"ذلك الخطاط كتب ثلاثة خطوط؛ واحد قرأه هو وليس الغير، واحد قرأه هو والغير، واحد لا هو قرأه ولا الغير. أنا ذلك الخط الثالث". (شمس الدين التبريزي) — صفحة تحررها مريم حيدري
مائدة الإفطار لم تكن نصيرة الصباح الصيفي، ولا تشبه أيّاً من أحلامي بـ"البرانش الإنكليزي" المتنوع. مدتْ إليّ مرة أخرى أنبوباً من عجين القمح بعد أن وضعتْ كلَّ طاقتها في مرافعة عن الألياف. "الكيتو دايت" كان أكبر مكروهات سلوكي، بل ودليلَ إفلاس عقلي، وجهلي بما ينفع. كفري بالخبز مهدِّد ووجب له نذير: ستُعقد أمعاؤك يا ابنتي!
محتفظة بكامل الضغط الذي شَحنتْ به التجمع العشوائي للعائلة واحتباساً كاملاً لـ"كركبةٍ" من برامج عطلة. انتقلتْ تُحدث حفيد الخالة عن الخالة الكبرى " الزوهرة" التي لم تكن محظوظة لا في الأولاد ولا في الزواج، فيما كنتُ أنا أقدم نفسي للعنبة قبل الأخيرة في عنقود ابن خالتي البكر. استمرتْ تَستدق عقر الخالة وزوجها الأخرس الذي كان يروض لسانه ليشاركَها المعارك اللسانية المقفاة إلى مالانهاية. تتوقفُ لتعداد إرثهما المعقد لأن عقمهما صنع حلقة واسعة من الورثة تصل إلى بنوة عمومية بأصولها وفروعها. تذكرتُ ماما و خالتي، كم بكَتا في عقر بيتها الأنقى في كل "الدُّوّار".
عدا ثمن بيع الأرض الذي يختلف في كل رواية، كانت التفاصيل الأخرى ثابتة مثل قوس الباب العالي كفايةً لتدخل الجدة واقفة فوق حصانها. الحديث يقف هنا. تنظران لبعضهما باتحادِ طباختيْ أعراس بعد ملعقةِ مَرق. يبسط ذهني حقل شاسع وقاحل حول الباب ثم يرسم كل وضعيات السقوط الممكنة بغبارها المتعالية ومراوغات الحوافر والعظام المخلوعة.
أين الأب؟
مِن عادتها هذا المعراجُ السردي الذي ينتهي لقصة الأب المقتضبة. ككل الآباء يموت بسرعة في مهمة. طحنتْ ساعده نفس الماكينة التي كانت تكسر الصخر الذي يُستخدم لطمر الموج وتحويل الساحل إلى مرسى آمن. اقتصر رصيده من الذكريات على رواية وحيدة نقلتها الكبرى من بناته: اقتحم مدرسة الفرنسيين من جهة السور تلبيةً لنداء استنجاد ابنته من هستيرية المعلمة الفرنسية بسبب طبعة حبر على الورق. لا يمكن أن تكون النهاية نقطة. مسلكٌ آخر للأحداث كان ممكناً لو لم يعترضه شك"موسيو بودان".
المعجزة الحقيقية التي ننتظرها اليوم هي"مريم" شُجاعةٌ كفايةً لتتنازل عن البطولة لصالح عشيرة متفهمة تغْنيها عن ظل النخلة وتَقبلُ نزعتها الشعورية دون المطالبة بالمعجزة للغفران
تلك الليلة، الزوجان النصراييان كانا في حفلة. "سالم" لم يستيقظ قبل صرخة "فايزة" التي صرخت من صرخة "هيلين" التي تناقلتْ صداها الفراغات و منه استنتجت أن البيت سُرق أثاثه. حُبس "سالم" و طُلبت "فايزة" للشهادة . "اعترفي يا امرأة... أقول لكم... لا وقت لدي. أحضروا سكيناً سنسلخ من جلدها. عرتْ على كتفها و قالت: اقطعوا... زوجي بريء".
مُؤَكَدٌ كانت حركتها مقنعة للشرطي، الذي كان يزداد اقتناعه مع كل إعادة تمثيل مشهد التشمر. قبضت فايزة على الفاعل بدل الشرطة، سلمته و استلمت زوجها ثم طلبت تعويض ماء الوجه. كل ما يملكان. اقترح النصراني عملاً أقل مسؤولية بالأشغال التحت الأرضية للمدينة على ماكينةِ تكسيرٍ لَم تُفرق بين الحجر وذراع الأب وقلبه وذكراه.
تنظر إلي بحذر و تحد. هكذا تُقابل رفضي للانحدار والتحفيظ . لن أعقد أي مهادنة. لقد استقطرنا معاً كل حيل البقاء القليلة. تتأمل ارتطام الحكمة بالشك. لا بد أن هناك مشاعر أخرى لم نختبرها غير الخوف و الشفقة. يجب أن نتخلص من العطف على الأفكار الضعيفة مثل الحب و السعادة والحكمة والبقاء والسمو والفضيلة، إلخ.
هذه المفاهيم تعيش مآسيها تحت تصفيق حارّ لِمن يُمثلها على مسرح الحقيقة بمهارة تستطيل بها الأعمار ودون أن ننتبه إلى أنها تطلب أن تُرحَم بالقتل. تحقيق الموت الجيد مسؤولية و دليلُ رحمة. كثيرة هي الأفكار التي لا تحب أن تعيش بحفاظات للبالغين ولا أن توصي بثروتها لكلب.
خطورة المياه النائمة
تعرف أنني لست عهدة نجيبة لهذا التاريخ. وأنني متصالحة مع عدم استقرار أفكاري ولعدم صفائها. تستعمرني صورة بحيرة "لادوغا" الهائلة المجمدة بالكامل. يسطع سطحٌ شفاف تظهر منه بالمئات رؤوسُ أحصنةٍ هَلعةٍ فيما جُمدت أجسادها على حركة عَدْوٍ قوي غدره الجليد.
"أن تكتب هو أن تَبْحث في ضَجَّةِ الأجساد المحترقة، عن عَظْمِ الذراع، المناسبِ لعَظْمِ الساق. مزيجٌ بائسٌ. أما عني، فأنا أُرَمِّمُ"
قصة الحادث الذي يروي حقائقه الكاتب الإيطالي كورزيو مالابارتيه هي أن قطيع أحصنة برية هرب من غابةٍ إثر حريق سببته الغاراتُ الجوية النازية على ليلنغراد الروسية شتاء 1942، ليقفز في البحيرة النائمة منذ شهور والصافيةِ تماماً. وبفعل التقاء درجتها المتدنية مع حرارة الأجسام و الشوائب الطبيعية على حوافرها، حَدثَ تبلورٌ مباغت للماء ليهلك القطيع متصلباً وسط أصوات تشبه كسر الزجاج.ُ
مؤَثرةٌ حكاية هذا المنتصف المفتوح على نهاتي التبخر أو التجمد; الأخطر دائما هي المياه الراكدة الصافية. ليس لي من أجل الحقيقة غيرُ هذه البلاغة وأدواتها المحدودة الأقرب لتشبيه "أليخاندرا بيثارنيك": "أن تكتبَ هو أن تَبْحثَ في ضَجَّةِ الأجساد المحترقة، عن عَظْمِ الذراع، المناسبِ لعَظْمِ الساق. مزيجٌ بائسٌ. أما عني، فأنا أُرَمِّمُ".
البحث عن أم بديلة؟
أسواق الخضر وأمام أبواب إن ما يجعل الأمومة تطرق الفكر هي مشاهد عيون الأمهات الزائغة. عيونهن في المدارس وفي المصانع وعتبات المحاكم والحافلات المكتظة والمستشفيات والمطارات ومحلات بيع الفطائر. لعل أبلغ تلخيص لمشهدها هو عيون الأم المهاجرة في الصورة التي أخذتها "دوروثي لانج" الأمريكية من معسكرِ قاطفي البازلاء بمقاطعة " نيبومو" بولاية "كاليفورنيا" خلال الكساد العظيم لسنة 1936. مستقطع زمني لنظرة أمٍّ مزارعة وولدان غرسا وجهيهما في عنقها لتجنب التحديق.
كما الفوتوغرافيا؛ يستدعي التفكير توقيفاً للتحليل. تعرض الصورة علاقة الأمومة القلقة و المعقدة. إنها أفيونية التركيب .العواطف فيها لا تخضع لغير مختبرها الخاص دون حاجة لقوارير مسطرة. لعابُ فمها جامعٌ للأحماض التي تُفاعِل كل المواد . تبدي استعداداً لسرط الكون بِهَسٍّ طويل على طريقة " البوا الإفريقية العاصرة". تُعلّم قياس المسافة التي تربط غريزة الترتيب المتناسق و "الكاو" العارم . فلسفتها في تهويدةٍ منومةٍ تستيقظ لها الجنيات لِرَكْزٍ بدائي.
عندما استيقظ نيتشه يبكي الإله الذي انسحب دون وداع قبل الفجر، يبكي أُمّاً غائبة وبيتاً لم تعد فيه إلا أخت مشبوهة وأعداء
تَجلب من جبال اليمن صخور "شب الفؤاد" لفقئِ كل العيون على مجامر الطين وتفرك حبات الحرمل الحار لترتخي مفاصل الغولات. الأمومة فوز بامتيازِ آخرِ نظرةٍ في رحاب الجنة قبل إقفال نوافذها. هي حركة لَحس الدم باللسان في عدم اكتراثٍ مخيفٍ ودق عظام ديك الفجر لتشربه بِلاَلاً للإستقواء.تُطهر الزرقة من الأقدار و تقبل أن تكون سيناريستاً مأجوراً لصياغة ثانية لقصة الله. عيون الأم سماء ضئيلة تحت جفون مسدلة على الكون.
ترجمة الحب في الأمومة تشبه نطاق ضوء الشمعة التي تسبق إلى ركن الحمّام المظلم مع زغرودة وحيدة يجرها سيل الماء الذي يجر جلود النساء نحو قراره. السيل نفسه الذي يَجُر بِرِجْلِ الصغيرة الحافية مُستغلاًّ ثقل سطل الماء الضخم الذي تدفعه إلى الغرفة الجهنمية نحو جدة لم تعد تقوى على تمشيط شعرها القليل.
خُضرةٌ يابسة
عندما استيقظ نيتشه يبكي الإله الذي انسحب دون وداع قبل الفجر، يبكي أُمّاً غائبة و بيتاً لم تعد فيه إلا أخت مشبوهة و أعداء. لم يكن بإمكانه إلا التفلسف بمقاسِ مشاعرٍ اضطربت بالأنوثة. مثل مماليك النحل التي تموت ملكاتها لتتضخم بويضات للشغالات ليقمن بدور الإنجاب. يسميها المربون الأمهات\ الملكات الكاذبة لأنها تُزوِّر الأمومة لوقت محدود لا تلد فيه إلا ذكوراً تنتهي بهِم الحياة.
تشابيهُ الطبيعة مفيدة لأسباب بيداغوجية محضة. هنا تقريبٌ لفكرةٍ بِعينها" الفلسفة لم تهتم بالأمومة السليمة ما يكفي لتحرر نفسها منها كما فعلت مع الربوبية". و "نيتشه" دليل على تجاوز حل هذه المسألة المحورية التي تسببت في موانع كثيرة منها: وأد أفكار النساء والتملص من مسؤولية رعايتها و الدفاع عنها. أفكار النساء مكلفة للمجتمعات ولا يدعمها الفكر الذكر و يتملص من أبوتها و أغلب مجتمعاتنا لا تتوفر على ثمنها. من كل ما طرحه الماضي من أمثلة ، اختارت المجتمَعاتُ سيادةً رمزيةً للمرأة بشروط . تأَمَّم المنطق الديني "مريم" كَمُكافَئةٍ إنسية لامرأةٍ أتت بأبٍ لم يقربها و أعطت الكلمة لرضيع ذكر.
كانت حياة عيسى ستكون أكرم وأطيب لو لم يحتج لِنَسبٍ رباني ليجد لنفسه مكاناً
تنكرت" مريم" لمتعتها و نشرت ألمها لِمجتَمعٍ مسكون بمثال الاستقامة و ذنب الرغبة .مجتمع لم يجد مكانا بين التقديس أو الازدراء. مجتمع لا يفهم إلا حل الشطر و الفصل ليسهل التسيير. مجتمع حبيسٌ لثنائياتٍ لا تقبل غير التضاد. المعجزة الحقيقية التي ننتظرها اليوم هي"مريم" شُجاعةٌ كفايةً لتتنازل عن البطولة لصالح عشيرة متفهمة تغْنيها عن ظل النخلة وتَقبلُ نزعتها الشعورية دون المطالبة بالمعجزة للغفران. كانت حياة عيسى ستكون أكرم وأطيب ولم يكن ليحتاجَ لِنَسبٍ رباني ليجد لنفسه مكاناً.
حقيقٌ بالمعاصر أن يغامر بأرواحه السبع ليقترح بديلاً خارج إلهٍ يتفرد بالخلق وأم عذراء وولد مصطفى لا يموت. يتطلب الأمر أن نتفق على تحديد للوقت الذي نحتاجه. بين الوقت الصاروخي الذي تتطلبه عشرون طعنة لرقبة كاتب والوقت اللازم لكتابة جملة جديدة. وهذا معنى آخر لكلمة تأخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...