شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
هجرة اليمنيين غير الشرعية إلى السعودية... قناصون وقطاع طرق ومهربون مخادعون

هجرة اليمنيين غير الشرعية إلى السعودية... قناصون وقطاع طرق ومهربون مخادعون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والمشرّدون

الثلاثاء 30 أغسطس 202210:38 ص

في مطلع أيار/ مايو 2022، كان أحمد (اسم مستعار، 18 عاماً) واحداً من بين خمسين مهاجراً يمنياً سلّموا مصائرهم لمهربٍ توغل بهم نحو عشرة كيلومترات داخل الأراضي السعودية متوجهاً بهم صوب منقطة "خميس مشيط"، على أمل أن يتولى مهربٌ آخر مهمة نقلهم من هنالك صوب العاصمة الرياض.

وعلى الرغم من الوعود الكثيرة التي قطعها المهرب الأول، وهو يمنيٌ أقسم للشاب ولزملائه بأنه يعرف الشريط الحدودي شبراً شبر، وأن لديه خبرة متراكمة تسمح له بالتغلّب على مراقبة قوات الحدود السعودية المنتشرة لصد أي تسلل لعناصر قوات الحوثي، فإنهم، حين دخلوا ضمن دائرة الرصد، اختفى بلمح البصر مع أول رصاصة أطلقت باتجاههم.

"كدت أفقد حياتي في ذلك اليوم"، يقول أحمد وهو يستعيد شريط ذكرياته المريرة، إذ أصيب رفيقٌ له كان بجواره تماماً، فأطلق ساقيه للريح كما فعل الناجون الآخرون الذين فر كل واحدٍ منهم في اتجاه.

صحراء وجبال والكثير من الطرق الوعرة قال إنه اجتازها خلال ثلاثة أيام من سيره المتواصل، أكل خلالها أوراق الأشجار وشرب مياه آسنة إلى أن صادف مهاجرين إثيوبيين أرشداه إلى الطريق الصحيح المؤدية إلى خميس مشيط مقابل 200 ريال سعودي (نحو 53 دولاراً).

وبعد عشرة أيامٍ من السير على الأقدام، نجح في الوصول إلى مقصده، كما فعل ثلاثون من رفاقه المهاجرين، وقابلوا المهرب الثاني وفقاً للخطة التي عادت إلى مسارها المتفق عليه، فحشرهم مثل "أعواد الكبريت"، بحسب وصف أحمد، في سيارة من نوع GMC وانطلق بهم في الساعة الثامنة مساءً عبر مسار بعيد عن الطريق الرئيسي، ووصلوا إلى الرياض في الثامنة من صباح اليوم التالي.

يقول مع ابتسامة تطفو على ملامحه الفتية لرصيف22: "لم نصدق ساعتها أننا نجونا من الموت، ليس من رصاص قناصي حرس الحدود أو الجوع والعطش في الطرق التي قطعناها سيراً على أقدامنا، بل من السرعة الجنونية التي كان يقود بها المهرب الثاني!".

كلّفته هجرته غير الشرعية 4200 ريالاً سعودياً (1120 دولاراً) كان قد أودعها لدى قريب له مقيم في الرياض، وسلمها للمهرب الثاني بمجرد وصوله. غير أنها لم تكن تجربته الأولى: "قبل أربع سنوات، دخلتُ بذات الطريقة إلى المملكة، لكن حينها لم ألاقِ المصاعب ذاتها".

هو يعتقد بأن الأمر استحق المجازفة، لأن الفرص كانت منعدمة أمامه في محافظة إب التي أتى منها، بسبب تداعيات الحرب القائمة في البلاد على الحركة الاقتصادية والتي تسببت بفقر مدقع لعائلته الكبيرة التي باتت تعتمد عليه بنحو كامل في معيشتها.

يعمل أحمد في صناعة صناديق خشبية في ورشة خارجية في أطراف العاصمة الرياض من السادسة صباحاً حتى السابعة مساءً، "تحت أشعة الشمس الحارقة"، وفقاً لتعبيره، بمرتب شهري يبلغ 1500 ريال سعودي، أي أقل من 400 دولار، وهو قابل للزيادة بمقدار الثلث إذا أتقن العمل بمرور الوقت.

لكن قصته لم تصل بعد إلى نهايتها السعيدة، فهو يعيش، وعلى الرغم من تدابيره الاحترازية التي تحدّ من حركته، قلقاً دائماً من احتمال اكتشاف الأمن السعودي لتواجده غير الشرعي، ما يعني ترحيله وتغريم رئيس عمله السعودي مبلغاً قد يصل إلى 100 ألف ريال (أكثر من 26 ألف دولار).

قلق متواصل

آلاف المهاجرين اليمنيين غير الشرعيين يعبرون مثل أحمد الحدود اليمنية إلى السعودية شهرياً، غير أن الحظ لا يحالف الجميع. بعضهم يفقد حياته في الطريق أو يُعتقل على الرغم من وصوله بعد رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر كما حدث لرائد ملهي (24 عاماً) من منطقة ماوية في محافظة تعز.

"كان هذا قبل سنتين"، يقول لرصيف22 وعيناه تدوران في محجريهما كأنه يروي تفاصيل كابوس. بدأ رحلة هجرته غير الشرعية من منطقة آل ثابت على الحدود اليمنية السعودية، وقطع على مدى أسبوع ضمن مجموعة كبيرة من المهاجرين أراضيَ صحراوية وجبالاً قاحلة، وسيطر عليهم الجوع والعطش بعد نفاد مؤونتهم من طعام وماء، مع نوبات ذعر بين الحين والآخر بسبب مطاردات دوريات قوات الحدود السعودية.

هو الآخر جرّب مثل أحمد السرعة الجنونية لسيارة الـGMC في الجزء الأخير من الرحلة التي انتهت كذلك في الرياض ليمكث فيها 18 شهراً هي الأصعب في حياته كما يقول.

يشرح: "كنت أتقاضى 1500 ريالاً سعودياً شهرياً عن عملي في إحدى المزارع في طحن الفحم المستورد من الصومال لاستخدامه في المقاهي. كنت أبدأ العمل في الرابعة فجراً وأستمر لغاية الثامنة مساءً، وأحياناً تلحقها ساعات إضافية حتى منتصف الليل".

يحاول أن يجد كلماتٍ يعبّر بها عن الصعوبات التي واجهها. يمد كفيه أمامه ويقول: "لو أنهما يحكيان لعبّرا أفضل منّي بكثير عن الشدة التي كنت فيها، كان لونهما أسودَ بلون الفحم وجلدهما مليء بالتشققات".

في منتصف إحدى الليالي، داهمت شرطة الجوازات المزرعة التي كان يعمل ويبيت فيها، واعتقلته مع عشرة آخرين من رفاقه واقتادتهم إلى سجن يدعى الشفاء، وبعد يومين نُقل إلى سجن آخر اسمه الشميسي، ليقضي هناك أسبوعاً مع مئات آخرين من المهاجرين غير الشرعيين.

مشى الشاب سيراً على الأقدام ولعدة أيام مع خمسة آخرين في مجرى السيل الفاصل بين الأراضي اليمنية والسعودية، فإنْ حاولوا الخروج عن مسارهم يميناً سيطلق الحوثيون النار عليهم، وإنْ توجهوا يساراً ستطلق عليهم القوات السعودية نيران أسلحتها

يقلّب كفيه مرة أخرى ويباعد ما بين أصابعهما ويتابع: "أخذوا طبعات أصابعي، وبصمة عيني، مما يعني منع دخولي إلى المملكة مرة أخرى حتى وإنْ كان ذلك بطريقة شرعية. ثم أركبونا حافلات كبيرة وأخذونا إلى منفذ العبور الحدودي".

بحسب روايات مهاجرين يمنيين غير شرعيين، فإن سبب دخولهم في مغامرة التهريب المهلكة هو عدم تمكنهم من ترتيب إقامات شرعية لهم في السعودية، تصل كلفتها إلى 12 ألف ريال سعودي (3200 دولار) في أقل تقدير فضلاً عن تكاليف التأمين الصحي والاستحصال على جواز سفر والنقل وغيرها.

"الحرب وظروف البلاد الصعبة هي التي أجبرتني على الهجرة بالتهريب إلى السعودية"، يقول موسى عبد الكريم (30 عاماً) لرصيف22 بكثير من الاستياء ويتابع: "عشرات المجلدات لا تكفي لكي يعبّر فيها الواحد عن المعاناة التي يلاقيها في طريق التهريب. نسبة الموت مرتفعة من أول متر داخل الأراضي السعودية، وإنْ لم يكن مصدر الموت رصاص قوات الحدود، يموت الواحد جوعاً أو عطشاً أو يقتله قطاع الطرق أو المهربون بحادث سيارة".

الهجرة غير مجدية في رمضان

سمع بشار سعيد ناجي (22 عاماً) من أصدقاء هاجروا بطريقة غير شرعية من اليمن إلى السعودية أن حرس الحدود السعوديين، يكونون أكثر رأفة بالمهاجرين في شهر رمضان ولا يفتحون نيران بنادقهم عليهم كما يفعلون في أشهر السنة الأخرى.

لذلك، وفي أول يوم من رمضان المنصرم، غادر قريته عسالب في محافظة إب نحو مدينة صعدة، ومن هناك إلى منقطة الرقو التابعة لمديرية منبه في أقصى شمالي اليمن وانتظر هناك، مع مئات آخرين، مهربين يوصلونهم إلى داخل السعودية.

ذكر أن المهربين سواءً اليمنيين أو السعوديين لا يظهرون بنحو علني في الغالب، وأنه تواصل هاتفياً مع أحدهم بعد أن أخذ رقم هاتفه من صديق له كان قد حصل على خدماته التهريبية من قبل، فجعله يتواصل مع مهرب آخر يمني الجنسية، لكن الأخير لم يوصله إلى حيث يريد.

يستدرك من وحي تجربته التي يصفها بالعصيبة مع الهجرة غير الشرعية إلى السعودية، أن المهربين "يبيعون ويشترون بالمهاجرين ويعرّضونهم لخطر الموت".

ويتابع: "في منطقة الرقو، انتظرنا حتى يقرر المهرب أي الطرق الحدودية أكثر أمناً، فهناك أربع طرق هي آل ثابت وجرعا وصبية ومفتاح، ونحن، وكان عددنا ثلاثون شخصاً، مع ثلاثة مهربين، سلكنا طريق جرعا، بعد استبعاد الطرق الأخرى، وأكثر الطرق خطورة هذه الأيام هي طريق ثابت أو ما يسمونه بطريق الموت، وهي بالفعل كذلك بسبب الحرب".

المهربون تقاضوا أجورهم مقدماً، وبلغت 100 ريال سعودي (نحو 26 دولاراً) عن كل واحد، وتقدم أحدهم يمشط الطريق ولم يسيروا سوى بضعة كيلومترات داخل الأراضي السعودية حتى سقطت قذيفة هاون بالقرب منهم.

تتقلص ملامح وجهه وهو يصف المشهد: "لا أعرف من أين أطلقت، ومَن أطلقها، المهربون فروا، وكل واحد منا هرب باتجاه للنجاة بحياته، مجموعة كانوا يركضون خلفي، سقطت عليهم قذيفة وحولتهم إلى أشلاء، لهذا عدت أدراجي مع آخرين صوب الحدود حيث السياج الحدودي الذي يفصل بين السعودية واليمن".

أخذ حرس الحدود كل ما كان بحوزتهم من طعام، وسكبوا المياه على الأرض من قناني المياه البلاستيكية التي كانوا يحملونها، وبعدها طلبوا منهم العودة من حيث أتوا، وهذا ما فعله بشار الذي تخلى عن فكرة الهجرة غير الشرعية "في رمضان أو غير رمضان".

آلاف المهاجرين اليمنيين غير الشرعيين يعبرون الحدود اليمنية إلى السعودية شهرياً، غير أن الحظ لا يحالف الجميع. بعضهم يفقد حياته في الطريق أو يُعتقل على الرغم من وصوله بعد رحلة شاقة ومحفوفة بالمخاطر

اجتياز اليمنيين للحدود السعودية رغم الإجراءات الأمنية المشددة، يجري وبنحو يومي، لكن فقط 5 إلى 10% ينجحون في الوصول إلى مدن سعودية، وهنالك أيضاً يتعرض الكثيرون منهم للاعتقال والابتعاد.

هذه المعلومات سمعها بسام مصلح (39 عاماً، من محافظة تعز) من أصدقاء له جرّبوا حظهم في اجتياز الحدود، ومع ذلك قرر المخاطرة قبل سنة.

لكنه لم يذهب بعيداً في مخاطرته تلك، إذ لاحقته مع مَن كانوا معه دورية لحرس الحدود السعودي فاستسلموا لها دون أية مقاومة، لتعيدهم جميعاً إلى الجهة الأخرى من الحدود.

يقول عن سبب استسلامهم بذلك النحو: "فرارنا إلى الوراء كان يعني الدخول إلى مخيم الرقو للاجئين في القرن الإفريقي، والوقوع بأيدي الناس هناك معناه إما الموت أو نهب كل ما معنا، كانوا سينزعون حتى الملابس التي علينا".

الكثيرون ممن نجحوا في المرور كانوا عرضة لحوادث السيارات بسبب رعونة المهربين وقيادتهم السريعة في طرق غير آمنة، ومن بين الضحايا وسيم سعيد (23 عاماً) من منطقة عميد الداخل في مديرية السياني.

يقول شقيقه فضل (20 عاماً عن ذلك: "تعرضت سيارة المهرب التي كان فيها وسيم قبل سنتين لحادث في الطريق إلى الرياض، أدى إلى تدحرجها وتهشمها، فمات هو وآخرون معه، ودفنوا هناك في السعودية".

ويضيف بحزن: "كان قد تزوج قبلها بما يزيد عن السنة، وكان قد رزق بطفل".

مأساة العائلة تكررت عام 2021 وفقاً لفضل، إذ فارق الحياة وبذات الطريقة ابن عم له يدعى مجاهد عبده سرحان (17 عاماً) لكن الفرق أن الكوادر الطبية في أحد مستشفيات الرياض حاولت إنقاذه، غير أنه فارق الحياة هناك.

ويعود للقول: "دُفنا بعيداً عنّا، وهذا ما زاد من مأساتنا".

مسؤولية إنسانية ودينية وأخلاقية

يؤكد رئيس مؤسسة وجوه الإنسانية في اليمن منصور الجرادي لرصيف22 أن "على السعودية تحمل مسؤولية إنسانية ودينية وأخلاقية تجاه اليمن، كونها طرف من أطراف الحرب التي اندلعت فيها وما تزال منذ ثماني سنوات".

يبدي اعتقاده بأن المملكة معنية بما يواجهه الناس في اليمن من ظروف معيشية صعبة، أو في الأقل بما يعانيه النازحون وبالتالي: "يتوجب عليها استقبال اليمنيين ليس كلاجئين ولا كنازحين ولكن كعاملين يعملون بعرق جبينهم، خصوصاً أن النهضة في السعودية قامت على سواعد اليمنيين".

أما في ما يتعلق بالهجرة غير الشرعية، يضيف، "فهناك إشكالية متبادلة بين الجانبين اليمني والسعودي في ما يتعلق بالتهريب عبر الحدود بين البلدين، لكن ظروف الناس في اليمن تحتّم عليهم الهجرة للبحث عن لقمة العيش، ومثلما تعاني السعودية من الهجرة غير الشرعية من اليمن، فاليمن أيضاً تعاني من الهجرة غير الشرعية من دول منطقة القرن الإفريقي".

"على السعودية تحمل مسؤولية إنسانية ودينية وأخلاقية تجاه اليمن، كونها طرف من أطراف الحرب التي اندلعت فيها وما تزال منذ ثماني سنوات. يتوجب عليها استقبال اليمنيين ليس كلاجئين ولا كنازحين ولكن كعاملين يعملون بعرق جبينهم"

وكانت السعودية قد اتخذت في تموز/ يوليو 2021 قراراً بخفض نسبة العمال اليمنيين إلى 25% من إجمالي اليمنيين الذي يعملون في البلاد، وهو ما يتماشى مع ما يُعرف برؤية 2030 التي أطلقها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لخفض معدل البطالة بين السعوديين إلى 11% بنهاية عام 2021، وإلى 7% في عام 2030، عبر برنامج وطني سُمي بـ"توطين الوظائف"، من خلال قَصر عدد كبير من المهن على السعوديين، مقابل رفع الرسوم التي على العامل الوافد أن يدفعها.

تتوالى قصص اليمنيين، وبعضها يبدو وكأنه مستنسخ من أخرى، بسبب تشابه التفاصيل، لكن ما حدث لشاكر عبد الحميد (25 عاماً)، وهو من محافظة إب، شيء مختلف.

يروي لرصيف22 قصة دخوله غير الشرعي إلى السعودية مرتين. في الأولى، قبل أربع سنوات، اجتاز جبالاً تُعرف في المملكة بجبال القهر، لأنها تقهر الإنسان كونها شاهقة الارتفاع وحادة ولا ينبت فيها شيء: "إذا زلّت قدم أحدهم هنا، سيسقط في الهاوية السحيقة ويموت حتماً".

غير أن الحظ حالفه، واجتاز كل المخاطر، ليصل إلى وجهته ويعمل لدى بدوي في منطقة جازان، راعياً للإبل والغنم، براتب شهري قدره 1500 ريال سعودي (400 دولار) فضلاً عن مأكله ومشربه. وبعد ثلاث سنوات من عمله، قرر العودة إلى اليمن، فذهب إلى الشرطة وسلّم نفسه، وبعد تحقيقات وحبس لعدة أيام، أعادوه إلى منفذ العبر وشق من هناك طريقه عائداً إلى منزله في إب.

في المرة الثانية، وكانت قبل أشهر قليلة، كان الخطر أكبر بكثير وفقاً لروايته. مشى سيراً على الأقدام ولعدة أيام مع خمسة آخرين في مجرى السيل الفاصل بين الأراضي اليمنية والسعودية، فإنْ حاولوا الخروج عن مسارهم يميناً سيطلق الحوثيون النار عليهم، وإنْ توجهوا يساراً ستطلق عليهم القوات السعودية نيران أسلحتها.

وهكذا، ظلوا يخوضون في المياه والوحل لساعات وأيام "حتى كادت أقدامنا أن تتعفن من الجراح الغائرة فيها بسبب التعرض الطويل للمياه".

"لقمة العيش". عبارة سيقولها لك أي يمني كسبب رئيسي لهجرته غير الشرعية إلى السعودية، وقد تتضخم الآمال وتتحول إلى تحدٍ مميت، كما حدث لقاسم محمد صالح (20 عاماً)، من منطقة وصاب العالي في محافظة ذمار وسط اليمن: أقسم أمام أفراد عائلته وقريته بأنه سيذهب إلى السعودية عبر التهريب ولن يعود منها إلا بسيارة من نوع "تويوتا لكزوس".

وبالفعل ذهب، لكنه لم يعد أبداً، فقد أصابه قناص سعودي برصاصة في رأسه وأرداه قتيلاً على الفور، وفقاً لما ذكره أصدقاء كانوا يرافقونه، أكدوا أنهم دفنوه في الصحراء السعودية.

يقول قريب له اسمه بسام النهاري لرصيف22 والدموع تترقرق في عينيه: "بمجرد بلوغ الخبر المشؤوم مسامع والديه وأشقائه، ضجت القرية بالنواح والبكاء لأيام عدة حزناً عليه".

مهاجرون شرعيون ولكن!

مثلما يتدفق عبر الحدود اليمنية نحو السعودية آلاف من المهاجرين اليمنيين غير الشرعيين، يتدفق أيضاً آلاف غيرهم، لكن بنحو شرعي وللهدف ذاته وهو العمل، بحسب الخبير الاقتصادي اليمني رشيد الحداد الذي أكد أن السوق السعودي هو أحد أهم أسواق العمالة بالنسبة إلى اليمنيين، إذ بوسعه "استيعاب مليونين ونصف المليون عامل يمني".

وأضاف الحداد لرصيف22 أن هنالك مليونيْ يمني يعملون في السعودية بطريقة نظامية، والإحصاءات الرسمية لتدفق التحويلات النقدية من الخارج إلى قطاع المصرف اليمني تُبين أن "70% من إجمالي هذه التحويلات مصدرها السعودية".

ويوضح أن التحويلات النقدية الخارجية أصبحت المصدر الأول للدخل الوطني من العملة الصعبة بمعدل من أربعة إلى خمس مليارات دولار سنوياً. ويزيد: "كان لهذه الأموال دور كبير جداً في تماسك المجتمع اليمني، خاصة وأن 30% من الأسر اليمنية تعتمد على المغتربين كمصدر دخل أساسي".

وتتراوح تكلفة الهجرة بإجراءات رسمية من اليمن إلى السعودية بما بين سبعة إلى 15 ألف ريال سعودي (1866 إلى 4000 دولار) للشخص الواحد، وفقاً لما يقوله الشاب حسين ناجي (18 عاماً) الذي بدأ إجراءات هجرته القانونية من صنعاء، بعد أن أشترى له شقيقه المغترب منذ سنوات في الرياض فيزا العمل.

وتبلغ تكلفة فيزا العمل الحر في السعودية أكثر من 12 ألف ريال سعودي (3200 دولار)، وتتيح لحاملها العمل في مهن عدة، بينما فيزا العمل المخصصة بمهنة محددة كالسباكة والطباخة والحلاقة وما شابه، فتبلغ كلفتها سبعة آلاف ريال (1866 دولاراً)، ولا يحق لحاملها العمل في مهنة أخرى والمخالف الذي يفتضح أمره يتعرض للطرد.

ويضيف حسين متحدثاً لرصيف22: "بعد أن وصلتني فيزا العمل الحر، اتجهت مباشرة من محافظة إب التي أعيش فيها صوب العاصمة صنعاء الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، وفي اليوم التالي أجريت الفحص الطبي في مستشفى آزال المعتمد الوحيد في اليمن من قبل السلطات السعودية، وكانت النتيجة إيجابية وصحتي جيدة وتسمح لي بالعمل".

بعد ذلك، تقدم الشاب بطلب للبحث الجنائي من أجل التأكد من أنه لم يقاتل مع الحوثيين، وسيرته تخلو من أية سابقة جنائية، ثم قدّم معاملة في وزارة شؤون المغتربين، وبعد أسبوع من كل تلك الإجراءات، سلم أوراقه مع جواز سفره ومبلغ 600 ريال سعودي (160 دولاراً) لمكتب سفريات في صنعاء، والأخير سيرسلها بدوره إلى السفارة السعودية، وحالما تختم السفارة السعودية هناك الجواز بالتأشيرة، سيغادر براً الى السعودية.

"قد يستغرق انتظار وصول الموافقة النهائية أسبوعاً واحداً وأحياناً شهراً أو ربما بضعة أشهر"، يقول حسين بحماسة كبيرة.

أما محمد دحان (22 عاماً)، فقد كلّفته الفيزا والمعاملة 17 ألف ريال سعودي (4500 دولار) لأن سفره كان خلال فترة تفشي فايروس كورونا قبل نحو سنتين. وبعد أن وصلته الفيزا التي اشتراها بمبلغ عشرة آلاف ريال سعودي (2666 دولاراً) بواسطة قريب له في المملكة، سافر على الفور من منطقة عميد في محافظة إب إلى مدينة تعز المجاورة والواقعة تحت سيطرة الحكومة الشرعية المعتمد جوازها في السعودية (جوازات حكومة صنعاء غير معتمدة في معظم دول العالم وخاصة السعودية).

حصل محمد على جواز سفر ثم توجه إلى صنعاء لاستكمال المعاملة، وبعد فترة ثلاثة أشهر وصله جوازه مؤشراً.

العرقلة الكبرى التي يقول لرصيف22 إنه واجهها تمثلت بالإجراءات التي حتمت عليه السفر جواً بسبب كورونا، وهو ما دفعه إلى الاقتراض مجدداً من أهله وأصدقائه كما فعل لشراء الفيزا وتنظيم المعاملة.

كلفته تذكرة الطيران 5500 ريال سعودي (1466 دولاراً)، في حين لم يكن ليكلفه السفر في الظروف العادية عبر الطريق البري أكثر من 1500 ريال سعودي (400 دولار)، ومنذ وصوله إلى الرياض ولغاية الآن يعيش الشاب في إحدى المزارع دون عمل.

قد يبدو دحان غير محظوظ لمَن لم يستمع إلى قصة عبد الحكيم (39 عاماً). اشترى ابن أخته المقيم في السعودية فيزا له خاصة بمهنة عامل بناء بمبلغ خمسة آلاف ريال سعودي (1333 دولاراً)، وكانت بالنسبة إليه صفقة رابحة قياساً بما كان يسمعه من أصدقاء له عن غلاء أسعار فيزا العمل للسعودية.

ولسداد ثمنها وتكاليف معاملة السفر، باع ما تبقى من ذهب والدته ورهن خنجره اليمني واقترض المتبقي، ثم سافر إلى عدن من أجل أخذ لقاح كوفيد وهو من ضمن إجراءات السماح له بالسفر، بعدها سافر إلى صنعاء من أجل الفحوصات الطبية.

وبعد عدة أسابيع من المضي في الإجراءات، أخذ ينتظر في منزله الريفي في منطقة الشهلي في محافظة إب وهو ينسج أحلام الثراء بعد عودته من الغربة، واستدان مراراً لشراء القات والإنفاق على منزله آملاً بتسديد ديونه من أول راتب يتقاضاه في عمله الذي ينتظره في السعودية.

لكن تلك الأحلام تبخرت تماماً عندما ورده اتصال هاتفي ابن اخته في السعودية أخبره فيه بأن الفيزا التي أشتراها له "مضروبة"، أي مزورة، وأن معاملته رُفضت.

يقول بمرارة: "سيظل الفقر يلاحقني، أعلم ذلك، وأنا لا أعرف الآن كيف سأسدد الديون المترتبة بذمتي، ليس أمامي الآن سوى طريق الهجرة عبر التهريب".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard