لطالما اعتادت النّساء في الكثير من المجتمعات المحافظة على إخفاء مشاعرهن أو وأد كلماتهن بسبب العديد من المعايير والقيود التي يفرضها المجتمع عليهنّ ويمنعهنّ من البوح أو التعبير خشية خروجهنّ من القالب المجتمعي المقدّس.
في ميدان الشعر وعلى مرّ التاريخ والعصور وتطور الأدب فقد تنوعت فنون الشّعر وكثرت أشكاله وأغراضه وأوزانه، فشهدنا المعلقات في العصر الجاهليّ، والنقائض في العصر الأمويّ، والموشحات في العصر الأندلسيّ.
وعلى الرّغم من وجود نساء شاعرات نافسنَ الرّجال الشّعراء في تلك العصور كأمثال الخنساء ورابعة العدويّة وليلى العامريّة وغيرهن كثر، إلّا أنّ المثير للاهتمام هو وجود نوع شعري يُسمى "اللانداي"، نادراً ما يُسمع به.
شعر سريّ
اللانداي فن شعريّ شعبيّ اقتصرت كتابته بدايةً على النّساء البشتونيات وباللّغة البشتونية في أفغانستان، حيث كانت النّساء يتداولنه سرّاً في ما بينهن، ويعبرن به عن بوحٍ جريء لمشاعرهن وهواجسهن وأفكارهن.
فن شعريّ شعبيّ اقتصرت كتابته بدايةً على النّساء البشتونيات وباللّغة البشتونية في أفغانستان، حيث كانت النّساء يتداولنه سرّاً في ما بينهن، ويعبرن به عن بوحٍ جريء لمشاعرهن وهواجسهن وأفكارهن... شعر "اللانداي"
ينتمي اللانداي إلى الشعر الغنائي، ويتعلق بالدّرجة الأولى بالذات وضمير المتكلم، فيصف شعوراً أو رغبة أو شكوى، ويصوّر مجتمعاً بسيطاً معيقاً للحريّة والبوح، ومكبلاً للرّغبة والصوت والحلم:
بِسرّيَ أذوي... في الخفاءِ أنوحُ
أنا امرأةُ البشتون كيف أبوحُ
جمع هذا النوع من الشعر الشاعر الأفغاني سيد بهاء الدين مجروح، والذي اُغتيل في أفغانستان في العام 1988. فقام الشاعر الفرنسي أندريه فيلتير بترجمة الأبيات إلى الفرنسية، ثمّ قرأها وترجمها إلى العربية جميل صلاح، لكنّها كانت ترجمة نثرية حرفية، وليس ترجمة شعرية جذابة وواضحة تحاكي العمق المراد، فقام في ما بعد الدكتور عبدالله أبو شميس بتعريبها شعراً إلى العربية أُطلق عليها عنوان "بوح المرأة الأفغانية"، وما نذكره في هذا المقال من أبيات فهي من ترجمته.
ما يميز هذا النوع من الشعر
ما يميز هذا النوع من الشعر أنّه مختصر وموجز في سطرين شعريين فقط، تؤكد فيه المرأة الأفغانية على حضورها الفعّال والقوي في الارتجال والمنافسة.
وكما عُرف عنه، يعني اللانداي حرفياً الشِّعرَ القصير، ويتكون الأول من تسعة مقاطع، والثاني من ثلاثة عشر مقطعاً، ولا يتبع قافية إلزامية محدّدة:
أحبُّ... أحبُّ
ولا أخفي غرامي وآهاتي
ولو نزعت سكينهم كلَّ شاماتي
غداً... غداً
سوف أعبُر في قريتي
سأرفع للشمسِ وجهي الحَسير
وأنشر للرّيحِ شعري المشاعْ
غداً سوف يشبع كلُّ الجياع
هذه الأبيات لا تحتوي على المقاطع الصّوتية المذكورة أعلاه لأنّها أبيات معرّبة تعريباً شعرياً، والحفاظ على عدد المقاطع الصّوتية في التعريب مستحيل كما هو مذكور في كتاب "اللانداي من شعر المرأة الأفغانية في الحب والحرب" لبهاء الدين مجروح، وقد ترجمه عبد الله أبو شميس وحنان الجابري.
لم يكن شعر اللانداي ثورةً فقط في وجه المجتمع الذكوري، أو بوحاً وجدت فيه المرأة الأفغانية أداةً وطريقةً واضحة للتعبير تجلّى فيها وجهُها الآخر، فبدا كأنه أداة انتصارٍ لمعاناة المرأة البشتونية في ظل كلِّ الظروف والتحدّيات الّتي واجهتها في مجتمعها ومنفاها
نقد المجتمع الذكوري
كما أنّه من الملاحظ أنّ الكثير من الأبيات، توجه نقداً لاذعاً للمجتمع الذكوريّ الذي لم يكن يرى في المرأة إلا أداةً للمتعة فقط، حيث أنّ وضع المرأة البشتونية طالما كان صعباً، فلمجتمع البشتون تركيبة قبلية ودينية خاصّة، ما يجعله يحتكم كليّاً وفق قيم ذكورية ترتكز على قانون الشرف. ولذلك عانت النساء البشتونيات في ظل هذه البيئة المتعصبة اجتماعياً من اضطهاد على عدّة أصعدة.
فعلى الصعيد الجسدي برز في تحميل المرأة مسؤولية البيت والحقل، سواء كان الزوج موجوداً أم غائباً بسبب القتال في أوقات الحروب. وعلى الصعيد المعنوي ظهر في النظرة الدونية لها بوصفها أنثى/امرأة، أي كائن من الدرجة الثانية ممّا يجعل دورها مقيّداً بحدود وأدوار المجتمع، وباختبائها خلف جدران القيم والعادات وعدم مشاركتها في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وعدم أخذ رأيها أو موافقتها على الزواج.
ولذلك نجد نوعين من الزواج برزا في المجتمع البشتوني، فالزوج إمّا أن يكون طفلاً، أو عجوزاً متسلطاً، يشعرها بالدّونية والتبعية، لذلك نجد أن اللانداي يمثل صرخة تعبر به المرأة البشتونية عن مدى الظلم المغدق بها:
قساةٌ... قساة
ترون العجوز يجرّ خطاي إلى المضجعِ
وتستفهمون عن السرّ في أدمعي
...
ألا تستحي يا شيخ من ثلج لحيتك
تداعب شعري وأنا في عمر ابنتك
قساةٌ... قساة
ترون العجوز يجرّ خطاي إلى المضجعِ
وتستفهمون عن السرّ في أدمعي
...
ألا تستحي يا شيخ من ثلج لحيتك
تداعب شعري وأنا في عمر ابنتك
...
ها أنت تبعث لي يا ربُّ ثانيةً
ليلاً كئيباً على أعتابه أقفُ
وها أنا وسرير النحسِ يرقبني
من أخمصيْ قدمي للرأس أرتجفُ
...
وهبتني زوجاً كطفلٍ... وها
قد صرتُ، يا ربُّ، له حاضنة!
وكلّما اشتد به عودُهُ
صرتُ عجوزاً هشّة واهنة
...
حلفتُ!
فلن يكون الشّيخُ يوماً
شريكي في الغرام
ولو قُتلتُ
يقضّي الليل في رسم الأماني
وإن طلع النهارُ يصيحُ: نلتُ!
...
توجد في هذا الفن ثلاث شخصيّات تدور حولها الأشعار: المرأة أو الزوجة الّتي ترتجل الشعر، الزوج الذي غالباً ما يكون كريهاً للمرأة، والذي يُطلق عليه عادة مصطلح الدّميم الذّميم،
العشيق أو المحبوب الواقعي أو الخيالي والذي دائماً ما تتحدث المرأة عن شوقها وتوقها إليه:
واحدٌ يتقطع شوقاً
إلى قطرةٍ من غديري
آخرٌ بجواري نعسانُ
يقذف بي من سريري
...
في الليل الشرفةُ معتمةٌ
وكثيراتٌ جدّاً سُررُ بنات الحيّ
لا تحزن يا روحي
وسواسُ حُليي سوف يدل عليّ
...
يا ديك أخّر صيحة الفجر
للتّوِ قد آوى إلى صدري
ادنُ شيئاً، ضاقت بيَ الأسباب
واحتضنّي فقد طواني العذابُ
أنا لبلابةٌ وحولي خريفٌ
ووشيكاً سيذبل اللبلابُ
...
حبيبي أسرعْ إليّ!
تزوّد من العشق واملَ الجرار
الّدميم الذّميم يحضّر طيناً
يسدّ به فجواتِ الجدار
...
"ها هو الديك يطلق لعنته ويصيح
فيغادرني عاشقي مثل طيرٍ جريح
...
"اغفُ إن شئت واشبعْ غداً من هباءٍ ملاما
أنا مرصودةٌ للذين يبيتون لي رُكعاً وقياما
غاية تعريب اللانداي
عن غاية تعريب اللانداي، يقول لنا عبد الله أبو شميس: "في الحقيقة لم يكن لي غاية في البداية من تعريب هذه المجموعة من اللانداي النّسويّ إلّا المتعة الفنّيّة، والرّغبة في تقديم هذا الفنّ الشعريّ للقارئ العربيّ بأسلوبٍ محبّب، ولكن بعد إتمام تعريب هذه المجموعة أظنّ أنّه من الممكن التّفكير في بعض الفوائد المحتملة، ومنها: تقديم أشعار تعبّر إلى حدٍّ ما عن المرأة العربيّة فالتمييز ضدّها ما زال واقعاً. والفرق بين معاناة المرأة الأفغانية الّتي تصفها الأشعار ومعاناة المرأة العربية هو فرق بالدّرجة فقط، وتنبيه الشّعراء العرب وخاصّة الشاعرات إلى نوع شعريّ قصير جديد يمتاز بأنّه شعر عاطفي يقوم على الانفعال لا التأمل، والتنبيه إلى أنواع شعريّة شعبيّة عربيّة مشابهة للانداي، وهي أشعار تحتاج أن يقوم باحثون مهتمّون بجمعها وتدوينها قبل أن يأتي عليها النّسيان، وأخيراً تقديم نوع شعري موجز يكون مناسباً لسيادة مواقع التّواصل الاجتماعيّ".
لم تعانِ المرأة البشتونية من أمور كالزواج بالإكراه، وقمع الحريّة والتعبير، والتضييق والتقييد، وتجنب ما يعتبر حبّاً ممنوعاً محرّماً، والتشيّؤ الذي أُلحق بها وفُرض عليها من قبل عائلتها ومجتمعها وحسب، بل تأتي الحرب مرخيةً بظلالها لتفرض عليها الهجرة القسّرية، وتضيف بذلك مأساةً جديدة إلى مآسيها. فالبشتون كانوا أكثر من تأثر بالهجرة بسبب موقع أراضيهم على الحدود، وهنا تحول اللانداي من لانداي الحبّ إلى لانداي المنفى، واتجه اتجاهاً مختلفاً، حيث حمل موضوعات جديدة كالدين والدعوة إلى الجهاد والحنين إلى الأرض والوطن والشوق إلى الحبيب البعيد المقاتل والمدافع عن الوطن:
يا نسيماً
هبّ من صوب الجبال
كيف خلّفتَ حبيبي والرجالْ؟!
...
المرأةُ في المنفى
لا تكفُّ عن الموت حيث تسير
فأدرْ وجهها نحو موطنها
علّها تتنشق منه الشهيق الأخير
...
تبرّجتُ
لكنّما في قديم ثيابي
كأنّي حديقة زهرٍ
بأرضٍ خرابِ!
محبوبي هندوسيّ
وأنا من دينِ محمّد
لكنّي من أجل الحبِّ
سأكنس درجات المعبد
...
كن مُريدَ أبي
فأبي هو شيخُ الدعاةِ
سوف يعطيكَ موعظةَ المذهبِ
وأنا سوف أعطيكَ درس الحياةِ
...
محبوبي هندوسيّ
وأنا من دينِ محمّد
لكنّي من أجل الحبِّ
سأكنس درجات المعبد
نجد من خلال الأبيات أنّ شعر اللانداي لم يكن فقط ثورةً في وجه المجتمع الذكوري، أو بوحاً وجدت فيه المرأة الأفغانية أداةً وطريقةً واضحة للتعبير تجلّى فيها وجهُها الآخر، أو لنقل وجهها الحقيقي، فبدا كأنه أداة انتصارٍ لمعاناة المرأة البشتونية في ظل كلِّ تلك الظروف والتحدّيات الّتي واجهتها في مجتمعها ومنفاها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين