 ليرة تركية، أي ما يوازي 6 دولارات، وهي أجرة عمل أربعة أيام إن وُجد العمل.
لا طاقة لمصطفى على دفع تلك التكلفة بشكل مستمر، لذا وجد أن نقل المياه من مكان بعيد سيكلفه مجهوداً بدنياً فقط، ولن يحتاج إلى دفع الأموال، لكن الأمور لا تنتهي عند نقل المياه، إذ يتوجب عليه الآن أن يرسم خطةً جديدةً لاستهلاك الماء تكون فيها الكمية المستهلكة أقل بكثير من الأسبوع الماضي. يقول: "ربما يتوجب عليّ وعلى عائلتي عدم الاستحمام لفترة طويلة وأن يقتصر الاستهلاك على الأساسيات فقط".
موجات الحر
مع كل بداية فصل صيف، تلقي أزمة المياه بثقلها على كاهل أهالي المخيمات في الشمال السوري، فالاحتياجات تزداد بشكل كبير بسبب الحرارة والغبار الكثيف
مع كل بداية فصل صيف، تلقي أزمة المياه بثقلها على كاهل أهالي المخيمات في الشمال السوري، فالاحتياجات تزداد بشكل كبير في المخيمات بسبب ارتفاع الحرارة داخل الخيام والغبار الكثيف الذي ينتشر في كل مكان، ما يرفع حاجة النازحين في المخيمات إلى مياه الشرب والنظافة الشخصية، كما تبريد الخيام أو تبريد الأطفال في أثناء ارتفاع درجات الحرارة الكبير إذ ترتفع حاجة الفرد الواحد من 20 ليتراً إلى أكثر من 35 ليتراً يومياً.
ويقول الناشط الإنساني علي نصر الله، لرصيف22: "هذا الصيف هو الأسوأ من ناحية أزمة المياه في مخيمات شمال غرب سوري، فوسط ارتفاع درجات الحرارة عن معدلاتها هذا الصيف وما نتج عن ذلك من ازدياد الاحتياجات، رافق ذلك كله توقف عدد كبير من مشاريع دعم المياه في الشمال السوري بسبب تخفيض الدعم المقدَّم من الدول المانحة، ما يهدد المخيمات بالعطش وانتشار الأمراض المتنوعة".
ودعا فريق منسقي استجابة سوريا، في بيان له، إلى ترشيد استعمال المياه لمواجهة الأزمة، مشيراً إلى أن "أكثر من 590 مخيماً تعاني من انعدام المياه اللازمة، بالإضافة إلى انخفاض مخصصات المياه في بقية المخيمات نتيجة تخفيض الدعم وارتفاع معدل استهلاك المياه نتيجة ارتفاع درجات الحرارة بشكل كبير والذي من المتوقع أن يزداد في الفترة المقبلة".
وحضّ البيان "المنظمات الإنسانية بشكل عاجل على تحمل مسؤوليتها الإنسانية والأخلاقية تجاه النازحين في مخيمات شمال غرب سوريا، والتي يقطنها أكثر من مليون ونصف مليون مدني في مواجهة درجات الحرارة، من خلال زيادة الفعاليات الإنسانية وتأمين العديد من المستلزمات الأساسية للنازحين لمواجهة ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة، وأبرزها زيادة كميات المياه والعمل على تبريد المخيمات وتأمين معدات إطفاء الحرائق لمواجهة أي حالة طارئة ضمن المخيمات".
إعادة الاستعمال
تقول فاطمة، وهي من سكان مخيمات كفريحمول في شمال إدلب، إنهم "بعد تخفيض مخصصات مخيمهم من المياه، اضطروا إلى اعتماد خطط بديلة لمواجهة الأزمة"، وتضيف: "نحن اليوم نقوم باستعمال المياه في أمور عدة فنقوم بإعادة استعمالها بعد الاستحمام من أجل تنظيف أرض الخيمة، وذلك لتوفير أكبر كمية من المياه، كما أن غالبية العائلات خفّضت عدد مرات الاستحمام إلى مرة واحدة أسبوعياً".
نحن اليوم نقوم باستعمال المياه في أمور عدة فنقوم بإعادة استعمالها بعد الاستحمام من أجل تنظيف أرض الخيمة، كما أن غالبية العائلات خفّضت عدد مرات الاستحمام إلى مرة واحدة أسبوعياً
كذلك، تعمل فاطمة، كما غالبية من في المخيم، على جمع المياه التي تنتج عن جلي الأطباق، لتقوم برشها في محيط الخيمة علّها تساعد في تبريد الأجواء الحارة، كما تقوم بتحويل مياه تنظيف أرض الخيمة إلى المزروعات التي قامت بزراعتها لتوفير مياه الري".
أبو مازن، وهو مدير أحد المخيمات في غرب إدلب، يعمل على جمع المال من سكان المخيم لتأمين المياه عن طريق شرائها بالصهاريج، لكن هذه العملية تتسبب بعبء كبير على الأهالي الذين لا يملكون المال أساساً، لكنها حل مؤقت أفضل من انقطاع المياه، وعلى الأقل يمكّنهم من تأمين مياه الشرب والمستلزمات الأساسية بالرغم من أنه يثقل كاهلهم كما يقول.
وتأتي أزمة المياه وسط أوضاع معيشية وإنسانية صعبة يعيشها النازحون في مخيمات الشمال السوري، بعد ارتفاع أعدادهم بشكل كبير والعمليات العسكرية والقصف المستمر في محيط المنطقة، ما يرفع أعداد النازحين بشكل كبير ويفاقم المشكلة في المخيمات.
يُضاف إلى ذلك، الارتفاع الكبير في الأسعار، والذي يقابله انخفاض في الأجور، وتُعدّ تكلفة إيصال المياه ثقيلةً على النازحين بسبب الحاجة اليومية إليها وعدم القدرة على الاستغناء عنها، إذ تحتاج الأسرة على أقل تقدير إلى أكثر من 50 ليرةً تركيةً، كمعدل وسطي، ثمناً للمياه، ولكن بسبب أزمة البطالة فإن قلّةً من السكان يستطيعون تأمين عمل يؤمن لهم في الحد الأقصى 25 ليرةً لقاء نهار عمل كامل، مرةً أو اثنتين في الأسبوع.
نقص التمويل
تبذل المنظمات المحلية والدولية كل ما في وسعها لمحاولة إيصال المياه إلى المخيمات، لكن ارتفاع الاحتياجات ونقص التمويل المتزايد يقفان حجر عثرة في طريق إيجاد حل شامل للأزمة.
وتُعدّ منظمة "سيريا ريليف"، إحدى المنظمات العاملة في مجال تأمين المياه للمخيمات، وقد بدأت قبل سنوات بالعمل على حل مستدام للأزمة، ويقول المهندس محمد حسين عثمان، المسؤول عن ملف تزويد المخيمات بالمياه، لرصيف22، إن "المنظمة قامت برفع نسب المياه الواصلة إلى الأهالي مع بداية فصل الصيف، لكن الحاجة في المخيمات أكبر من قدرة المنظمات، خصوصاً مع تناقص الدعم الدولي في الآونة الأخيرة"، مشيراً إلى أن "الأزمة تحتاج إلى تدخل دولي مباشر، وإلا فالمخيمات مقبلة على كارثة كبيرة".
بدأت بعض المنظمات والمخيمات في البحث عن حلول مستدامة عبر حفر الآبار، ومن تلك المخيمات مخيم التح الذي بدأ بتحقيق اكتفاء ذاتي
وبدأت بعض المنظمات والمخيمات في البحث عن حلول مستدامة عبر حفر الآبار، ومن تلك المخيمات مخيم التح الذي بدأ بتحقيق اكتفاء ذاتي في موضوع المياه بحسب عبد السلام اليوسف، مدير المخيم، الذي يشير إلى أنه "تم حفر بئر في المخيم وبدأ يغطّي نسبةً كبيرةً من احتياجات الأهالي إلى المياه، لكن مع ذلك تستمر المخاوف من توقف المياه في البئر بسبب تراجع نسبة مياه الآبار الجوفية في المحافظة عموماً".
حلول ناقصة
بحسب خبراء زراعيين، فإن تلك الحلول لها آثار بيئية سيئة على مستوى المنطقة عموماً، فمحافظة إدلب مقبلة على أزمة مائية كبيرة بسبب انخفاض نسبة المياه وحفر الآبار العشوائية وعدم تنظيم استهلاك المياه.
وبعد عشرة أعوام من الحرب الدائرة في سوريا، قضاها الكثير من النازحين في المخيمات وسط أوضاع إنسانية متردية تزداد سوءاً كل يوم بسبب قلة فرص العمل وصعوبة العيش في المخيمات بالإضافة إلى التجاذبات الدولية التي تضع مصير ملايين النازحين رهناً بالخلافات أو التوافقات الدولية، لا يزال الفيتو الروسي يقف عائقاً في كل مرة أمام تمديد إدخال المساعدات أو رفع نسبها.
وبحسب بيانات البنك الدولي، فإن خسائر قطاع المياه هي الأعلى في سوريا عموماً، إذ بلغت 121 مليون دولار، كما أدى النزاع المسلح إلى مقتل ولجوء العديد من العاملين في قطاع المياه والصرف الصحي، وصار نحو ثلثي السوريين يحصلون على المياه من مصادر تتراوح درجة خطورتها بين المتوسطة والعالية، وانخفض معدل توافر المياه في سوريا من 75 ليتراً لكل شخص يومياً، إلى 25 ليتراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون