في سبتمبر/ أيلول 2016، كانت رحلتي الأولى خارج مصر، سافرت إلى المغرب للمشاركة في ورشة للصحافة، فكانت مدينة الدار البيضاء مستقرنا طوال الأيام الخمسة المُخصصة للورشة. في اليوم الثالث قرر أحد الزملاء المغاربة اصطحابنا في رحلة على كورنيش"كازابلانكا"، وقفت حينها بعقل القادمة من مصر تتقافز في ذهني الأسئلة، أين بوابة الشاطئ؟ من المسؤول عن تحصيل رسوم الدخول؟ لماذا لا يوجد سور حديدي يحيط بالشواطئ كما في مدينتي الأم الإسكندرية؟
لم أرغب في فضح ما يدور في داخلي من غبطة على أهل المدينة المُتاح لهم مساحة عريضة من الشاطئ الرملي، يُمكنهم في أي وقت التوجه إليه وقضاء ما يشاؤون من الوقت من دون التفكير في تكلفة النزهة أو عمل دراسة جدوى لنفقات الشهر، في حالة اتخاذ قرار بقضاء بضعة أيام على أحد الشواطىء، مثلما يحدث مع غالبية المصريين، الذين تنتهي أسئلة معظمهم إلى صرف النظر عن فرصة لمس مياه البحر بسبب التكلفة الهائلة التي تعنيها تلك الفرصة.
وقفت على شاطئ الدار البيضاء وبعقل القادمة من مصر تقافزت الاسئلة المندهشة في رأسي: أين بوابة الشاطئ؟ من المسؤول عن تحصيل رسوم الدخول؟ لماذا لا يوجد سور حديدي يحيط بالشواطئ كما في مدينتي الأم الإسكندرية؟
صيف بلا مصيف
اعتاد "مُحسن عبدالحي"_اسم مُستعار_ 37 سنة من سكان محافظة الجيزة قضاء ما لا يزيد عن خمسة أيام من كل عام في مصيف جمصة في محافظة الدقهلية، وقع اختيار مُشرف الأمن في إحدى الشركات الخاصة على "جمصة" كونه الأقرب لقلبه وميزانيته كذلك، باعتباره واحداً من "المصايف الشعبية"، فباتت جمصة هي وجهة العائلة للمصيف منذ سنوات، وبعد زواجه لم يجد بديلاً أفضل من المصيف الشعبي الذي يُمكنه توفير تكلفته المادية التي كانت تصل حتى العام الماضي إلى 2500 جنيه في الأيام الخمسة حداً أقصى، مع كثير من التقشف في الطعام والشراب و"الخروجات".
تتكون أسرة عبدالحي الصغيرة من أربعة أفراد: هو وزوجته وطفلان، أحدهما في المرحلة الابتدائية "8 سنوات" والآخر في مرحلة الروضة "5 سنوات"، موضحاً أنه قرر صرف النظر عن فكرة المصيف هذا العام نظراً لارتفاع تكلفة المعيشة وتكلفة المصيف في مقابل ثبات دخله "السكن في السنوات الماضية كان يُكلف 1000 جنيه للأيام الخمسة، ومثلها أو أكثر قليلاً للمعيشة والتنزه، خاصة أننا كنا نشتري احتياجاتنا من الطعام من القاهرة ونصطحبها معنا".
لم يحاول التفكير في توفير مبلغ للمصيف هذا العام فارتفاع أسعار المتطلبات اليومية، وزيادة أسعار الوحدات السكنية في مصيفة المُفضل حسما الأمر، يقول لرصيف22 "اللي كنت بجيبه للبيت بجنيه بقيت بجيبه بعشرة"، فيما صار سعر الإيجار في جمصة يراوح بين 600 و 700 جنيه في الليلة (نحو 30 دولاراً) بعد أن كانت تكلف 200 جنيه فقط (نحو 10 دولارات)، إضافة إلى مصاريف الشواطىء، إذ يدفع المصريون ثمن تصاريح دخول للشواطئ تبدأ من 20 جنيهاً للفرد للسماح لهم بدخول الشواطئ العامة، إضافة إلى تكاليف ملاهي الأطفال وغيرها، موضحاً أنه فضّل هذا العام توفير المال للأساسيات لأن نفقات المدارس واحتياجات الأولاد أولى من المصيف.
يسعى مُحسن لخلق البدائل لأبنائه فيصطحبهم إلى التنزه على مركب في النيل أو إلى أي من الساحات أو النوادي الشعبية التي يضم بعضها "حمام سباحة"، رغم وصفه إياها حوضاً كبيراً مملوءاً بالمياه التي لا يمكنه التأكد من مدى نظافتها، إلا أنها مُتنفس مُناسب يعفيه من الشعور بذنب حرمان أطفاله من المصيف.
أستاذ في الطب النفسي: ارتفاع تكلفة الترفيه وحرمان معظم المصريين منه، هو من أهم عوامل انخفاض إنتاجية الأفراد
اختلف حال أسرة عبير محمد* عن أسرة محسن عبدالحي، فرغم سكن عبير في مُحافظة ساحلية وهي الإسكندرية، لم تستطع اصطحاب أبنائها إلى أي من الشواطئ، تقول لرصيف22 إن زوجها يعمل سائقاً لإحدى شركات الأغذية، يتقاضى مقابل عمله 3000 جنيه تعتمد عليها في كل نفقاتها من مسكن ومأكل واحتياجات الأبناء.
رغم توافر شواطئ قليلة من دون رسوم في الإسكندرية، فإن عبير لم تجد الفرصة لاستغلالها، فميزانيتها لم تعد تتحمل الاستعداد ليوم صيفي على أحد الشواطئ بما يتطلبه ذلك اليوم من نفقات طعام ومشروبات وانتقالات لها وزوجها وابنتها وابنها اللذين يبلغان 14 و11 سنة على الترتيب، موضحة أن "مُجرد التفكير في الأمر يُمثل ضغطاً كبيراً"، وأنها قررت وزوجها الالتفات لتوفير نفقات الدراسة.
تكلفة دخول الشاطئ في جمصة ارتفعت هذا الصيف من 10 جنيهات للفرد إلى 70 جنيهاً دفعة واحدة، إضافة إلى ارتفاع سعر إيجار المسكن في اليوم الواحد من 200 جنيه إلى 600، ما جعل أسرة عبدالحي تصرف النظر عن رحلتها السنوية التي تتطلع إليها وتدخر من أجلها كل عام
"اليوم الواحد" حل وسط
رغم إتاحة وحدة سكنية مملوكة للعائلة في مصيف جمصة، فإن ذلك لم يُغير كثيراً في حالة محمود طنطاوي الموظف في إحدى الهيئات الحكومية، فتقلصت مُدة وجوده من شهر كامل كان يقضيه وأسرته المكونة من زوجته وطفليه التلميذين في الصف الثاني والخامس الابتدائيين، إلى يوم واحد في الأسبوع إن أمكن.
يذكر طنطاوي لرصيف22 أن اختياره مصيف جمصة جاء لعدة أسباب أولها "شقة" والده التي توفر له تكلفة الإقامة في أي مصيف آخر، إضافة لكونها الأقرب لمكان سكنه في مدينة طلخا التابعة لمحافظة الدقهلية، موضحاً أن دخله الشهري من عمله الحكومي 3300 جنيه (نحو 170 دولاراً)، مرجعاً قرار تقليص أيام المصيف إلى ضعف الدخل مُقابل ارتفاع الأسعار والتضخم وانخفاض قيمة الجنيه.
لم يجد محمود فرصة لشرح الأمر لأطفاله وزوجته، فالقرار لم يكن اختيارياً، خاصة بعد توقف دخله الإضافي نتيجة تقليص العمالة في كثير من الشركات المصرية خلال الأزمة الاقتصادية الحالية، موضحاً أن أسعار الشواطئ شهدت ارتفاعاً كبيراً خلال عام واحد، فأحدها أصبح رسم دخوله 70 جنيهاً بدلاً من 10 جنيهات، وأن الشواطئ العامة تتيح الدخول من دون رسوم إلا أن تأجير شمسية ومقعدين يُكلف 100 جنيه تقريباً.
رحلة اليوم الواحد كانت الحل الأمثل لطنطاوي الذي تمتلك أسرته وحدة سكنية في المصيف، وهو ما لجأ إليه بعض معارفه حسبما أكد لرصيف22، موضحاً أن الإقبال في يومي الخميس والجمعة، وهما اليومان اللذان يشهدان عادة رحلات اليوم الواحد من القاهرة والدلتا إلى المصايف القريبة، يختلف خلال الصيف الحالي عن الأعوام السابقة، مُدللاً على ذلك بأعداد صفوف "الشماسي" التي تقلصت من أربع إلى اثنتين.
الراقصون على السلالم
لم يطل ارتفاع الأسعار رواد الشواطئ الشعبية فقط، فما يتردد حول ارتفاع بدل الإيجار في محافظة مرسى مطروح لتراوح بين 1500 و2000 جنيه لليوم الواحد، صدم نهى عبدالكريم، 45 سنة، التي اتخذت وزوجها من المحافظة الساحلية المجاورة مهرباً لأسرتهما من ازدحام الإسكندرية في أشهر الصيف، فتستأجر شقة لقضاء أسبوع واحد، تتفق وزوجها على تحديده بعد عودته من السفر حيث يعمل في إحدى الدول العربية.
رأت عبدالكريم أن ارتفاع بدل الإيجار لهذا الحد خلال عام واحد "ليس طبيعياً"، موضحة لرصيف22 أن الأسرة استأجرت في العام الماضي شقة من غرفتين، واحدة لها وزوجها، وأخرى لابنتيها مقابل 500 جنيه في اليوم الواحد، وهو ما كان مناسباً لدخلهما ولطبيعة المكان، إضافة لنفقات الطعام ورسوم الشواطئ والانتقالات، فقررت هذا العام الاكتفاء باصطحاب طفلتيها لشواطئ خاصة داخل محافظتها.
أحمد محمد البالغ عمره 41 سنة ويعيش في القاهرة، لجأ إلى الحيلة ذاتها، فنفقات المدارس الخاصة لأبنائه "أكثر أولوية من المصيف"، فانتقل بهم من قضاء 15 يوماً في"العين السخنة"، إلى قضاء أسبوع أو أكثر في شقة أسرة زوجته في منطقة العجمي بمحافظة الإسكندرية.
يقول محمد إن عمله يرتبط بمجال التصدير الذي تأثر بالظروف الاقتصادية والحرب بين أوكرانيا وروسيا، وانعكس ذلك على دخله الشهري بالسلب، فكان الحل أن يتنازل عن قضاء إجازة المصيف مُقابل أن يفوز بها الأبناء، إلا أن الأمر جاء بمردود عكسي على غير ما توقع.
من وحدة سكنية خاصة "شاليه" على البحر مباشرة في منتجع راقٍ بالعين السخنة، يملكه أحد أقارب أحمد فيوفر عليه نفقات الإيجار ويتحمل هو تكلفة الطعام والتنزه، التي قد تصل إلى 15 ألف جنيه، أي ألف جنيه في اليوم الواحد، إلى شقة في منطقة شعبية مزدحمة، تمتلئ بالمقاهي وأغاني المهرجانات وغيرها من التفاصيل التي تُظهر التفاوت بين الحالتين، فضلاً عن افتقاد الخصوصية. فالمصيف هنا بصحبة الجد والجدة والخالات وأولادهم.
الطب النفسي: التغيير ضرورة لتجنب الانهيار
الخروج من دائرة العمل والانتقال لمكان يتميز بالهدوء وألوان مُبهجة، هو نصيحة الدكتور جمال فرويز استشاري الطب النفسي لتجنب الاكتئاب وغيره من الأمراض النفسية، موضحاً لرصيف22 أن التنزه وأخذ قسط من الراحة يُسببان السعادة ويُفرغان الطاقة السلبية فيعود الأشخاص إلى حياتهم وعملهم بطاقة أكبر.
وأضاف فرويز أن الاستمرار في دورة الحياة والعمل من دون فاصل يُصيب الإنسان بالانهيار، مؤكداً على ضرورة البحث عن طريقة للاستمتاع سواء السفر إلى المصيف، أو التنزه في النيل، أو حتى"الترعة"، فضعوط العمل والحياة تأكل العُمر وتُصيب الإنسان بما يُسمى بـ"بريك داون" فيُسبب ارتفاعاً في ضغط الدم، ونزيفاً في المخ، وجلطة في المخ وغيرها من الأمراض.
الإجازات تُساعد على إعادة الحيوية والقدرة على العطاء، لذا قررت مصر إجازة أسبوعية يومين، فيما أقرت بعض الدول ثلاثة أيام في محاولة لشحن الطاقة، حسب فرويز الذي يوضح أن الموظف المصري يوجد في محل عمله من الثامنة صباحاً حتى الثانية مساءاً على اقل تقدير، إلا أن الوقت الفعلي لعمله لا يتعدى الدقائق السبع، "بينما لو حصل على الراحة النفسية أو وفّر له مجال عمله المُتعة اللازمة مثلما كانت تُنظم المصالح والشركات الحكومية سابقاً رحلات مصيف للعمال وأسرهم، لعاد للعمل بصورة أفضل".
ارتفاع درجات الحرارة تزيد من التوتر والعصبية وفُرص الإصابة بالاكتئاب، حسب ما أكده فرويز، مشدداً على ضرورة البحث عن مصدر للسعادة يٌناسب القدرة المادية لكل فرد، حتى لا يتسبب الضغط المادي في أزمة أخرى قد تفضي إلى الانهيار، مضيفاً أن البعض يُعاني من السلبية فيستدين للسفر وقضاء إجازة وبعد العودة يبدأ في البحث عن كيفية سداد الدين وهو ما يقضي على الأثر الإيجابي للتغيير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...