شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
في الحرب والحصار والتشوه العاطفي... من لا يستطيع أن يمنح شعبه الحياة، كيف سيمنحه الحرية؟

في الحرب والحصار والتشوه العاطفي... من لا يستطيع أن يمنح شعبه الحياة، كيف سيمنحه الحرية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 27 أغسطس 202212:43 م

منذ العام 2007 وعقب تولي حماس الحكم في قطاع غزة، يعاني القطاع من حصار ممتد يطال جميع مناحي الحياة. هذا بالإضافة إلى الحروب والنكبات المتتابعة التي وصل عددها إلى خمس، آخرها الحرب التي استغرقت ثلاثة أيام في أغسطس/آب الجاري والتي وصل عدد الشهداء فيها إلى 46 شهيداً، ثلثهم من الأطفال وذلك وفق إحصائية أعدها مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان.

في جولة الحرب يلتف الناس حول الأجهزة المرئية أو المسموعة المحلية والأجنبية يشاهدون البث المباشر للمعارك الدائرة التي اتفقت فصائل المقاومة في غزة على تسميتها باسم له تاريخ إسلامي أو مشتق من آية قرآنية، يليه عناوين مفادها دك غلاف غزة بعدد من صواريخ المقاومة، ذلك الخبر يعبث بمشاعر الناس وينقلها إلى شعور آخر يختلط فيه الابتهاج مع الفرح، مشهد هروب المستوطنين صوب الملاجئ فيه متعة، ليصبح هذا الخبر المدخل الرئيسي للإثارة وتزييف سير المعركة؛ فتبدأ حركة عكسية وتنهال الأكاذيب للتلاعب أكثر مع عواطف لا يحكمها عقل ولا منطق ليصبح النصر على الأبواب، إلا أن ثمة أسئلة ترفض البقاء على الهامش وتطرح نفسها بقوة أمام عبث كبير وسخرية متشائمة، ما المعيار الذي يقيم وفقه الفلسطيني حالة البطولة والفداء وحالة الجبن والخوف؟ لماذا يرى الفلسطيني في سلوك المستوطنين وقت الحرب وتوجههم نحو الملاجئ ما ينفي عنهم البطولة؟ هل مطلوب منهم الخروج لاحتضان الصواريخ مثلاً كما يفعل الفلسطينيون؟

اللافت أن الشعب الفلسطيني يتعامل مع هذا النوع من الاحداث بشكل من الاستعراض المتناقض الذي يهمش إنسانيته ويمرر الحدث على أنه غير مؤثر في كونه إنساناً. هذا السلوك المشوه عاطفياً يجعله يتعامل مع مشاعره المتناقضة التي يجتاحها الخوف بالكتمان والإسكات، وكأن مسألة الاعتراف بها أمر ينقص من شأنه وقيمته. ولعل المتابع لمرحلة التحضير لما قبل الحرب، يرى الوجوه يشوبها ملامح تخالف ما تطلقه الألسنة، لأن العرف الفلسطيني ينساق للإعلاء من ذاته وفق معايير هدامة.

ردود الأفعال هذه التي تصدر عن الفلسطينيين أفرزتها الثقافة وجملة الظروف القائمة. ويأتي في مقدمتها الحصار المستمر على مدار أكثر من خمسة عشر عاماً، والذي أدى إلى إنهاك الحال الفلسطيني وتسبب في هشاشة واضحة في بناه الاجتماعية على جميع الأصعدة. وإن كان هذا التعبير "حصار" صار مثقلاً كثيراً لعمق الإشكاليات التي تسبب بها وتنوع أشكال المعاناة التي تمخضت عنه. لا بل كان أيضاً ملعباً غنياً بالمساحات التي تسمح بالمراوغات السياسية وأهدافها المتضمنة التي كان يتم تحميلها على هذا الحصار!

الحصار وحالة التيه هذه قد ساهما في ضياع أي أمل للناس للتحرك صعوداً وفق "هرم ماسلو"، الذي يشمل الاحتياجات الإنسانية في خمس مراحل تمر وصولاً لتفعيل القيمة النهائية لتعزيز الذات، وبمجرد النظر إليه وإسقاطه على الواقع في قطاع غزة، نجد أن المواطن الغزاوي يقف على خصومة كبيرة مع هذا التصنيف لأن قاعدة الانطلاق تبدأ من توفير الاحتياجات الإنسانية المرتبطة بالأكل والشرب وما شابه التي تمهد انتقاله للمراحل الأخرى.

ردود الأفعال هذه التي تصدر عن الفلسطينيين أفرزتها الثقافة وجملة الظروف القائمة. ويأتي في مقدمتها الحصار المستمر على مدار أكثر من خمسة عشر عاماً، والذي أدى إلى إنهاك الحال الفلسطيني وتسبب في هشاشة واضحة في بناه الاجتماعية على جميع الأصعدة

لندرك هنا هذا القصور في تقدير الفلسطيني لذاته واستسهاله لفكرة الموت. ففي ظل هذا النقص في الاحتياجات الأساسية التي يتم تقديمها كمساعدات وبإلحاح شديد وبرخص لا يتناسب مع حجم الكرامة المهدورة رغم أنها حق مستحق، نجد أن شعبنا علق في أول درجة في هذا السلم الانتقالي، وسيستغرق الأمر الكثير من الجهد والوعي للوصول لتعزيز قيمة الذات.

وللأسف، الظروف الراهنة والتراكمات وتبعاتها أرهقت المجتمع الفلسطيني في غزة وقوّضت قدرته على التغيير والمواجهة الفاعلة. واكتفى بهذه الحالة من الصمود الصامت الذي، وإن كان يجسد مقاومة هي في ذاتها أضعف الإيمان، فإن أشكال التعبير عنه صنعت هذه التجربة الإنسانية الفلسطينية الإبداعية والاستثنائية والتي نختصرها بوصف "إتيقيا المقاومة".

ساهمت في تفاقم هذا الوضع أيضاً سياسة حماس الداخلية في التعامل مع أزمات الشعب. كان الأمر يتطلب حكمة أكبر في إدارة كل الإشكاليات ذات الصلة والتي في جوهرها تحتاج من الذكاء والوعي الكثير نظراً لطبيعتها الشائكة وآثارها التي تطال قضايا جوهرية كالذاكرة، الانتماء، الوعي الجمعي، الوطن، الاغتراب وغيرها. والتي في ظل هذه السياسات تصاعدت آثارها؛ يمكن إدراك ذلك من خلال مجموعة من الظواهر، أبرزها حالة التشوه العاطفي وأشكال التعبير المفرط والمبالغ فيه بممارسة الفرح كرد فعل على الألم، فتجد الأم تزغرد لرحيل طفلها، ويدّعى الأطفال الصمود كالكبار ويكبتون مشاعرهم، ويتمنع الأب عن البكاء ليبدو صلباً كشجرة لا تعرف متى يحين خريفها! هذا الشكل من أشكال التعبير المكبوت والإنكار هو مرحلة من مراحل اضطراب ما بعد الصدمة التي يتم تفريغها لاحقاً بشكل سيىء كالاتجاه نحو السلوك العنيف، وتدهور الوضع الصحي، والقلق وأرق النوم، والصعوبات في الكلام والتواصل، والعصبية وغيرها. وهو ما تؤكده الدكتورة سابينا مارو، الطبيبة النفسية الإكلينيكية الأمريكية والمختصة في علاج الناجين من الصدمات حين قالت: "إنكار الصدمة المستمرة يسبب معاناة أكثر مما يجب أن يكون. على الرغم من أن الناجين من الصدمات قد يتعلمون كيفية قمع هذه التجربة غير السارة من ماضيهم، فإن أجسادهم وعقولهم ستستمر في تحملها حتى مواجهة الصدمة".

ما سبق يعلل بدوره نسبة العنف والجرائم وحالات الطلاق والإشكاليات الاجتماعية المتزايدة مؤخراً في قطاع غزة. فوفقاً لإحصاءات جهاز الإحصاء الفلسطيني لعام 2022 فقد شهد قطاع غزة ارتفاعاً في مستويات العنف بالنسبة إلى غيره من المناطق، إذ بلغت نسبة العنف الاجتماعي في القطاع نحو 41% في مقابل 20% في الضفة الغربية.

حالة التخدير العرضي للشعب الفلسطيني

في أوج هذه المعاناة وتفاقماتها، كانت حماس تعالج الأمر بالتخدير النفسي القائم بالدرجة الأولى في أن هذا الشعب يحقق النصر عليه بالصبر والصمود واحتساب الأجر.

ترى حماس ربما في مشروع المقاومة الذي تطرحه الورقة الرابحة التي يمكن أن تضمن بها التضامن الشعبي الدائم عاطفياً وسياسياً. لكن مؤخراً كشفت ردود الأفعال الشعبية عن ضجرها من فكرة المقاومة على هذه الشاكلة التي تستنزف الشعب وتبدو غير عادلة إذ يدفع فيها الشعب ثمناً باهظاً مقابل حالات هلع في الجانب الإسرائيلي لا يستحق ذكرها. وأجد أن السياقات الشعبية المعلنة محلياً عقب كل مرة تخوض فيها حماس اللعب بهذه الورقة وإطلاق الصواريخ باتجاه الأراضي المحتلة تتمخض عنها حالة نسميها "حالة التخدير العرضي للشعب الفلسطيني".

شهد قطاع غزة ارتفاعاً في مستويات العنف بالنسبة إلى غيره من المناطق، إذ بلغت نسبة العنف الاجتماعي في القطاع نحو 41% في مقابل 20% في الضفة الغربية

هي حالة عاطفية تصنعها توليفة خاصة من الظروف والأجندة السياسية الخفية تحت شعار "المقاومة". إنها أشبه بحالة تخدير مؤقت ينتهي تأثيرها بحالة من الإفاقة على واقع أشرس وأقذر من سابقه. تبدأ بشعور من اليأس وتنتهي بيأس أكبر منه. لتصبح حينئذ المقاومة إبرة مخدرة تعطى في أحد الأوردة المحتلة وتسبب حالة عاطفية عرضية للشعب، هذه الحالة هي خليط من مشاعر النشوة والفرح والفخر والثأر والعزة والكرامة والقوة.

يستمر هذا التأثير لفترة زمنية وجيزة بعدها يبدأ بالتلاشي وتبدأ مرحلة الاستفاقة. هذه المرحلة الأصعب والتي تسببها مجموعة من الإشارات التي يرسلها الفضاء الحضري المحيط من حولنا والذي يعاني من الحصار والهشاشة في بنيته نتيجة لتتابع وتراكم الأزمات (متمثلاً ذلك في انقطاع الكهرباء، تلوث المياه، تلوث الهواء، نقص في الخدمة الصحية، معابر مغلقة)، ونخلص إليها بسبب جملة من الممارسات الحياتية اليومية (البطالة التي وصلت إلى 47٪، انقطاع الرواتب، انعدام الأمان الوظيفي وغيرها)، وتنتهي بالشعب إلى نفس يائسة محطمة مكسورة تعيش واقع أشرس وأقذر من سابقه وتعاني حالة من الاغتراب.

لاحقاً، يعود سيناريو السياسة إلى المشهد مجدداً ليبدأ المفاوضة والمساومة على تسوية الأوضاع والبدء بمرحلة إعادة الإعمار. هنا يساق هذا الفلسطيني المحطم الى مزاد علني للمساومة على جراحه التي لم يشفها مصل عتيق وإبرة مخدرة تسمى المقاومة، بل إن حالة التخدير هذه أدت الى تفاقم الحالة والدخول في صدمة أكثر قسوة.

إنها أشبه بحالة تخدير مؤقت ينتهي تأثيرها بحالة من الإفاقة على واقع أشرس وأقذر من سابقه. تبدأ بشعور من اليأس وتنتهي بيأس أكبر منه

تبدأ المساومات وتراوح بين كوبونات إغاثية وحقائب بملايين الدولارات وتعويضات مادية زهيدة. وينتهي الأمر بأن يعود الفلسطيني المحطم إلى واقعه القذر من جديد مُستنزفاً ومُشوه الذاكرة ومسلوب الأمل. تُسرق الكوبونات والدولارات لأهداف وطنية قائمة بشكل أساسي على تصنيع المزيد من هذه الابر المخدرة اللعينة!

الفلسطيني في هذه المعادلة هو المادة الأساسية للمساومة، يتم قهره قمعه وتجويعه ليصبح مادة جاهزة للبيع والاسترزاق بها. وبمجرد أن يؤدي مهمته يعود الى ذله المعتاد. يدور في حلقة مفرغة دنيئة! وحين يحاول في لحظة أن يخرج عن هذا المسار الإجباري يتم تخديره برشقة صواريخ مخدرة في "الوريد المحتل". ينتشي ويدخل في حالة من الفرح والعزة والكرامة الكاذبة ثم يستفيق من جديد ويعد نفسه للموت.

العناية بالذات في مواجهة حالة التخدير

إن هذه الدائرة المفرغة التي يدور فيها الفلسطيني بشكل مغلوط بمحض النهايات المأسوية تثير المقارنات مع السلوك الذي تنتهجه إسرائيل الذي تسعى من خلاله لبناء وعي جمعي مبني على فلسفة العناية بالذات، هذا الوعي الجمعي ساهمت في تعزيزه مؤسساتها من خلال إظهار قيمة الإنسان كمكون أساسي في تأصيل الحضارة وكتابة التاريخ، وبقوة القانون الملزمة لتكوين شكل المجتمعات ووفق تفاهم يخلو من العيوب، دفعت المجتمع إلى تطبيق الإجراءات الوقائية وتنفيذها دون تقاعس أو تقصير. لذا بمجرد أن تدوي صافرات الإنذار تجدهم يهرولون إلى الملاجئ بينما نحن نسخر من تلك التصرفات. إلا أن تقدير الموقف مدروس ويلبي احتياجات المعركة من جميع اتجاهاتها، شعب لا يريد أن يموت وهو يتسكع في الشوارع، بينما نحن سكن في وعينا فكرة مغلوطة ربطته بالجبن والهزيمة، لنتساءل هل هذا الربط يستمد قوته من فهم خاص لدينا كفلسطينيين يتعلق بالبطولة أم لافتقاد حقيقي لمبدأ العناية بالذات وقيمة الحياة؟

هذا يدفعنا لإعادة إحياء سيرة بعض المكاتبات التي تناولت أحداثاً تتشابه مع حالتنا وإن اختلفت طبيعة البشر والحدث ذاته، إلا أنها تلاقت في تشابه كبير من ناحية الاهتمام بالنفس، هنا حضرت فلسفة فوكو التي تعمق فيها الباحث عبد السلام حيدوري ماثلة أمامنا وتفسر هذا الخلل وفق معيار ثابت ومحدد وبكلمات مختصرة: "إذا كان الجميع أو الكل قادراً مبدئياً على الدخول أو الشروع في ممارسة الاهتمام بالنفس، فإنه من الناحية الواقعية المطلقة ثمة عدد محدود من القادرين بالفعل على الاهتمام بالنفس، وذلك لغياب ونقص الشجاعة والقوة والمكابدة والصبر وعدم القدرة على إدراك أهمية هذه المهمة وهذا هو مصير الأغلبية والأكثرية".

نحاول من هذا العرض والتحليل توجيه الحديث نحو إيجاد شكل مقاومة يليق بتضحيات هذا الشعب وقيمة الذات الفلسطينية، انطلاقاً من فوكو الذي يرى في علاقة الذات بذاتها شكلاً من أشكال المقاومة.

قبل أن نتعلم المقاومة علينا أن نتعلم حب الذات الذي هو جزء لا يتجزأ من منظومة الأخلاق. تقدير الذات الذي يقتضي معنى أن يصبح لدمعة طفل وزن ولقطرة الدم الساقطة من جريح وزن ولروح الشهيد التي ترتقي وزن! إذا لم نحسن تقدير ذواتنا فلن يقدّر هذا العالم معاناتنا ولا قضيتنا! بمجرد تعزيز تقدير الذات يصبح الانخراط في تجربة المقاومة عملية خلق فنية تتحول فيها الذات إلى عمل فني.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image