كان سريع الغضب، حاد الطباع، متقلب المزاج، يعشق التنكيل بالسياسيين، ويضرب وكلاء الزراعة وكبار موظفيها بـ"الشلّوت". لا يخلع نظارته الشمسية التي يرتديها، حتى في المساء وفي الاجتماعات الرسمية. عُرف ببذاءته وسلاطة لسانه، وسلوكه غير اللائق، ونزوعه دائماً إلى العنف والتسلط، وقد التصقت به وبأخيه صفات القسوة والوحشية، إذ شارك في محاكمات التفتيش التي أقامتها محكمة الشعب، وهي محكمة "ثورية" تأسست سنة 1953، بعد ثورة الضباط الأحرار، وأُعدم من خلالها الكثير من الأبرياء!
جمع بين الكثير من المناصب في عمره الصغير والقصير، ولم يتبقَّ من ذكراه سوى اسم شارع سُمّي على اسمه. وكان أحد تسعة أعضاء في اللجنة التنفيذية التي قادت عملية تغيير سياسي غيّرت وجه مصر، وأول الراحلين من قادة تنظيم الضباط الأحرار الذين أطاحوا بالملكية في 23 تموز/ يوليو 1952.
تُلقي مذكراته التي كتبها في أواخر حياته، وأصدرتها دار الكتب والوثائق القومية تحت عنوان "مذكرات صلاح سالم/ ثورة يوليو... والسودان"، أضواءً مهمةً على شخصيته المضطربة والمتناقضة، وعلى الأحداث والوقائع التي شارك فيها، وبالأخص مسؤوليته عن انفصال السودان عن مصر، كما تُعدّ مذكراته أول مذكرات سياسية ينشرها أحد قادة الضباط الأحرار.
علقة "الشيخ علي"
في العام نفسه الذي وُلد فيه الملك فاروق، وُلد أيضاً صلاح مصطفى سالم، في 25 أيلول/ سبتمبر عام 1920، في شرق السودان، في مدينة "سكنات"، لأم وأب مصريين ينتميان إلى الطبقة المتوسطة. وكان أبوه يعمل موظفاً لدى حكومة السودان.
عاش سالم جزءاً من طفولته في السودان، وتلقّى تعليمه الأول في النظام الديني التقليدي المتمثل في كتاتيب السودان، حيث تعلم على يدي مسؤول الكُتّاب، الذي يُدعى "الشيخ علي". وكانت المصروفات التي يدفعها سالم للشيخ علي، قمعاً من السكر، ورطلاً من الشاي، يحملها إليه كل ثلاثاء من كل أسبوع حين تقام ليلة الذكر.
وكان الزي الرسمي لأطفال الكُتّاب هو الجلباب الأبيض والعمامة. ويحكي سالم أنه ذهب ذات مرة إلى الكُتّاب من دون العمامة، فأخذ علقته الأولى في حياته من الشيخ علي، ولذلك حرصت والدته في اليوم التالي على تعميمه بقماشة بيضاء قبل توجهه إلى الكُتّاب، ويبدو أن هذا الحادث ترك أثراً في نفسه، إلى درجة أنه تمنى وهو ضابط أن يزور الكُتّاب ويلتقي مرةً أخرى بالشيخ علي.
بعد إنهاء والد صلاح سالم مدة خدمته في السودان، انتقلت العائلة للعيش في القاهرة، واستقرت في حي الحلمية الجديدة، ليلتحق سالم الذي كان في عمر السادسة بمدرسة الحلمية الابتدائية، ثم يحصل بعدها على البكالوريا من مدرسة الإبراهيمية الثانوية، ويكمل تعليمه من خلال الالتحاق بكلية الهندسة في جامعة فؤاد الأول، ولكنه لم يلبث أن تركها للالتحاق بالكلية الحربية الملكية، إثر توقيع مصر معاهدة 1936 التي سهّلت التحاق المصريين من الطبقات الفقيرة والوسطى بالجيش، ضباطاً وليس مجرد جنود. وكان من بين مَن دخلوا إلى الجيش بعد اتفاقية 1936، ثمانية أشخاص ممن شكّلوا تنظيم الضباط الأحرار، لاحقاً.
الشرارة الأولى
تخرّج سالم من الكلية الحربية في العام 1938، وكان في الـ18 من عمره، ثم بدأ حياته المهنية بالخدمة ضابطاً في القوات المصرية في مرسى مطروح، أيام الحرب العالمية الثانية، وهناك عايش من قرب العمليات الحربية العسكرية في جبهة العلمين. وفي أعقاب الحرب، استكمل دراسته العسكرية في كلية أركان الحرب، وتخرج منها عام 1948، ولم تمضِ شهور حتى وقعت حرب فلسطين عام 1948.
انضم سالم إلى المتطوعين الذين شاركوا في حرب 1948، وفي أثناء ذلك، جمعته الظروف بجمال عبد الناصر، وتحديداً خلال فترة حصار الفالوجة في فلسطين، حين حاصر اليهود المنطقة المذكورة في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1948. ويحكي سالم أن السلطات الأردنية منعت وصول الإمدادات لنجدة القوات المصرية والمجموعات الفلسطينية المقاتلة المحاصَرة، لمدة 130 يوماً.
كان سالم محاصَراً في قرية عراق المنشية، بالقرب من الفالوجة التابعة لغزة في ذلك الوقت، ويقول: "في عراق المنشية، انضممت إلى جمال، وأصبحت قطعةً من الضباط الأحرار. انضممت إليهم وتعاهدنا ونحن نجلس على رصيف شارع من شوارع قرية ‘عراق المنشية’، نحتمي من نيران مستعمرة جات اليهودية بسور من أسوار التين الشوكي".
توطدت العلاقة بين الثنائي منذ أن تقابلا، وبدأا بتشكيل تنظيم عسكري أُطلقت عليه تسمية الضباط الأحرار، وصار صلاح سالم عضواً في اللجنة التنفيذية للتنظيم. ويشير أحمد حمروش في كتابه "قصة ثورة 23 يوليو"، إلى أن سالم انضم رسمياً إلى تنظيم الضباط الأحرار في تشرين الأول/ أكتوبر 1949.
"تورتة" يوليو
لعب سالم دوراً مهماً في انقلاب الضباط الأحرار، من موقع خدمته في غزة، وظل خلال الأيام الأولى لـ23 تموز/ يوليو، مسؤولاً عن قوات الجيش في فلسطين وسيناء وشرق القناة، وفي ليلة الانقلاب، كان سالم في العريش مع أخيه جمال سالم، وسيطرا يومها على القوات الموجودة هناك، ووقع الانقلاب تماماً كما هو مخطط له، وأحكم التنظيم سيطرته على مصر.
ويحكي سالم أنه عندما استقرت الأوضاع للضباط الأحرار، سافر من العريش إلى القاهرة يوم 26 تموز/ يوليو، على متن إحدى طائرات سلاح الطيران الملكي، وذهب إلى مبنى قيادة الثورة في كوبري القبة، لينال نصيبه من "التورتة" التي كانت توزَّع بشكل عشوائي على العساكر، وكانت من نصيبه وزارة الإرشاد القومي (الإعلام حالياً)، التي أسسها العسكر للسيطرة على منابع العقل والفكر في المجتمع المصري، وظلت هذه الوزارة محجوزة للعسكر ضمن عملية عسكرة المجتمع والسيطرة عليه.
عُيّن صلاح سالم وزير دولة لشؤون السودان، ولكن لم تكن لديه أي دراية أو خبرة في التعامل مع قضية هذا البلد، ولم يكن يعرف أي شيء عنه، حتى أنه لم يستحِ من ذكر جهله بعدم معرفته عدد سكانه، واعترف بأنه لم يقرأ عنه في حياته "سوى النزر اليسير"
ويعترف سالم بأنه كان مجرد واجهة لعبد الناصر، ويصفه بأنه كان الوزير الحقيقي، ويبدي اعتقاده بأن معظم العاملين في هذه الوزارة كانوا يتلقون تعليماتهم من عبد الناصر، حتى الرقابة على الصحف كان يقوم الرقيب فيها بالرجوع إلى عبد الناصر، وكذلك الحال في مسألة التعليقات الداخلية والخارجية التي تبثها الإذاعة المصرية. شغل سالم أيضاً منصب وزير الدولة لشؤون السودان، جامعاً منصبَين، بجانب إشرافه على شؤون وحدات الجيش المصري في السودان، ومن هنا بدأت صلته بالسودان وارتبط تاريخه ودوره بالمسألة السودانية.
الصدفة... والصاغ الجاهل
يحكي محمد نجيب في مذكراته "كنت رئيساً لمصر"، أنه طلب من المسؤولين عن الملف السوداني إعداد مذكرة حول الوضع في السودان ليعرضها على الضباط الأحرار، وحين طُبعت المُذكرة، انزعج الضباط من حجمها الضخم، وقالوا لنجيب إن مشكلة السودان يمكن تلخيصها في كلمتين، ولم يقرأ الضباط المذكرة، مما يدل على غياب الوعي السياسي لديهم في ما يتعلق بالسودان.
ثم بمنتهي العشوائية، ترك مجلس الضباط الأحرار كافة الصلاحيات للصاغ صلاح سالم، ليتصرف وحده في قضية السودان من دون مناقشة المجلس، أو الرجوع إلى المتخصصين في خططه. ويحكي سالم أن مجلس قيادة الثورة بكامل هيئته أوكل إليه ملف السودان في منتصف آب/ أغسطس 1952.
ويذهب معظم من أرّخوا لتلك الفترة، إلى أن اختيار مجلس الضباط الأحرار لسالم، كان بسبب ولادته في السودان، ولأن والد زوجته خدم في الجيش في السودان. من اللافت أن سالم لم تكن لديه أي دراية أو خبرة في التعامل مع قضية السودان، ولم يكن يعرف أي شيء عنه، سوى أنه عاش فيه ست سنوات خلال طفولته الأولى، حتى أنه لم يستحِ من ذكر جهله بعدم معرفته عدد سكان السودان، واعترف بأنه لم يقرأ عن السودان في حياته.
لذلك، يقول في مذكراته: "لم أحلم يوماً بالعمل في قضية السودان، ولم تكن لي أي دراية أو خبرة سابقة... بل لم أقرأ في حياتي قبل 23 تموز/ يوليو عن السودان، سوى النزر اليسير... لم أقرأ سوى كتابين أحدهما استخفّني عنوانه عن الصيد والمغامرات في غابات جنوب السودان لعطا أثناسيوس، والآخر لتشرشل بعنوان حرب النهر... ولم يكن لي صديق سوداني واحد يحدثني وأتحدث معه في شؤون بلاده وأهله... كنت خالي الذهن تماماً عن دقائق الموقف في السودان... ولم أعلم أي شيء عما جرى ويجري هناك، لقد كانت الصدفة المحضة وحدها هي التي حمّلتني عبء هذه المعركة... صدفة من القدر ونكتة من عبد الناصر".
بين عقليتين
من الجدير بالملاحظة أن الحكومات المصرية المتعاقبة طوال فترة الحكم الملكي، كانت تعدّ السودان جزءاً لا يتجزأ من مصر، وفي معظم المفاوضات التي جرت مع بريطانيا، تمسكت النخبة السياسية المفاوضة باتحاد مصر والسودان، إلى حد وصف البعض السودان بالصخرة التي كانت تتحطم عليها المفاوضات المصرية البريطانية. ولذلك قال مصطفى النحاس: "تُقطع يدي ولا تُفصل السودان عن مصر". وكان فاروق قد توّج نفسه ملكاً لمصر والسودان، وتالياً كل القوى الوطنية آنذاك كانت مدركةً للعلاقة التاريخية بين البلدين، وأهمية السودان كعمق إستراتيجي لمصر في الجنوب.
اللافت أن حركة الضباط الأحرار أخذت منحى مختلفاً تماماً، إلى حد أصاب الإنكليز بالذهول، إذ تم التفاهم بين الضباط الأحرار والإنكليز، للمرة الأولى، على أن السيادة على السودان ليست لمصر ولا للتاج المصري، ولم يجعلوا الاستفتاء بين الوحدة والانفصال، بل بين الوحدة والاستقلال.
وأدرك سالم هذه المعضلة مؤخراً. يقول: "أخطأنا كمصريين عندما ارتضينا أن ننصّ في الاتفاقية التي وقّعناها مع الإنكليز على تخيير السودان عند تقرير مصيره بين الاستقلال التام، أو الاتحاد مع مصر والارتباط بها... وكان من العسير جداً أن نتبين هذا الخطأ عند توقيع الاتفاقية".
الاتحاد حتى الممات
حمل بعض القادة السودانيين فكرة الدعوة إلى الاتحاد مع مصر، قبل قيام حركة الضباط الأحرار. ففي سنة 1946، ذهب وفد كبير بقيادة إسماعيل الأزهري، إلى مصر، من أجل مناقشة وضع السودان، وأقام الأزهري سياساته على فكرة الاتحاد، وظل يدعو إليها، مقابل المهديين المطالبين بالانفصال.
ثم مع قيام حركة الضباط 1952، أظهر السودانيون تعاطفهم مع اللواء محمد نجيب، لأن أمه سودانية، بالإضافة إلى أنه عاش ودرس في السودان. وكان الجو العام في السودان في أول الأمر مؤيداً للوحدة مع مصر، إلى درجة أن الجماهير اعتقدت أن الوحدة قادمة حين فاز الحزب الوطني الاتحادي في الانتخابات البرلمانية، في كانون الأول/ ديسمبر 1953، واكتسح بنتيجة كبيرة، وكان قد خاض الانتخابات وفق مبدأ الاتحاد مع مصر، وكان يتغنى بالاتحاد، ويطوف الأقاليم داعياً إلى الوحدة مع مصر، ويناضل ضد الاستقلاليين، حسب ما يذكر سالم في مذكراته. ولذلك لم يشكّ أحد في أن الاستفتاء الذي سيشهده السودان بعد ثلاث سنوات سيكون لصالح الوحدة.
كان لعزل محمد نجيب أثر سيئ على غالبية الشعب السوداني الذي كان يحبه ويميل إليه، ويعدّه سودانياً أكثر من كونه مصرياً، وكان نجيب خبيراً بثقافة السودان وشعبه، وله كتاب عنوانه "رسالة عن السودان"
ويذكر سالم أنه رأى بنفسه حماسة الشعب السوداني للاتحاد. يحكى أنه شاهد الأزهري يخطب في الجماهير التي كانت تصفق وتهتف للاتحاد، وقال: "يا إخواني، اليد، هل تصفق وحدها، فرددت الجماهير: لا لا، فقال الأزهري: لازم نكون يدين حتى تصفقان، وهذا هو سبب سعينا إلى الاتحاد مع مصر... السودان ومصر يجب أن يتّحدا في جسم واحد، وفي هذا حماية لحرية البلاد واستقلالكم"، وهبّت الجماهير هاتفةً بحياة الاتحاد وبحياة مصر.
احتقار ورشوة... رؤية صلاح سالم
تعامل سالم مع الزعماء السودانيين بمنتهي العجرفة، وكان يستهين بهم ويحتقرهم، ولم يُعامل حتى إسماعيل الأزهري على أنه رئيس حكومة منتخب، وإنما كان يُملي عليه أوامره، بحسب ما يروي عبد اللطيف البغدادي في مذكراته. كما أن الإعلام المصري بقيادة صلاح سالم، الذي كان وزيراً للإعلام وقتها، كان يشن حملات عدائيةً يوميةً على الأحزاب الداعية إلى انفصال السودان.
ولذلك، يرى الدكتور أحمد زكريا الشلق، في دراسته عن صلاح سالم المنشورة في مقدمة كتاب "مذكرات صلاح سالم"، أن سالم لم يتعامل مع السودانين بأسلوب السياسة، وإنما بأسلوب العسكر. ويشتكي سالم نفسه في مذكراته من أن الأحزاب السودانية كانت تحمل آراءً متعددةً، ويبدو أنه بحكم عسكريته لم يستطع أن يتفهم الخلاف، أو أن يعي بأن السياسية ليست لوناً واحداً، بجانب أنه كان عديم الخبرة تماماً في السياسة وفي المعرفة بتاريخ السودان، وتعقيدات القضية التي تولاها، مع إجماع جميع زملائه على أنه رجل غير دبلوماسي، وشديد العصبية والانفعال.
وعليه، أدى سوء سياسته في السودان وخطابه الاستعلائي إلى تبديل رياح المجتمع السوداني وقادته نحو الاستقلال. أمام ذلك، عمل سالم على شراء ذمم السودانيين من خلال الرشاوى التي دفعها للعديد من الزعماء السياسيين ليستميلهم أو ليضمن ولاءهم، وحقق بهذا بعض النجاح، لكن الأمر انقلب على رأسه، ولم يدُم.
ويرى اللواء جمال حماد، وهو أحد الضباط الأحرار، أن سياسة الرشاوى التي اتّبعها صلاح سالم، جعلت الساحة السياسية السودانية خاليةً من المؤمنين بقضية الاتحاد مع مصر، خشية أن تلحق بهم الشكوك في تقاضيهم الرشاوى من صلاح سالم، وتالياً لم يبقَ في الساحة سوى الانتهازيين، والبعض يذهب إلى أن سياسة الرشاوى أجبرت الأزهري على رفض الوحدة مع مصر، خوفاً من أن تلاحقه الاتهامات، ولذلك هاجمت الصحافة السودانية مَن أطلقت عليهم مرتزقة صلاح سالم.
ويقول سالم: "صدرت الصحف في السودان تحمل ألواناً وأشكالاً من الهجوم عليّ في كل سطر من سطورها، وفي كل مقالة وكل خبر... تكيل لي الشتائم والسباب وتتهمني بكل اتهام يمكن أن يخطر على بال".
وبحسب ما يروي عبد اللطيف البغدادي، كانت سمعة مصر في السودان سيئةً للغاية بسبب الرشوة التي كانت تُعطى وتُبذل لكل إنسان، مما دعا الناس إلى الشك في كل مَن يتكلم أو يدعو إلى الاتحاد مع مصر، والتعامل معه على أن وراء دعوته رشوةً دُفعت له، ومع الوقت سادت كراهية السودانيين للمصريين، وأصبح كل سوداني يدعو إلى الوحدة مع مصر مشبوهاً، فهو إما عميل لمصر، وإما مرتشٍ من حكامها بحسب ما يروي صلاح نصر وصلاح سالم في مذكراتهما.
لا مصري ولا بريطاني... السودان للسوداني
دفعت سياسة الضباط الأحرار الاستبدادية، وتدميرهم الحياة السياسية، إلى نفور السودانيين من الوحدة مع مصر. كان هناك اختلاف بين النظام السياسي الانتقالي الديمقراطي في تلك الفترة في السودان، وبين حكم العسكر الشمولي في مصر، بجانب أن إسماعيل الأزهري كان يميل إلى النهج الديمقراطي، على النقيض من عسكر مصر.
وبالرغم من اعتراف سالم في مذكراته بأن دعوة الاتحاد تبلورت في صفوف السودانيين قبل أن تتبلور بين المصريين، إلا أن القشة الكبرى كانت في عزل الضباط الأحرار لمحمد نجيب من منصبه. كان لهذا الأمر أثر سيئ على غالبية الشعب السوداني الذي كان يحب نجيب ويميل إليه، ويعدّه سودانياً أكثر من كونه مصرياً، وكان نجيب خبيراً بثقافة السودان وشعبه، وكتب كتاباً تحت عنوان "رسالة عن السودان"، بل هو مَن سعى إلى توحيد الأحزاب السودانية المبعثرة، واستطاع كسب معظم الأطراف السودانية بعيداً عن تأثير بريطانيا.
ولذلك، فوجئت الجماهير السودانية بما تعرّض له الرئيس نجيب، وبرميه بشكل مهين في الإقامة الجبرية، واستغل الإنكليز أفعال الضباط الأحرار لتخويف السودانيين من الاتحاد مع العسكر، كما سمع السودانيون بالمعاملة المهينة التي تعرض لها المعارضون، وقصص المشانق، ومحاكم التفتيش، والتعذيب في أقبية السجون المصرية، وتالياً نمت فكرة الخوف من المصير الذي لقيه الشعب المصري.
هكذا اتسع توجس الجماهير السودانية من الضباط الأحرار، وبدأ تيار رفض الوحدة مع مصر يكبر رويداً رويداً، وأخذ الأزهري نفسه، عاشق الوحدة، يدعو إلى الاستقلال في كل مكان ويندد بفكرة الاتحاد ويهاجم كل مَن يعتنقها ويؤمن بها، وجابت خطبه الرنانة حول الاتحاد كل أراضي السودان على حد تعبير سالم. واللافت أنه رفض إرسال ضباط سودانيين للتدريب في مصر.
ويرى اللواء جمال حماد أنه لولا عزل محمد نجيب ما كانت السودان لتنفصل، واللافت أن التظاهرات عمت شوارع العاصمة السودانية الخرطوم والعديد من مدن السودان هاتفةً: "لا وحدة بلا نجيب". وخطب إسماعيل الأزهري، رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، والمدافع الشرس عن الوحدة، وصاح بالجماهير السودانية قائلاً: "هل يرضيكم أن يحكمنا صلاح سالم والعسكريون في مصر؟"، فصرخت الجماهير: "لا لا".
يقول سالم: "أخذت القصص تنتشر كل يوم عن دقائق ما يحدث في مجلس قيادة الثورة، حتى لكأن مراسلي الصحف السودانية كانوا يحضرون معنا كل الاجتماعات".
ويشير البعض إلى أن سالم حرّض الجنوبيين على التمرد ضد الشمال، عندما باءت سياستة بالفشل، وكان تمرّد الجنوب عاملاً مهماً في دفع إسماعيل الأزهري إلى التعجيل في المطالبة بإعلان استقلال السودان. كما يعترف سالم في مذكراته بأنه كان يطّلع بنفسه على رسائل زعماء الجنوب، ويقول: "اتصل بي بطرق مختلفة، وبالحضور إلى مصر، أكثر من 90% من نواب وشيوخ المديريات الجنوبية، وكانوا في ثورة جامحة ضد حكومة الأزهري... وكانوا يقولون لي: الآن لقد أخرجتم الإنكليز الذين كانوا يقفون حكماً بيننا وبين الشماليين، ونحن نريد أن نتّحد معكم".
في 19 كانون الأول/ ديسمبر 1955، أعلن السودان استقلاله. ومن المضحكات المبكيات أن معظم حلفاء مصر الذين قادوا في البدايات معركة الاتحاد، هم من أعلنوا الاستقلال، كما رفض السودانيون قبول سالم كأول سفير لمصر في بلدهم، وسرت الأقاويل بأن الأزهري طرد سالم من السودان، مما اضطر الأخير إلى أن يخصص مقالةً ينفي فيها هذه الواقعة.
ويرى محمد نجيب في مذكراته، أن مشكلة جمال عبد الناصر وصلاح سالم وبقية مجلس الثورة مع السودان، هي أنهم لم يعرفوا أهله ولم يفهموهم، ولم يتصوروا أهميته بالنسبة إلى مصر، فتصرفوا بمنتهى العشوائية، في سبيل البقاء على الكراسي، وتأمين أوضاعهم الداخلية.
ويقول نجيب: "عبد الناصر ورجاله في مجلس الثورة لم يكن يشغلهم في ذلك الوقت موضوع السودان. كان كل ما يهمهم هو كيف يمكن إزاحتي والتخلص مني... وهكذا ضاع السودان كما ضاعت الديمقراطية... وكان لا بد أن يقدّم عبد الناصر كبش فداء... ولم يجد بالطبع أفضل من صلاح سالم... وخرج هو بريئاً من هذه الجريمة".
باشا الصحافة... من عسكري نقيب إلى نقيب الصحافيين
بعد أن فشل سالم في إدارة الملف السوداني، قدّم استقالته كونه المسؤول عن هذه النتيجة، ولكنه ظل لفترة عضواً في مجلس قيادة الثورة، قبل أن يستقيل نهائياً، لتبدأ مرحلة أخرى من الاستبداد، لكنها هذه المرة في الصحافة التي ابتليت بالعسكر، فقد شغل سالم، بأمر من عبد الناصر، منصب رئيس تحرير صحيفتي الشعب والجمهورية، وأيضاً رئاسة مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر، وهي الدار التي أسسها الضباط الأحرار من أجل الرقابة على الصحف وتأييد سياسة النظام الحاكم، وكانت هذه الدار تقوم بإصدار معظم الصحف المصرية.
لكن الشيء الأكثر غرابةً في تاريخ الصحافة المصرية، هو أن صلاح سالم توّج نفسه رئيساً لنقابة الصحافيين في العام 1960، وأحكم الحصار حول مهنة الصحافة، والكثير من الصحافيين اشتكوا من كثرة تهديداته لهم، ولم يقتصر الأمر على فرضه القيود على الصحافة، بل عسكرها بالكامل، وطوّع المهنة لصالح المؤسسة العسكرية، إذ كان الصحافيون أدوات تنفيذيةً بيد السلطة، والصحافة كانت أشبه بالمنشورات الإدراية، لا تردد إلا ما يريده العسكر، ولا تكتب إلا ما يمليه الحاكم، ومهمتها تنفيذ التعليمات العسكرية من دون أي نقاش، مثلما يوضح ياسر بكر في كتابه "صناعة الكذب".
الصاغ سالم واللواء نجيب
كان مزاج سالم ميالاً نحو العنف، فقد طالب بإعدام الملك فاروق في ميدان عام بعد تنازله عن العرش، كما عُرف عنه عداؤه القاسي للّواء محمد نجيب، ولم يكن سالم في حقيقة الأمر يُكنّ أي احترام لنجيب، بل كان يسبّه ويهينه ويحقّر من شأنه في كل مناسبة، وكان منحازاً إلى صفّ عبد الناصر في صراعه ضد نجيب، فعندما حُسمت أزمة شباط/ فبراير وآذار/ مارس، مع نجيب لصالح جمال عبد الناصر وفريقه، كان صلاح سالم ضمن هذا الفريق، وأوقف مناقشات سلاح الفرسان التي أرادت التوجه نحو الديمقراطية والحياة السياسية الطبيعية ليؤسس لحكم ديكتاتوري ما زال موجوداً حتى اليوم.
واللافت أن سالم أذاع بياناً من محطة الإذاعة، مساء يوم 26 شباط/ فبراير 1954، نشرته الصحف في اليوم التالي، حطّم فيه صورة محمد نجيب، وأخذ يسخر منه بشكل عجيب، واتهمه بالشذوذ، ولذلك كان صلاح سالم مكروهاً من قبل الشعب، بسبب افتراءاته على محمد نجيب، مثلما يوضح صلاح عيسى في كتابه "شخصيات لها العجب".
وأورد عبد اللطيف البغدادي، في مذكراته، أن سالم كان عنيفاً في موقفه من محمد نجيب، ودارت مناقشة بينهما، قال لنجيب خلالها: "مَن الذي أتى بك قائداً لهذه الثورة؟ ومَن الذي كان يعرفك من قبل؟".
كما يذكر خالد محيي الدين، في كتابه "والآن أتكلم"، أن صلاح سالم كانت مهمته الدائمة والوحيدة داخل المجلس وخارجه السب والشتيمة، ومارس هذه المهمة ببراعة عندما أطلقه عبد الناصر على محمد نجيب.
مات صلاح سالم، في 18 شباط/ فبراير عام 1962، عن عمر ناهز 41 عاماً، بعد أن داهمه المرض، ولم يتبقَّ من سيرته في الذاكرة الشعبية سوى قصة ابتزازه وتحرشه بشقيقة الملك فاروق، الأميرة فوزية، وأيضاً لا يزال اسمه على أشهر شارع في القاهرة وأكثر شوارعها زحمةً، ويصبّ كثيرون من المصريين الشتائم واللعنات على طريق صلاح سالم كلما تأخروا فيه، وكأن القدر ينتقم منه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...