هادئة، تؤسرنا فور الاقتراب منها، فنتمنى لو قضينا بقية العمر على شاطئها الذي حباه الله بطبيعة خاصة وجمال نادر. إنها مرسى مطروح التي تبعد عن القاهرة غرباً بـ446 كيلومتراً، مسافةً قطعتها السيارة في خمس ساعات، حتى وصلنا للساحرة البعيدة التي تنام على أطراف الحدود الغربية لمصر.
يا ساكني مطروح
أعترف انني وقعت في غرام تلك المدينة منذ أن وطأتها قدماي للمرة الأولى في عام 2010 لتتوالى الزيارات بعدها ولأكتشف في كل مرة قطعة جديدة ووجهاً آخر وموطنَ جمال مختلف. ولأن سكان مطروح الأصليين من البدو، فقررت أن أقترب من عالمهم تلك المرة، لأتعرف على أصل مطروح الذي يجهله الكثيرون.
يا مولاي كما خلقتني
ناصر التركي (26 عاماً) يعمل بوزارة الشباب والرياضة، أحد أبناء مدينة النجيلة، التي تبعد عن مطروح بمسافة 70 كيلومتر غرباً. ناصر بدوي ينتمي لقبيلة العميري التي تعدّ واحدة من أعرق قبائل البدو هناك.
هادئة، تؤسرنا فور الاقتراب منها، فنتمنى لو قضينا بقية العمر على شاطئها الذي حباه الله بطبيعة خاصة وجمال نادر... مرسى مطروح
قال لرصيف22: "بُعد المسافة بيننا وبين محافظات مصر كان له الفضل الكبير في الحفاظ على الطبيعة في مطروح بكراً كما خلقها الله. فشواطئها وصحاريها لم يمسسها بشر. ومثلها حياة المطروحي الأصلي، إذ ارتبط بالطبيعة ولا يستطيع البعد عنها مهما كانت المغريات".
الإفطار كبدة ضاني وكمونية
المطروحي البدوي كائن نهاري، يبدأ يومه مبكراً، وأغلب أنشطته نهارية، حتى أفراحه تبدأ وتنتهى قبل غروب الشمس. لذلك فوجبة الإفطار لديه وجبة أساسية؛ هكذا يقول لنا ناصر، ويضيف: "يتكون الفطور من أطباق الكبدة الضاني والعدس والفول والكمونية وهي قطع لحم الضأن بالصلصة مع البصل الأخضر. يزيد عليها الفلافل في الشتاء والبطيخ والعنب البراني في الصيف".
الأكل بشكل عام مميز جداً في مطروح، ومن الصعب أن نجد مثله بنفس النكهة والطعم في مكان آخر في مصر. فتشتهر مطروح بالعديد من الوجبات الخاصة، ألذها كما صرح ناصر لرصيف22 "الأرز الأحمر" أو كما نسميه "الرز الحمر"، ويطهى مع قطع لحم الضأن المطروحي المميز، والذي يعرف باللحم "البرقي" لأن الأغنام لدينا تأكل الأعشاب البرية الطبيعية، وهذا يمنح لحمها نكهة وطعماً مميزاً. كذلك نشتهر بالكبسة والمكرونة "المبكبكة" والمفروكة، ورز اللبن، والمكمورة، والعصيدة التي تُعدّ من أهم الوجبات الحلوة التي تقدم في المناسبات والأعياد.
الخبز في مطروح مميز ومتنوع، من أشهر أنواعه "خبز التنور"، والذي أكد عليّ ناصر أن آكله ساخناً كي أفوز بطعم لا يتكرر.
"يحضر التنور من الدقيق والماء والملح بدون أية خمائر، يتمّ عجنه، ثم نشعل النيران داخل حفرة عميقة"، يقول ناصر، ويواصل: "نضع على أركانها من الداخل قطعَ العجين بعد فردها بسمك معين، نقفل عليه غطاء الحفرة لمدة دقيقتين او ثلاث، ثم يصبح جاهزاً".
مطروح الروح
يسكن محافظة مطروح 528.3 ألف نسمة، وفقاً لأحدث تعداد صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. ليس جميعهم بدو أصليين، ولكن بينهم نسبة كبيرة من المغتربين الذين هجروا محافظاتهم سعياً وراء الرزق، فاستقروا بها وامتزجوا بأهلها وأصبحوا مطروحيين بالعشق قبل الإقامة، كما أكد المهندس جمال جعفر من مواليد مطروح ويقيم بمدينة الضبعة، لكنه مغترب ليس من أبنائها الأصليين، وعلى الرغم من ذلك قال عنها لرصيف22:
"(مطروح الروح)، من الصعب أن تزوري مطروح مرةً ولا تقعي في غرامها؛ فمطروح محافظة جاذبة للسكان، وأرض بكر لسوق العمل. أغلب سكانها بدو، خصوصاً في المدن والقرى البعيدة نسبياً عن عاصمتها مرسى مطروح. أشهر القبائل هنا وأكبرها تعداداً هما قبيلتا أولاد علي الأحمر وأولاد علي الأبيض".
بُعد المسافة بين مطروح وبين محافظات مصر كان له الفضل الكبير في الحفاظ على الطبيعة فيها كما خلقها الله. ومثلها حياة المطروحي الأصلي الذي ارتبط بالطبيعة ولا يستطيع البعد عنها مهما كانت المغريات
والبدو هم من خلقوا لمطروح طبيعةً خاصة جداً -والكلام لجمال- فالعادات البدوية لم يهزمها تطوّر؛ فمن عادات الزواج مثلاً ألا يرى الرجل عروسه إلا "ليلة الدخلة"، وهذه عادة لم تتغير حتى بعد زيادة نسبة المتعلمين من الجنسين في القبائل، كذلك الزواج في سن مبكرة والتعدّد في الزواج سمة أساسية في حياة المطروحيين.
الزواج
كيف يختار الشاب زوجته؟ سؤال وجهته لجمال، فأجاب: "نساء البيت يقمن بـ(زورة) أو زيارة لأهل بيت العروس المختارة، يتعرفون عليها ويعودون ليصفوها بالتفصيل للعريس. وإن حازت على إعجابه ونالت إعجاب أمّه فيقوم بدفع (حق الولية) أو ما يعرف بالمَهر، والذي يختلف حسب عائلة العروس، وهل هي بكر أم ثيب. يأخذه والد العروس ولا يصرف منه مليماً في الزيجة".
العروس تذهب لبيت العريس بحقيبة ملابسها فقط، فهو من يتكفل بكل شيء في بيت الزوجية حسب قدراته المادية. والبيت في مطروح يسمي "حوش" فإلى الآن يكره المطروحيون سكن العمارات، ويفضلون البيت المنفصل المحاط بمساحة واسعة تحفظ لأهل البيت خصوصيتهم.
صدرية وملف وشنة
لأهل مطروح زيهم الخاص، يحدثني جمال جعفر عنه فيقول: "التوب والسروال هما اللباس التقليدي لكل الشباب، كباراً وصغاراً في مطروح. ولكن للعريس زيّ مميز هو (الصدرية) أو (الفرملة)، يرتديها فوق التوب أو الجلابية، وتكون صناعة يدوية غالية الثمن. كما يرتدي العريس أيضاً (ملف) وهو بنطال صناعة يدوية ايضا يتميز بكونه واسع جدا يتم ربطه بشريط قماش يسمى "الدكة".
أما شيخ القبيلة فيرتدي "الشنة"، وهي طاقية حمراء تلبَس فوق الصدرية. وإن كان قد تجاوز السبعين فيرتدي "الجرد"، وهو زي أبيض يتمّ لفه حول الجسم، ويربط بطريقة معينة، ويضع أيضاً "الصمادة" أو الشال الذي يغطي الرأس.
أما النساء فيرتدين ثوباً أسود فضفاضاً ونقاباً يغطي العينين، فلا يظهر من أجسادهن شيء.
صحافية بدوية
كان من المدهش بعد ما عرفتُ من ناصر وجمال عن وضع المرأة البدوية أن ألتقي بغادة الدربالي البدوية ابنة قبيلة "الجميعات" التي لم تدرس في الجامعة، لكنها تعمل بالصحافة ولها نشاط سياسي أيضاً.
غادة الدربالي (39 عاماً)، درست السياحة والفندقة بجامعة الإسكندرية، وهي حالياً باحثة ماجستير في الدراسات السياحية بجامعة مطروح، وتعمل صحافية بجريدة الوفد المصرية. انتماء غادة لقبيلةٍ عريقة اشتهرت بحبّها للعلم والثقافة ومشاركتها في الحياة السياسية منذ عام 1915، كانت نتيجته الطبيعية حبّها للدراسة وإصرارها على استكمال دراستها الجامعية في الإسكندرية للفوز بفرصة تعليم أفضل مما هي متاحة في مطروح. واستطاعت غادة بإصرارها أن تنال حقها في التعليم والخروج للعمل، وهي رحلة لم تكن سهلة أبداً كما أكدت لرصيف22: "تحاول البنت البدوية الوصول لهدفها عبر طريق مليء بالصعاب والمحاذير والعيون التي تراقب طوال الوقت. وإن نجحت نالت الدعم من البعض، وإن أخفقت تبرأ منها الكل".
التسرب من التعليم والزواج العرفي
من الظواهر السلبية التي تحاربها غادة، تسربُ الفتيات من التعليم، والذي لا يأتي نتيجة للعادات البدوية فحسب، بل لقلة المدارس التي تؤمّن بيئة مناسبة لتعليمهن، وتوفيرها لن يقضي على التسرب من التعليم، كما تؤكد غادة، بل سوف يقضي كذلك على الزواج المبكر المنتشر في مطروح، والذي يتم بدون قسيمة رسمية لأن العروس قاصر، وهو أمر تحاربه الدولة حالياً حفاظاً على حقوق الزوجة والأبناء.
من عادات الزواج في مطروح ألا يرى الرجل عروسه إلا "ليلة الدخلة" وهذه عادة لم تتغير حتى بعد زيادة نسبة المتعلمين من الجنسين في القبائل
لا ترفض غادة كل عادات مجتمعها البدوي، بل تعتقد أن هناك العديدَ من الإيجابيات التي نصفت المرأة، من أهمها حق "الزهد"، وهو ما عرف في ما بعد بالخلع؛ فمن عادات البدو أنه إن لم تجد الزوجة رغبةً في زوجها تزهده، وتعلن ذلك لأهلها دون أن يعيبها شيء، حتى إن كان ليلة زفافها، فهذا حقها المشروع تناله بردِّ مهرها للزوج دون أن يعنفها المجتمع القبلي أو ينبذها.
كذلك الاحترام بين الزوجين عادة بدوية لا خلاف عليها، فمهما كانت المشكلات لا يتطاول أحد الزوجين على الآخر، بل يلجأ الزوج لأهل زوجته ويقدم شكواه لأبيها، فإن كانت مخطئة يحاسبها والدها، وإن كان الزوج هو المخطئ فعليه أن يصالحها بـ"النصفة"، وهي هديه ذهبية يقدمها لزوجته كاعتذار عما بدر منه.
في مطروح جامعة تضم 11 كلية متنوعة، وهو ما أتاح فرصة استكمال الدراسة أمام بنات مطروح دون الحاجة للاغتراب. لذلك تحارب غادة بكلّ ما أوتيَت من إصرار ظاهرةَ تسرب البنات من التعليم، وهو ما بدأت ثماره تظهر على المجتمع البدوي الذي أصبحت فيه الطبيبة والمحامية والمحاسبة والموظفة وهو أمر كان من النادر حدوثه منذ سنوات قليلة.
تؤكد غادة أن مطروح محافظة سياحية من المقام الأول، ولكن للأسف تم حصرها في السياحة الشاطئية فقط، بالرغم من أنها تمتلك أنواعاً أخرى كثيرة، منها سياحة السفاري، والآثار، والمحميات الطبيعية، والسياحة العلاجية، وسياحة المهرجانات كالإبل والخيول وصيد الطيور، والسياحة السوادء المرتبطة بمقابر العلمين التي يأتي لزيارتها كل عام المئاتُ من عائلات الجنود ضحايا الحرب العالمية الثانية وغيرها. فمطروح محافظة غنية بطقس مميز تستحق أن تكون في صدارة خريطة مصر السياحية طوال العام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 5 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت