"مهما حصل، ومهما تأخرت العدالة، فلن نفقد الأمل، لأن ذلك سيترك الباب مفتوحاً أمام نظام الأسد لتغيير سردية ما حصل وما اقترف، وللاستمرار في اضطهاد السوريين لعقود قادمة"، يقول نور مخيبر، أحد مصابي مجزرة الكيماوي في غوطتي دمشق الشرقية والغربية عام 2013.
مخيبر استيقظ يومها، كما العالم كله، على وقع المجزرة التي ارتكبتها قوات النظام السوري، مستخدمةً غاز السارين في حق سكان الغوطة الشرقية ومعضمية الشام في الغوطة الغربية، والمجزرة هي الأكبر من نوعها في تاريخ قمع الثورة السورية من قبل قوات النظام، إذ استعملت الأخيرة أسلحةً تحمل مواد كيميائيةً.
تلك الأسلحة المحرّمة دولياً، حوّلت نور، من ناشط إعلامي ذهب ليوثق ضحايا الكيماوي في مشفى مدينته إلى مصاب بالغازات السامة. يقول لرصيف22: "بعد 11 عاماً من بدء الثورة، و9 سنوات على ارتكاب النظام مجزرة الكيماوي في غوطتي دمشق الشرقية والغربية، تشكلت فكرة لدينا نحن السوريين، بعدم وجود رغبة لدى المجتمع الدولي في تحقيق العدالة في سوريا سواء لضحايا مجزرة الكيماوي أو لضحايا آلاف المجازر والجرائم الكثيرة التي ارتكبها النظام السوري".
يؤمن نور بأن "المجتمع الدولي حوّل جرائم النظام إلى مجرد ملفات لابتزازه أو لابتزاز الجهات الراعية له، مثل روسيا وإيران، لتحقيق مكاسب للدول المتحكمة بقراره، وإلى اليوم لم يأتِ الوقت المناسب ليضعوا تلك الملفات على الطاولة لتحقيق مكاسبهم في سوريا كون السوريين اليوم لا يملكون القدرة على تحقيق العدالة بأنفسهم، وهو ما أدى إلى اللجوء إلى المجتمع الدولي الذي لا رغبة لديه في تحقيق العدالة حالياً".
نور الذي أصيب مع أفراد من عائلته وقُتل أقاربه بالكيماوي، يتمنى تحقيق العدالة ولو بشكل جزئي، "فبعد 11 عاماً من المجازر في حقنا نحن السوريين، صار واضحاً للجميع غياب العدالة والمحاسبة عن الذين أجرموا في حق الشعب السوري سواء النظام أو أي جهات أخرى، ولكن حتى لو تأخرت العدالة فنحن مؤمنون بأنها ستتحقق يوماً ما".
شنّ النظام السوري ليلة الأربعاء 21 آب/ أغسطس 2013، قرابة 4 هجمات بأسلحة كيميائية على مناطق مأهولة بالسكان في الغوطة
وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، شنّ النظام السوري ليلة الأربعاء 21 آب/ أغسطس 2013، قرابة 4 هجمات بأسلحة كيميائية على مناطق مأهولة بالسكان في الغوطة الشرقية والغوطة الغربية (بلدة معضمية الشام)، في محافظة ريف دمشق، واستخدم فيها ما لا يقل عن 10 صواريخ محملة بغازات سامة، وتُقدَّر سعة الصاروخ الواحد بـ20 ليتراً، أي أنَّ المجموع الكلي 200 ليتر، وتمَّ إطلاق الصواريخ عبر منصات إطلاق مخصصة، بعد منتصف الليل، واستُخدمت فيها كميات كبيرة من غاز السارين.
وأكدت الشبكة أنه "بعد تحليل تفاصيل هجوم الغوطتين، تظهر نية مبيتة ومقصودة لإبادة أكبر عدد ممكن من الأهالي وذلك حين تباغتهم الغازات وهم نيام؛ الأمر الذي يُـخفِّض من فرص النجاة، كما أنَّ مؤشرات درجات الحرارة في تلك الليلة كانت تشير إلى انخفاضها بين الثانية والخامسة فجراً، ما يؤدي إلى سكون الهواء، وتالياً إلى عدم تطاير الغازات السَّامة الثقيلة، وبقائها قريبةً من الأرض، وهو ما تسبَّب في وقوع أكبر قدر ممكن من الضحايا بين قتلى ومصابين".
العدالة الغائبة
ثائر حجازي، من غوطة دمشق الشرقية، كان يعمل في المجال الحقوقي وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، وقد توجه بعد حدوث المجزرة إلى المكان لتوثيق ما حدث، ما أدى إلى إصابته بسبب استنشاقه الغازات السامة. ويبدي ثائر أسفه لربط موضوع تحقيق العدالة بالمصالح السياسية كون إحالة ملف سوريا المتعلق بجرائم الحرب إلى المحكمة الجنائية الدولية لاقت اعتراضاً من روسيا التي استخدمت حق النقض (الفيتو) أكثر من مرة ضد الإحالة هذه، بالإضافة إلى عدم إنشاء محكمة خاصة بسوريا وهذا ما خفّض من فرص ذوي الضحايا السوريين في الحصول على العدالة".
أيضاً كان هيثم البدوي، يعمل في النقطة الطبية في حي جوبر خلال فترة المجزرة، ما أدى إلى تعرضه لإصابة نتيجة استنشاق الغازات السامة، ويقول لرصيف22، إنه "مقتنع بأن النظام وشخوصه لن يحاسَبوا طالما أن المساءلة القانونية التي يخضعون لها لا تندرج تحت صفة المحاكم الدولية أو النظام الذي نتج بعد الحرب العالمية الثانية".
يضيف: "اليوم نجد أن المحاكم المسؤولة عن المحاكمات لا تمتلك الولاية القانونية على الرؤساء والأنظمة بسبب أحكام السيادة ومفهوم الدولة، وعلى الرغم من تغيير القوانين الأوروبية بهدف قبول هذه المحاكمات والقضايا على أراضيها إلا أنها قاصرة عن التنفيذ الإجرائي بسبب الأحكام عينها، إلا إذا تواجد المجرم على أراضيها، ومع ذلك نجد أن هذه المحاكم تقوم من الناحية النظرية بتجريم الشخص وإصدار الأحكام في حقه بالرغم من عدم قدرتها على تنفيذ الحكم".
لو تبنّت محكمة الجنايات الدولية الملف فحينها من الممكن جبر ضرر الضحايا وأهاليهم، لكن كوننا نرى أن الملف السوري كان وما زال في ميدان المقايضات السياسية فلن نحصل على أي عدالة
وبحسب البدوي، "لا عدالة في الأرض قادرة على إنصاف الضحايا وأهاليهم، لكن لو تبنّت محاكم لاهاي ومحكمة الجنايات الدولية الملف فحينها من الممكن ظهور مفهوم للعدالة بشكلها الذي يجبر ضرر الضحايا وأهاليهم ويعاقب المجرم، لكن كوننا نرى أن الملف السوري كان وما زال في ميدان المقايضات السياسية فلن نحصل على أي عدالة".
أداة الجريمة
وبدأت أولى المحاولات السورية لامتلاك السلاح الكيماوي في سبعينيات القرن الماضي، على يد عالم الفيزياء النووية عبد الله واثق شهيد، الذي ترأس مركز البحوث والدراسات العلمية "SSRC"، واستطاع المركز خلال فترة رئاسة شهيد له، تحقيق نجاحات في مجال تصنيع غاز السارين، لكن النجاح الأكبر كان في تطوير غاز الأعصاب "vx"، أحد أكثر المواد الكيميائية سميةً.
وبعد احتلال العراق عام 2003، بدأ يتصاعد الحديث الأمريكي-الإسرائيلي عن سلاحٍ كيماويٍ في سوريا يشكل خطراً على أمن المنطقة، وخلال شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 2012، استخدم النظام السلاح الكيماوي للمرة الأولى في حيَّي البياضة ودير بعلبة المحاصرين في مدينة حمص من قبل قوات النظام وقتها، بحسب منشقين عن إدارة الحرب الكيمائية لدى النظام السوري.
جهود لتحقيق العدالة
وفي محاولة لتحقيق العدالة، تقدمت ثلاث منظمات حقوقية سورية، بدعاوى ضد النظام السوري في دول أوروبية عدة لاستخدامه السلاح الكيماوي، بحسب داني البعاج، مدير السياسات والتواصل والمناصرة في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير.
ويضيف البعاج: "هناك دعاوى في كل من فرنسا والسويد وألمانيا وجميع الدعاوى المرفوعة تمت بالتعاون بين المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، و"الأرشيف السوري" و"OSF" و"CRD"، وتم تقديم معلومات وأدلة حول هجومين بالسلاح الكيماوي في كل من الغوطة 2013، وخان شيخون 2017".
تم تسليم آخر مجموعة أدلة ووثائق إلى المدّعين العامين بتاريخ 4 نيسان/ أبريل 2022، وتضمنت أدلةً بصريةً، وتقارير أصليةً تم نشرها بعد وقوع الهجمات مباشرةً
وتم تسليم آخر مجموعة أدلة ووثائق إلى المدّعين العامين بتاريخ 4 نيسان/ أبريل 2022، وتضمنت أدلةً بصريةً، وتقارير أصليةً تم نشرها بعد وقوع الهجمات مباشرةً، بالإضافة إلى معلومات عن سلسلة القيادة والأوامر للمؤسسات والوحدات العسكرية التي شاركت في تنفيذ تلك الضربات، وشهادات الشهود والضحايا وفرق الاستجابة الأولية، وتوثيقات قام بها فريق التوثيق الخاص بالمركز في أثناء تواجده في المنطقة، وخرائط توضح مواقع سقوط الصواريخ المحمّلة بالغازات، ومواقع النقاط الطبية، والمواقع التي تأثر المدنيون فيها بالغاز السام، بالإضافة إلى توثيق أسماء الضحايا والمصابين في الهجومين، بحسب ما يقول البعاج لرصيف22.
ويشير إلى "العمل على مسار التقاضي الإستراتيجي الذي يمثل بديلاً حالياً ومؤقتاً لغياب الآليات الدولية، وحتى تحقيق ذلك، أو إطلاق مسار عدالة انتقالية وطني في سوريا، فإن المركز بشكل أساسي، وجميع شركائه، لم ولن يدّخروا جهداً في سبيل وضع حد للإفلات من العقاب، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ومجرمي الحرب في سوريا، أياً كانوا".
ويُشدد على أن "دور الناجين وروابط الضحايا، دور أساسي لإبقاء القضية حيةً ومستمرةً؛ فهم بالمعنى العملي يشكلون البنية الأساسية للشكاوى القانونية التي تُقدّم في مختلف الدول، كما أن استمرارهم في المطالبة بحقوقهم يعزز جميع حملات المناصرة التي تضغط على الدول لمحاسبة مجرمي الحرب ومرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سوريا".
خطوة على الطريق
"بالرغم من طول الفترة التي مضت على المجزرة نسبياً، وحالة الإفلات من العقاب والتواطؤ الدولي الذي منع محاسبة النظام، أصرّ الناجون وعائلات الضحايا على المطالبة بمحاسبة الجناة وتعويض الضحايا، والتأكيد على حق السوريين في معرفة الحقيقة، للتعامل مع آثار مجزرة الكيماوي المستمرة، إذ بدأ العمل على تجاوز عوائق استمرار وجود المنتهكين في السلطة وعجز المجتمع الدولي عن إيقاف الجرائم وفاعليها، من خلال إشراك الناجين وذوي الضحايا في الاجتماعات السياسية أو التنسيق في شأن العدالة، وفي حملات المناصرة، ودعم مبادرات الناجين وعائلات وروابط الضحايا التي تثمر اليوم مثلاً بإطلاق رابطة ضحايا الأسلحة الكيماوية"، بحسب القائمين على الرابطة.
وقضى قرار مجلس الأمن 2118 لعام 2013، بانضمام النظام السوري إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية، وسحب ترسانته الكيميائية وتفكيكها، ومعاقبة النظام بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة في حال استخدم السلاح الكيميائي مجدداً. وجاء القرار كمبادرة روسية لدفع الرئيس الأمريكي آنذاك باراك أوباما، للتخلي عن توجيه ضربة عسكرية ضد النظام السوري رداً على مجزرة الكيماوي.
إلا أن النظام خالف تعهداته وقام باستخدام السلاح الكيميائي مجدداً مرات عدة بعد القرار، وارتكب العديد من المجازر، لا سيما مجزرة خان شيخون عام 2017، ومجزرة دوما عام 2018، وهو ما يؤكد أن النظام لا يزال يحتفظ بجزء كبير من المواد الكيماوية المحظورة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...