"كرهته، يكفي أنه السبب وراء إخراجي من المدرسة الخاصة إلى مدرسة حكومية رغم أن إخوتي جميعهم تخرجوا من مدارس خاصة"، كلمات وصف بها مصطفى، نجل كمال الدين حسين عضو تنظيم الضباط الأحرار، أول لقاء جمعه كـ"طفل" مع جمال عبد الناصر الذي صار لاحقاً "عمو جمال". ولـ"عمو جمال" حكايات كثيرة مع بعض أبناء أعضاء تنظيم الضباط الأحرار الذين عرفوه كصديق لآبائهم، يجلس في بيوتهم ويعطيهم "العيدية" وبعض النصائح وفي أحيان كثيرة يوقع العقاب عليهم. يتذكر عضو مجلس النواب المصري مصطفى كمال الدين حسين تفاصيل أول لقاء له مع جمال عبد الناصر، ويقول لرصيف22: "كنت في التاسعة من عمري ولم ألتقِ به من قبل، كنا نعرف أنه هنا قبل دخوله البيت بسبب حالة الطوارئ التي يفرضها أبي الذي كان يأمر الجميع بالمكوث في الحجرات، ثم يدخل ناصر معه إلى غرفة المكتب ويتحدثان في شؤون البلاد".
كمال الدين حسين ونجله مصطفى
ويروي مصطفى: "في ذلك اليوم، ذهبت إلى المدرسة الخاصة بزي مُخالف فأعادتني إدارة المدرسة إلى البيت، وكان عمو جمال في بيتنا يتحدث مع أبي الذي فوجئ بحضوري في غير موعدي. وحين عرف ناصر المشكلة قال لأبي: ‘مدخّلو مدرسة خاصة ليه؟ انت وزير التربية والتعليم’. وفي اليوم التالي تم نقلي إلى مدرسة حكومية. وكان حديث ناصر لرفاقه على المستوى الشخصي كالأوامر لا تقبل النقاش ويجري تنفيذها في الحال".
منذ ذلك اللقاء، بدأت العلاقة بين الطفل مصطفى وزعيم البلاد الذي أطلق على الأول لقب "أبو قلب أسود". ويقول نجل رفيق ناصر إن سبب تسميته هذه هي أنه كان كلما التقاه يقول له "مش هنسالك إنك خرجتني من المدرسة الخاصة".
أما عن طقوس ناصر في تلك الزيارات العائلية فيروي أنها كانت في البدء مخففة من أيّة حراسة واستمر ذلك حتى أوائل الستينيات من القرن الماضي حين تحوّلت إلى "كابوس" بسبب الحراسة على الأبواب.
ويكمل نجل كمال الدين حسين: "الأحاديث التي جمعتني مع جمال عبد الناصر كانت تتناول المستقبل. كان يعطيني الحلوى التي لا تفارق جيوبه ويسألني عن أحوال المدرسين وطريقة سير التعليم في المدرسة الحكومية. ووقتها كنت أشكو له كثيراً من عصبية بعض المدرسين وكان يدّون ذلك على ورقة".
وبحسب مصطفى، فإن تلك الزيارات لم تنقطع حتى بعد أن استقال والده عام 1957 من وزارة التربية والتعليم ومن أية مسؤولية سياسية. بقيت الزيارات موجودة وهي عادة حرص عليها جمال عبد الناصر مع معظم مَن خرجوا من دائرة السلطة باستثناءات قليلة.
ولفت مصطفى إلى أن عبد الناصر كان يزور جميع بيوت أعضاء الضباط الأحرار في عيدي الأضحى والفطر ويعطي أولادهم "العيدية" ثم يذهب الجميع للصلاة في مسجد الحسين الذي يرتاده ناصر في كل الأعياد، ثم ينتقلون إلى بيت ناصر، ولذلك فإن أقرب أصدقاء مصطفى إليه هي هدى عبد الناصر، رفيقة طفولته كما يصفها.
وعن ثورة يوليو بعد كل هذا الوقت، يقول مصطفى: "لم تعد موجودة. محو آثار 23 يوليو 1952 بدأ في عهد (الرئيس الأسبق أنور) السادات، والآن لا توجد طبقة متوسطة أو عدالة اجتماعية أو قضاء على نظام الإقطاع الذي عاد بشكل جديد. كل ما بقى هو فقط الجيش القوي"، مضيفاً أن "الثورة كان فيها أخطاء لكن يجب أن نقيّم الثورة في وقتها وبحسب الاتجاهات العالمية السائدة في ذلك الحين، من أجل الانصاف، وفي المجمل لولا 23 يوليو 1952 لظلت مصر تحت وطأة التخلف والمرض والجهل لفترات طويلة".
"لم يكن يسمح لنا بالسلام عليه"
كآخرين، ارتبط محمد، نجل زكريا محي الدين، مؤسس جهاز المخابرات المصرية وأحد أبرز رفاق عبد الناصر، بعلاقة بالأخير الذي اختار والده لتولي حكم مصر بعد خطاب التنحي في 9 يوليو 1967."المرة الوحيدة التي غضب عبد الناصر مني فيها كانت بعد نكسة يونيو حين سألني ‘نفسك تطلع إيه؟’ فأجبته: ‘عاوز ابقى دكتور ومش عاوز أخش الجيش’
"أحبني كثيراً حين أتقنت إطلاق النار وكافأني بمنحي جنيهاً وكان ذا قمية كبيرة في ذلك الوقت"، يروي أحد أبناء الضباط الأحرار عن علاقته بعبد الناصريقول عضو مجلس النواب الحالي لرصيف22 إن مولده بعد ثورة يوليو جعله يُدرك عبد الناصر متأخراً، وتحديداً في بداية الستينيات، وهي الفترة التي كان يلتقي فيها مع والده أكثر من خمس مرات في الأسبوع، واستمرت العلاقة بينهما بعد اعتزال أبيه السلطة عام 1968.
زكريا محي الدين، جمال عبدالناصر، حسين الشافعي وأنور السادات أمام مسجد الأزهر[/caption]
ويضيف: "خلال تلك الزيارات لم يكن يسمح لنا بالسلام عليه. فقط في الأعياد كان يُسمح بذلك وبأخذ العيدية منه، بعد الصلاة معه في مسجد الحسين، وكان أبي يحرص على أن يكون هو من يقدم المشروبات لعبد الناصر وليس أهل البيت كما هي العادة".
ونتيجة للزيارات الكثيرة المتبادلة، نشأت صداقة بين محمد زكريا محي الدين وعبد الحكيم جمال عبد الناصر، وكانت المقابلة الأولى مع "الريّس"، كما كان يناديه محمد، حين ذهب مع عبد الحكيم ليطلب من أبيه شراء ملابس غير مصرية الصنع فما كان رد الأخير إلا توبيخه وحرمانه من مصروفه لمدة أسبوع.
وبعيداً عن هذا الموقف، تبقى ساعات التاسع من يونيو 1967 هي الأقوى في ذاكرة محمد الذي كان يبلغ وقتها 14 عاماً من العمر. فيقول: "نزل أبي يوم 5 يونيو ولم يعد إلى البيت ولم نكن ندري بشيء حتى خطاب التنحي حين فتحنا التلفاز ووجدنا جمال عبد الناصر يتنحى ووالدي يتولى السلطة".
ويكمل لرصيف22: "حالما انتهى الخطاب انتابتنا حالة من الفزع في العائلة، ووقتها صعدت إلى سطح البيت ووجدت أناساً كانوا قد بدأوا في التوافد إلى البيت مرددين هتافات ضد أبي ومؤيدة لجمال، ولم أجد مفراً سوى الاتصال ببيت جمال عبد الناصر وحين علم أني المتحدث، رد علي بنفسه وقال لي ‘متخافش’ ثم وجدت الحراسة على بيتنا، وذلك كان التواصل الأخير قبل السير في جنازته".
وفي رأي محمد زكريا محي الدين، كان جمال عبد الناصر يحظى بصفة الأخ الأكبر لجميع أعضاء الضباط الأحرار، رغم أنه ليس أكبرهم سناً، و"لكنها الكاريزما التي فرضها منذ اللحظة الأولى وأهلته لأن يصبح رئيساً".
أما على المستوى العائلي، فيروي محمد، "هو رجل كثير الضحك والأسئلة أيضاً عن كل ما يشغل بالنا واهتماماتنا وكان صارماً جداً مع أولاده".
ويرى محمد زكريا محي الدين أن ثورة يوليو انتهت عام 1956 وتحديداً بحل مجلس قيادة الثورة لتتحول الثورة إلى دولة، لافتاً إلى أن الثورة في النهاية عمل بشري فيها أخطاء ومميزات، وإن كانت أهم مميزاتها هي قدرتها على تصحيح أخطائها بشكل مستمر".
"أبي هو مَن جعلني أحبه"
أما الطبيب شريف حسين الشافعي، نجل نائب جمال عبد الناصر، فوالده لم يختلف مع الرئيس الأسبق حتى الممات، ولذلك كان أول ما قاله لرصيف22: "أبي هو مَن جعلني أحبه، ففي المرات القليلة التي التقيت فيها بالرئيس كان أبي يقول: ‘سلم على سند البلد’، تلك الكلمة التي بقيت في أذني طوال الوقت".حسين الشافعي
يضيف شريف الذي يملك عيادة خاصة في محافظة الجيزة أن أباه هو مَن كان يذهب إلى جمال عبد الناصر، ولذلك لم يكن يلتقيه كثيراً، لكنه في الأعياد كان يحصل منه على عيدية أكبر من نظرائه نظراً لحفظه أجزاء كبيرة من القرآن كان يتلوها وعبد الناصر يفخر بذلك، ويقول لابنه عبد الحكيم: "تعلّم من شريف".
المرة الوحيدة التي غضب عبد الناصر منه فيها، يتذكر شريف، كانت بعد نكسة يونيو حين سأله "نفسك تطلع إيه؟" فأجابه الطفل: "عاوز ابقى دكتور ومش عاوز أخش الجيش» ليرى الأخير وجه ناصر المتجهم لأول مرة.
"لا علاقة بمَن قتل والدي"
قصته هي القصة الأكثر تراجيدية بين قصص علاقات أبناء الضباط الأحرار بجمال عبد الناصر، "فالعم انقلب إلى قاتل، والمُربي تحول إلى سافك للدماء"، بحسب تعبير جمال عبد الحكيم عامر. ويقول لرصيف22 عن علاقته بناصر: "تلك علاقة بدأت منذ أول يوم لي في الحياة، حين قرر أبي أن يطلق عليّ اسم صديقه الأكبر، وبهذا نشأت في بيتين: بيت أبي وبيت جمال عبد الناصر وكبرت مع أولاده. نشأنا معاً، وتلقيت تعليمات عبد الناصر كما تلقاها أولاده وكانت في الغالب تعليمات عادية وإن كان لا يسمح لنا بأن نشتري شيئاً غالياً أو مستورداً، وكان لا يحب تلك النزعة التي تتحدث عن أحلام امتلاك سيارة وغيرها. وأحبني كثيراً حين أتقنت إطلاق النار وكافأني بمنحي جنيهاً وكان ذا قمية كبيرة في ذلك الوقت".يكمل جمال عبد الحكيم عامر لرصيف22 أنه حتى عام 67 "لم نكن نعرف أن هناك خلافات بين المشير والرئيس، فحياتنا العائلية كانت هادئة جداً وعلاقة النسب بين شقيقتي آمال وحسين عبد الناصر، شقيق الرئيس، جعلت تلك العلاقة أوثق". ولفت إلى إنه فوجئ بوجود خلافات بين والده والرئيس بعد العدوان الثلاثي وأزمة انفصال مصر عن سوريا كما كتب الكثيرون ممن تناولوا تلك الفترة بعد ذلك. حالة شجار واحدة يتذكرها جمال حدثت قبل نكسة 1967 بشهرين: "كانت قبل الحرب بشهرين وعلا صوتهما بكلمات لم أفهمها، ولكن الواضح أن الأمر تعلق باستعدادات الحرب، وحين لاحظت أمي ذلك أمرتني بالذهاب إلى غرفتي".
أما عن مواقفه من عبد الناصر، فيقول: "هذا رجل نشأت في بيته وبالتالي فكرة وجوده كانت عادية وانخرطت أكثر مع أولاده، لكن بعد اغتيال والدي اتصل بالبيت وحين رددت عليه قال ‘عاوز حاجة يا جمال’ فلم أرد وأغلقت الهاتف". من النقيض إلى النقيض سارت العلاقة بين الطفل و"الريّس". يتذكر جمال حين منعت الدولة صرف معاش أبيه وألقت القبض على بعض أقاربه.
على المستوى العائلي، انقطعت الزيارات واللقاءات حتى اللقاء بشقيقته المتزوجة، واستمر الحال هكذا إلى ما بعد وفاة عبد الناصر، "فلم تعد هناك أية صلات عائلية بين أسرته وأسرتنا ولا يمكن أن تكون هناك علاقة بمَن قتل والدي" على حد وصفه.
أما رأيه في ثورة يوليو بعد تلك السنوات، فيرى أنها "واجبة الحدوث رغم ما تخللها من أخطاء أبرزها الديكتاتورية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.