خضع التاريخ، في الأعوام الأخيرة، إلى تحولات عظيمة وترك الأسلوب التقليدي أي التأكيد على التاريخ السياسي، مكانه للتاريخ الحديث (Nouvelle Histoire). يستخدم التاريخُ الحديثُ علم الاجتماع والاقتصاد والتركيبة السكانية والجغرافيا والأنثروبولوجيا وعلوماً أخرى وأساليب كثيرة، كما يقدّم بأبعاد وسيعة وأكثر جاذبية وحماس عن كتابة الوقائع التقليدية. يحاول هذا النوع من التاريخ مناقشة جوانب من حياة الإنسان كانت سابقاً لا تحتسب جزءاً من التاريخ. ليس الموضوع هنا قصة النخب والملوك والعلاقات السياسية وشرح الحروب والفتوحات بل يتطرق إلى البُنى الاجتماعية الثقافية للمجتمع، أي إلى حياة الناس البسطاء.
بالطبع إنّ مثل هذا التاريخ، يحتاج إلى مصادره وقراءة الوثائق الرسمية مثل الصحف والمجلات والتلغراف والرسائل الإدارية. مع هذه المقدمة سنلقي نظرة على مذكرات فتاة اسمها "رفعت" دوّنت وقائع أشهُر زواجها الأولى. يعود تاريخ المذكرات لعام 1943، حين كانت شابة في السادسة أو السابعة عشرة من عمرها. يمكن من خلال مدونتها إلقاء نظرة دقيقة على حياة فتاة إيرانية في الثامنة عشرة، لمعرفة كيف ذهبت إلى بيت الزوجية وكيف عاشت الأيام الأولى مع زوجها وعائلته.
تبدأ رفعت حكايات زواجها بتاريخ 7 تموز/يوليو 1943 بعنوان "حكايتي عن الشهر الأول من زواجي" والعنوان الفرعي "الفخّ"، متحدثة عن كوخ العائلة:
"هذا العام وكما كلّ عام نستقر في بستان العائلة في قرية نياوَران -في الوقت الحالي هي جزء من شمال طهران-. دون حزن أو ألم كنتُ مثل عندليب مغرد، بعيداً عن محنة الدراسة والحصول عى الدبلوم مع ابنة عمتي، نقضي الأيام في السمر والسهر، منشغلتين بالغناء. كان ابن عمتي أيضاً يغني أغاني أخّاذة وجميلة. لم أكن على علم بمعنى الحزن. وحين أدخل في حديث مع أحدهم يشكو الحياة وحزنها، أقول لنفسي، لقد خلق الله الانسانَ من أجل الفرح والضحك. تعرفتُ من بين العائلة عى فتاة باسمة المحيّا. كلّ مَن رآني يعرفني بالابتسامة والحديث الحلو. كنت في قلوب كلّ العائلة، ولأنني كنت صندوق الأسرار لهم، يجدني الجميع حافظة أسرارهم. كنتُ أتحدث مع الكلّ، أحياناً فرحة، وأحياناً أخرى حزينة، وأشغل نفسي بأحاديث الفتيات. حتى جاء خادم منزلنا في شِميران -من قرى شمال طهران وكان لفترة مصيف المدينة، ولكنها الآن باتت جزءاً من طهران)، فقد اتصلوا خمس مرات، يطلبونني".
مذكرات فتاة إيرانية اسمها "رفعت" دوّنت وقائع أشهُر زواجها الأولى. يعود تاريخ المذكرات لعام 1943، حين كانت شابة في السادسة أو السابعة عشرة من عمرها
وتوضّح في ما بعد كيف طلبوا يدها عن طريق إحدى معلماتها.
"... قد رؤوا، الموضوع الخطوبة. يا إلهي كم كانت أيام الشباب والطفولة جميلة! يا للحسرة وألف حسرة!".
انتهت هذه الخطوبة بالزواج.
"أحمد الله ألف مرة على أننا عائلة أصيلة، والله تعالى لم يقطع أملي في أن أحصل على زوج يطابقني، ونبيل. أمضينا ذلك اليوم في فرح وسرور. حانت الساعة التي طلب فيها خطيبي من أمّي أن يلبسني خاتم الزواج. هي أيضاً كانت تأمل مثل هذا اليوم الجليل. وافقت برحابة صدر. حالة لا توصف، انزلق العرق البارد مغطياً كل وجودي ولم أستطع التحرك. لم أنم حتى الصباح. يا لها من أفكار وأخيلة فارغة تراودني".
تكتب عن أيامها الأولى من زواجها وكانت ماتزال في بيت أبيها:
" في الصباح الباكر حيّيتُ أولاً زوجي العزيز. قبّل وجهي. قال لي أتمنى أن نعيش سوياً سنيناً طويلة في سعادة وفرح وبهجة بحصولنا وتربيتنا لأطفالنا. سنشكّل عائلة صغيرة وسعيدة... مضى شهر سعيد، تبادلنا الزيارات فيه. كان الأقارب يدعوننا كضيوف فخريين".
بعد مضي شهر خرجتْ رفعت من بيت عائلتها ذاهبة إلى بيت زوجها في مدن أخرى. كتبت كلّ هذه الأيام في صفحات عنونتها بـ"الانفصال"، وشرحت الأفكار والأحداث لحظة بلحظة. كان الانفصال يرافقها وكان وقعه عليها أليماً إلى درجة وصفه بهذه البداية:
"يا ساعات الانفصال، كم أنت مُرّة. كم أنت مشؤومة يا أيام الانفصال. منذ الصباح جمعتُ الأثاث وأنا أبكي معدّة نفسي للرحيل. أحياناً أضمّ أمّي إلى صدري. أقبل أخي الصغير... ينصحني خطيبي العزيز أننا سندعو الوالدة في أول أيام العطل إن شاء الله، بيد أنّ النصيحة لا تجد مكاناً لها في رأسي".
سُلّمت أثاثهما للكراج حتى يستلماها بعد أسابيع في مدينتهما الجديدة. ركبت برفقة زوجها السيارة، ووصلا إلى المدينة التي كان من المقرر أن يبدأا فيها حياتهما. ذهبا بعربة تجرها الخيول إلى بيت أخت زوجها، وتعرفت هناك على أقاربها الجدد.
"قبّلتْ أخت زوجي وجهي، وربتت على رأسي، وقالت: يا عزيزتي لا يخطر على بالك أنك غريبة. أنت في أعيننا مثل أولادنا الأعزاء. لا تشغلي بالك يا عزيزتي، كوني سعيدة. أنا مثل أمّك (وكانت كما قالت)".
"نهضتُ، ووضعت الشادور عى رأسي، ونزلت من الدرج وسط العتمة بهدوء لكيلا يعلم الأصدقاء ولا الأعداء بما يحدث لي فيهزؤون مني. وصلت إلى الباحة حين صدر صوت. مَن دخل كان زوجي. أوصلت نفسي إلى الغرفة ومثل شخص فقد روحه رميت بنفسي على الأرض"... مذكرات تُنشر لأول مرة
بيد أنّ المشاكل منذ الليلة الأولى بدأت في البيت الجديد. فهي لم تتحمل البُعد عن بيت أبيها ولم تتحمل الوحدة. تركها زوجها في البيت، وخرج مع أصدقائه. أصيبت رفعت في المدينة الغريبة بالاكتئاب والقلق. تكتب تحت عنوان "الليل":
"بعد وجبة العشاء ذهبتُ إلى غرفتي، وجلستُ في زاوية، وحيدةً. لماذا أكتئب؟ هل ضاقت بي الحياة؟ نعم، يا عزيزتي، زوجي لم يكن في البيت، وكنت أنتظره وأنا أبكي لساعات. أين أمي التي أحتاجها. رفعتُ يديّ أدعو الله أن يميتني. أحياناً أضع رأسي بين ركبتي. لا أعلم من أين مصدر كلّ هذه الدموع التي تجري من مقلتيّ. بالتحديد كانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل حين تلاشت طاقتي. نهضتُ، ووضعت الشادور عى رأسي، ونزلت من الدرج وسط العتمة بهدوء لكيلا يعلم الأصدقاء ولا الأعداء بما يحدث لي فيهزؤون مني. وصلت إلى الباحة حين صدر صوت. مَن دخل كان زوجي. أوصلت نفسي إلى الغرفة ومثل شخص فقد روحه رميت بنفسي على الأرض".
توضّح رفعت أنها بعد هذه الليلة مرضت عشرين يوماً إلى درجة أنها لم تعد الفتاة المبتهجة في العائلة. تتوصل في النهاية إلى كتابة رسالة لأمّها شارحةً فيها حالها لتمدّها بمساعدة، وتخرجها مما هي فيه. ولكن، قبل إرسال الرسالة، يجد زوجها ما كتبتْ. تكتب رفعت:
"قبض على الورقة وقرأها. احمرّ وجهه. سرح بفكره. كأنّ حياتي مرت من أمام عينيه ويرى فيها وجهي الحزين. قلت له: يا عزيزي، يا رفيقي الطيب، لقد أتيتُ إلى هذا البيت وكلي أمل فيك. لا أستحق أن تقطع جناحي بهذه السرعة وتجلعني أيأس. فجأة وجدته يقبض على يدي ويخطب فيّ بحديث حارق ويسحبني إليه: يا عزيزتي، لقد أوقفتُ حياتي من أجلك وما دمتُ حياً فعمري لك. لا تحزني. ما هذه الورقة؟! انهضي واغسلي وجهك، أبعدي غبار الحزن عن قلبك. قبّل وجهي، وكأنّ كلّ الحزن والألم قد أُزيحا عني في تلك الساعة".
بعد ذلك شدّا الرحال إلى بيت عائلتها لترى أمّها، وبعد شهر من البُعد، اجتمعت العائلة ثانيةً، وهنا انتهى حديثها عن الشهر الأول من زواجها.
تظهر لنا نصوص رفعت نمطَ الحياة في تلك الفترة في إيران حيث لم يكن التواصل مثلما هو الآن، وكم كان صعباً على فتاة في مثل عمرها أن تدخل الحياة الزوجية وهي لا تملك التجربة. من خلال نصوصها، نلمس آلامها وآمالها، وتسمح لنا أن نقترب منها ونتعرف عى تجاربها.
هذه المدونة هي جزء من التاريخ خاصة في ما يتعلق بالنساء اللواتي وبالرغم من تشكيلهن نصفَ المجتمعات، إلا أن نصيبهن من التاريخ قليل جداً، ودائماً ما يضعهن التاريخ في الهامش.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...