نقرأ في ورقة بحثية لإدموند هول، أن مصر عقب الحرب العالمية الثانية، كانت تحوي حوالي 100 ألف جندي نازي كأسرى حرب لصالح الإنكليز، وبعد انتصار الحلفاء، وجد الجنود النازيون أنفسهم دون عمل، وأسرى في الصحراء التي هدد حرّها حياة الكثيرين منهم. حينها لم يكن لهم قائد، ووجدوا أنفسهم ضمن صراع سياسي، إذ تأخّر ترحيلهم إلى بلادهم، وحياتهم في خطر خارج مخيمات الاعتقال، إذ كانت هناك مخاوف من قتلهم.
ذات المعضلة وقع فيها الجنود الإنكليز، الذين وجدوا أنفسهم منتصرين، لكن في ذات المكان مع من هزموهم، ما دفعهم إلى الإضراب عن العمل.
عمل الأسرى النازيون لصالح الجيش البريطاني بعد انتهاء الحرب في مهن متعددة، كإصلاح السيارات والموتورات والبناء حول قناة السويس، وساهموا في نقل الذخيرة وتفجيرها، وشكّلوا حينها قوة عمل لا يمكن تجاهلها، فهم لم يُضربوا كالجنود الإنكليز، والأهم، لم تكن أجورهم عالية، يتقاضون ما يكفيهم ثمن سجائر ومشروبات فقط.
حينها كانت مصر تحوي 13 عشر مخيماً لأسرى الحرب، يديرها السجناء برئاسة جنود إنكليز كانوا الأعلى رتبة، خصوصاً أن الأسرى أنفسهم رفضوا أن يكون قادتهم من الأسرى، الذين تنوعت جنسياتهم، لكن ثلثهم كان من "الفيلق الأفريقي" الذي وقف إلى جانب القوات الفاشية الإيطالية، والباقي كان من جنسيات متنوعة من أوروبا.
العديد من الضباط النازيين استقروا في مصر وشاركوا في الحياة العسكرية، ويُشار إلى أن 6000 شخص من أسرى الحرب النازيين تم توظيفهم في الجيش المصري حينها، وبعضهم عمل تحت إشراف جمال عبد الناصر، للاستفادة من خبراتهم في الحرب ضد إسرائيل
لا نحاول هنا الحديث عن الأسرى أو استجداء التعاطف معهم، لكن نحاول اكتشاف وقت الفراغ وكيفية ملئه، إذ يذكر ونشاهد في الصور التي تعود لتلك الفترة، وجود ملاعب كرة قدم ومساحات للركض والحفلات والموسيقا، وأيضاً جلسات للتبادل اللغوي وإقامة القداديس.
لا يعني ما سبق أن سجناء الحرب كانوا ضمن شروط ممتازة، إذ كشفت وثائق أن عدداً من سجناء الفيلق الأفريقي في مخيم رقم 306، حاولوا الهروب بين عامي 1943-1944، لكنهم فشلوا، كما أن الكثيرين أيضاً، وبسبب غياب الحراسة المشددة، كانوا يخرجون من المخيمات ويدخلون للترويح عن أنفسهم، وبعضهم كان يتعامل مع المصريين ويختبئ لديهم مقابل أن يعمل في الشؤون الميكانيكية، لكن كان هناك خوف دائم من القتل، لا ينفي هذا التساهل.
كما تشير الدراسات لاحقاً، إلى أن العديد من الضباط النازيين استقروا في مصر وشاركوا في الحياة العسكرية، ويُشار هنا أن 6000 شخص من أسرى الحرب النازيين تم توظيفهم في الجيش المصري حينها، بل أن بعضهم عمل تحت إشراف جمال عبد الناصر، للاستفادة من خبراتهم في الحرب ضد إسرائيل.
صورتان من المخيم 307
ما يهمنا من كل ما سبق هو المخيم 307 في "الفنارة" المطلة على البحيرة المرّة، جنوب الإسماعيلية، والذي كباقي المخيمات، كانت تقام فيه مسرحيات وعروض أداء غنائية، لكن التدقيق في هذه الصور يكشف لنا عن ظاهرة الـ Cross dressing، جنود يرتدون ثياب نساء من أجل التأدية في المسرحيات والعروض.
الظاهرة السابقة يبحث فيها الألماني مارتن دامان، في كتاب صادر عام 2018 بعنوان "دراسات الجنود: ارتداء ثياب النساء لدى القوات العسكرية النازية"، ويشير دامان أنه وقع على أرشيفات تحوي صوراً شخصية التقطها هواة، تحوي وراءها سحراً سببه أن المصور الهاوي لا يسعى للإتقان بل يعتمد العفوية، ما يجعل نوعية الصورة، بل وتشويشها، جزءاً من هذا السحر.
في مخيم 307 في "الفنارة" المطلة على البحيرة المرّة، جنوب الإسماعيلية، والذي كباقي المخيمات، كانت تقام فيه مسرحيات وعروض أداء غنائية، لكن التدقيق في هذه الصور يكشف لنا عن ظاهرة الـ Cross dressing، جنود يرتدون ثياب نساء من أجل التأدية في المسرحيات والعروض
بسبب غياب أي أبحاث عن هذا الموضوع، وغياب أرشيف دقيق لهذه الصور، حل دامان مشكلة التصنيف أثناء تنقيبه الفضولي عبر وضع الصور المتشابهة بجانب بعضها البعض، ويقصد الصور التي تحوي رجالاً بزي نساء أو يتنكرون كنساء، الفضول الشخصي قاد دامان لإنجاز كتابه سابق الذكر، الذي يحوي صوراً لأشخاص مجهولين لا نعرف عنهم شيئاً، لكن نرى فيه رجالاً، ورجالاً بأزياء نساء، يرقصون ويضحكون ويؤدون، بعضهم في وضعيات مثيرة أو ساخرة، والبعض الآخر يتصرف بعفوية، ضمن حفل في الهواء الطلق دون أن يثير أي انتباه، لكن ما قام به دامان أنه قسّم المجموعات التي توصل لها إلى الفئات التاليّ: صور أثناء التمرين في الثكنات، صور الاحتفالات، صور من الجبهة، والمجموعة الأخيرة، صور من مخيمات أسرى الحرب.
ضمن المجموعة الأخيرة، صورتان، بصورة أدق، صورتان فقط من المجموعة تحويان وصفاً وهو التالي: "من الفترة التي قضيتها كأسير حرب في مخيم 307/ فنادة/ مصر"، يشير دامان إلى أنه لم يصحح الأخطاء الإملائية، والمخيم المشار إليه هو "الفنارة" أو ربما "الفنار"، والصورتان تعودان لذات الشخص الذي يظهر مرة متنكراً إلى جانب اثنين بثياب تقليدية لفلاحات ألمانيّات، في استعداد لاستعراض من نوع ما، وفي الثانية يظهر و هو يقدّم الخبز لأحدهم وهو يرتدي فستاناً، لا نعلم متى كتب وصف الصور، لكن الواضح أنها تذكارية، وانتقلت إلى أوروبا لاحقاً، أي أن صاحبهما عاد إلى بلاده، ولم يمت في الأسر.
يبدو في الصورة الأولى أن "فرانتز" (لنفترض أن هذا اسمه)، كان يضع زينة كاملة، فالكحل في عينيه والمكياج على وجنتيه وشفتيه، ويقف مع من معه ووراءه لوحات لمناظر طبيعية، ولا نعلم إن كان في مسرح أو استديو تصوير، لكن الأرض التي ربما هي خشبية تؤكد فرضية المسرح. المُلاحظ أيضاً أن هناك "اهتزازاً" في الصورة، أي من التقطها لم يكن مصوّراً محترفاً، كما أنه يقف أسفل الثلاثة، وكأنهم على الخشبة وهو في مكان أدنى، يتموضعون أمامه. لا ندري إن كانت مسرحية أم صورة للذكرى ضمن استديو مرتجل، ولا نعلم طبيعة الأدوار التي يتم لعبها، لكن الواضح من الثياب أنها تشبه الزي الألماني التقليدي.
في الصورة الثانية يظهر ذات الشخص، ولا نستطيع أن نجزم بدقة أي واحد من الثلاثة هو، لكنه وحده هذه المرّة يؤدي دور امرأة تقدم الخبز لأحدهم بثياب رجل، ولا نعرف أيضاً إن كان يمانع ما يقوم به "فرانتز" أو يدخل في اللعبة أو يستغرب ما يحصل، المثير للاهتمام هو لوحة عرضانية على الجدار، يبدو أنها كيتش لامرأة عارية بدون وجه في غابة ما، لا يمكن بدقة تحديد اللوحة والهدف منها، أي هل هي جزء من ديكور غرفة أو خشبة مسرح؟
ظاهرة الـ Cross dressing يبحث فيها مارتن دامان، في كتاب "دراسات الجنود: ارتداء ثياب النساء لدى القوات العسكرية النازية"، وهو الذي وقع على أرشيفات تحوي صوراً نرى فيها رجالاً بأزياء نساء، يرقصون ويضحكون ويؤدون، بعضهم في وضعيات مثيرة أو ساخرة، والبعض الآخر يتصرف بعفوية
"الآن-هنا" و "الآن-هناك"
لا يمكن إطلاق حكم أيديولوجي على هؤلاء "الرجال" أو التحقق من إيمانهم بالمعتقدات النازية، فما هو يومي وضمن الأسر وفي وقت الفراغ ليس انعكاساً تاماً للأيديولوجيا أو تطبيقاً لها، إذ يشير دامان أن هذا النوع من الاستعراضات كان رسمياً، والهدف منه التخفيف عن الجنود من الموت القريب وشحن همة القتال لديهم، أي أن هذا كان هدف التسلية، فالعروض كانت تقام للجنود من أجل تذكيرهم بوطنهم، و كانت تمولها وزارة الدعاية ومنظمة "القوة عبر المتعة"، أما ما نراه في الصورتين فهو نوع آخر ينظمه جنود هواة، مهاراتهم مختلفة، ولا يوجد دراسات حولها، بل فقط كلمات الشهود وبعض ما نقلوه في مذكراتهم.
يشير دامان أيضاً أنه لا يوجد أدلة على المثلية الجنسية أو مثلية هؤلاء الجنود، لأن الإدانة بها في ذاك الوقت كانت تعني السجن والنقل إلى مخيمات الاعتقال فوراً
يشير دامان أيضاً أنه لا يوجد أدلة على المثلية الجنسية أو مثلية هؤلاء الجنود، لأن الإدانة بها في ذاك الوقت كانت تعني السجن والنقل إلى مخيمات الاعتقال فوراً وبالنصّ القانوني. هذا الأمر كان قبل الهزيمة، لكن في كل الصور، قبل وبعد الهزيمة، ما نراه من احتفالات وعروض لم يكن يحدث في الخفاء، فالجنود يتموضعون للصور، وواعون بأن هناك من يصورهم، بل نشاهد في صور أخرى الجمهور والضباط وهم يتراقصون ويتبادلون الأحضان، ويبتسمون للكاميرا. الأهم لم نجد ملامح للعنصرية في الصور، أي نحن لا نرى بيضاً يضعون وجوهاً سوداء، بل جنوداً "بيضاً"، يعدّون حكاياتهم الشعبية ربما ويحتفلون بالأعياد الرسمية.
لا يمكن نفي الرغبة بالحكاية هنا، وأنا أتصفح الكتاب وأقوم ببحث صغير في أرشيفات رقمية متوافرة، تتحرك الحكاية في ماء أحلامي، قصص متخيّلة عن جندي نازيّ انتهى به الأمر أسيراً في مصر، فرض عليه الجيش وتمكن من التواسط لإنجاز خدمته في المسرح العسكري، وحين نقل إلى مصر بقيت علاقته مع الاستعراض قائمة حتى بعد الأسر، أتخيّل أسئلة جندرية ما زالت بلا إجابة في عقله، بالرغم من القتل والحرب والتهجير والعمى الأيديولوجي، ما زال مصراً على الظهور على الخشبة.
أو ربما العكس كلياً، الأمر مجرد لعب وتقطيع لوقت الفراغ عوضاً عن العمل الشاق في حرّ الصحراء، خصوصاً أن تحديقتنا في الصور الآن هي ما تفرض علينا قراءة جندرية- أدائية، ومحاولة رصد نسق ما، بالضبط كما فعل دامان، وضع الصور بجانب بعضها البعض لإنتاج حكايات وخطاب تحركه المصادفة والمخيلة ونصوص "الآن/ هنا"، لا شروط "هناك".
الصورتان الموجودتان جمعهما Martin Dammann من أرشيفات الحرب و ظهرتا في كتاب "solder studies- cross dressing in der Wehrmacht"، كل الحقوق محفوظة للمؤلف ودار النشر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...