ليس مسلسل "فاتن أمل حربي" أول مسلسل يطرح معاناة النساء مع المحاكم وقوانين الأحوال الشخصية، تعدد الزوجات وتعدد فتاوى الشيوخ الذين يحق لهم الإفتاء لدرجة التناقض، لكنه مسلسل رائد في تعرية واقع بائس تعيشه المرأة، خاصة المُطلقة، وأظن أن الكاتب إبراهيم عيسى تقصّد أن يكون اسم البطلة "أمل – حربي"، فالمرأة تتمتع بالأمل بتغيير قوانين وفتاوى ظالمة، و"حربي" تحارب من أجل حقوقها وحقوق أولادها، وكلمات أغنية المسلسل تكرر عبارة "أنا مش ضعيفة".
أسئلة جريئة
روعة هذا المسلسل أنه يطرح أسئلة جريئة ومباشرة، دون مواربة وغموض بحيث يكون الكلام حمال أوجه، مثلاً في مشهد من المسلسل، تدخل أمل حربي (نيلي كريم) وتكون بحالة انفعال، تدخل مجلس الشيوخ والإفتاء وتقف منتصبة أمام أحد الشيوخ وتسأله بجرأة: "هوة ربنا قال كدة وإلا أنتو"، أي هل رب العالمين في القرآن قال ما تقولونه نيابة عنه وبالتفسير الخاطئ الذي يُرضي الرجل ويكون لصالح الرجال دوماً؟
بعض الشيوخ غضبوا منها، لكن شيخاً متنوراً شاباً، هو الشيخ يحيى، ارتبك وبحث مطولاً في القرآن، ليكتشف أن أمل حربي على حق، فالقرآن الكريم لا يقول ما يقولونه، وتلك الفتاوى لا أساس دينياً صحيحاً لها، بل مُحرفة حسب رغبة الشيوخ الذين هم رجال ويدافعون عن الرجل.
في مشهد آخر، نجد زوج أمل حربي يذلها ويضربها ويحشرها في زاوية حتى تكاد تختنق ويصرخ بها: "قولي الرجال قوامون على النساء وإلا مش قوامون"، ويردد هذه الجملة مراراً، لكن أمل حربي تقول له: "هذه بلطجة".
هنا يُطرح موضوع القوامة بقوة، ففاتن هي من يصرف على الأسرة، هي تدفع أقساط المدرسة وعلوم الدين والسباحة واللغة الإنكليزية لبناتها، وهي بمالها اشترت سيارة لكن زوجها سجلها باسمه. هو فاشل ومتنمر، ومع ذلك يؤمن أنه قوام على زوجته التي يعيش من مالها، يدعمه بذلك مجتمع متخلف كبحيرة آسنة لا يُغير أفكاره.
غضب بعض الشيوخ من أمل حربي (نيلي كريم)، لكن شيخاً متنوراً شاباً، هو الشيخ يحيى، ارتبك وبحث مطولاً في القرآن، ليكتشف أن أمل حربي على حق، فالقرآن الكريم لا يقول ما يقولونه
سأحكي تلك الحادثة في موعظة ألقاها المطران جورج خضر في إحدى محاضراته في مدينة اللاذقية. سأله أحدهم: "ثمة آية في الإنجيل تقول (الرجل رأس المرأة كما المسيح رأس الكنيسة)"، ليرد عليه بكل بساطة المطران جورج خضر قائلاً: "من يكون مؤهلاً أكثر ليكون رأس فهو الرأس". كل الحضور محدود الفهم استاء من كلام جورج خضر، فالأديان تتشابه في طروحاتها.
الأمر نفسه في الدين الإسلامي بالنسبة لموضوع "قوامون على النساء"، فمن خلال خبرتي الحياتية الغنية كطبيبة عيون عملت في المشفى الوطني في اللاذقية ربع قرن، كان لي الحظ والشرف أن أتعرّف بكثير من العاملات، من ممرضات وعاملات تنظيف، وحتى طبيبات، هن من يصرفن على أولادهن وعلى أزواجهن، والزوج مرتاح وراض، ولا مانع لديه أن تموت زوجته من التعب والعمل خارج المنزل وداخله، لكن هو قوام عليها.
ناقش المسلسل ظلم قانون الأحوال الشخصية للمرأة، خاصة المُطلقة، إذا أرادت أن تتزوج مرة ثانية، وناقش تلك القوانين لأن أحكامها لا تُطبق. أمل حربي تحارب على كل الأصعدة، ضد زوج حقير كان يضربها ويسرق مالها ولا يهتم ببناته، ولما طلقته بقانون الخلع، أراد الانتقام، فطردها من منزلها ورمى أثاث البيت في الشارع، غير مبال بالأذى النفسي لبناته، حتى أنها لجأت لتعيش في مركز لحماية النساء المُعنّفات.
ونرى في هذا المركز حالات مُروعة من العنف الزوجي، لكن للأسف يُضيء هذا المسلسل بكل شفافية على شريحة من النساء المُعنّفات من قبل الزوج، ممن لجأن لمركز حماية النساء المُعنّفات، ثم عدن إلى الزوج بعد أشهر، لتتكرر المأساة ويقوم الزوج بضربهن ضرباً وحشياً، فيرجعن لمركز حماية النساء المُعنّفات.
في موعظة ألقاها المطران جورج خضر في إحدى محاضراته في مدينة اللاذقية. سأله أحدهم: "ثمة آية في الإنجيل تقول (الرجل رأس المرأة كما المسيح رأس الكنيسة)"، ليرد عليه بكل بساطة المطران جورج خضر قائلاً: "من يكون مؤهلاً أكثر ليكون رأس فهو الرأس"
أفكار بالية موروثة
هذه الفكرة هامة جداً، لأن التربية تزرع في المرأة منذ طفولتها أنها أدنى قيمة من الرجل، وأن الدين وقوانين الأحوال الشخصية تميزه عنها لأنه رجل، أي أن فكرة طاعة الرجل مترسخة في لاوعي الطفلة والمراهقة والمرأة، وفي لقطة من المسلسل رائعة، تلوم أمل حربي حماتها وتقول لها: "أنت السبب، فقد ربيت ابنك كي يكون ظالماً وأنانياً"، ربته وهي تهمس بإذنه: كلما أذللت زوجتك ستعود إليك راكعة. التخلف في عقلية المرأة كما في عقلية الرجل، أما بالنسبة للفتاوى التي يفتيها بعض رجال الدين، فالكثير منها لا يستند إطلاقاً على القرآن، ويتم تفسير الآية القرآنية كما يُرضي الرجل ولمصلحته، ويلعب الإعلام دوراً مُهماً وخطيراً في تخصيص برامج يومية لهؤلاء الشيوخ المتخلفين، والذين يفتون فتاوى باطلة، لا تراعي النص القرآني بل تزوره، حتى أن هناك قنوات فضائية خاصة، بهم يتأثر بها الملايين من الشبان والشابات، وكم أحس بالخزي وأنا أتابع بعض تلك الحلقات لمشايخ حققوا شهرة واسعة بين الناس ببلاغة كلامهم ولطفهم المصطنع.
في إحدى الحلقات، تسأل امرأة عبر الهاتف الشيخ عن الفتوى في نزع أشعار جسد المرأة، فيرد الشيخ بأن نزع شعر الإبط يتم بطريقة غير نزع أشعار المناطق الحساسة... يا للقضية الهامة... هذه البرامج تجعل المتفرج يهبط في مستواه العقلي ويفقد المنطق.
مسلسل "فاتن أمل حربي" هو تحفيز لكل امرأة أن تشعر أنها قوية، وألا تيأس من المطالبة بحقوقها وحقوق أولادها، وأن تُطالب بتنفيذ الأحكام التي تصدر عن المحكمة ولا تُنفّذ رغم مرور سنوات
كم من مسلمين تأثروا بشيوخ أساؤوا للإسلام، وصاروا ينتقدون العالم محمد شحرور، صاحب الذهن المتنور، والذي فسر القرآن بنزاهة وصدق، وحرض العقول على التفكير وعلى تقبل الآخر؟ كم من رجال دين وشيوخ وعلماء دين يحللون تعدد الزوجات للرجل بحجة أن الغريزة الجنسية للرجل أقوى من الغريزة الجنسية للمرأة، مع العلم أن الطب أثبت تساوي الغريزتين؟
"أنا مش ضعيفة"
مسلسل "فاتن أمل حربي" هو في الحقيقة تحفيز لكل امرأة أن تشعر أنها قوية، وألا تيأس من المطالبة بحقوقها وحقوق أولادها، وأن تُطالب بتنفيذ الأحكام التي تصدر عن المحكمة ولا تُنفّذ رغم مرور سنوات.
وتصبح فاتن أمل حربي مثالاً للنساء، يلجأن إليها يوكلونها بقضيتهم الظالمة، تصبح نجمة يحضر الملايين فيديوهاتها التي لم تصورها هي، بل صورتها نساء يعانين القهر والظلم مثل فاتن أمل حربي. روعة المسلسل أنه يكسر تابو الدين بشكل راق وإنساني، فالسؤال ليس خطيئة ولا معصية، ووجود رجال دين يحرفون عمداً التفسير الصحيح آيات القرآن واقع يجب محاربته.
لماذا لا تُخصص قنوات تنويرية دينية؟ ثمة فتاوى لا منطقية ومهينة للرجل والمرأة. أخيراً لا بد من الإشادة بالأداء الرائع للنجمة نيلي كريم التي أبدعت في أداء شخصية فاتن أمل حربي، وهي ممثلة تختار أدوارها بذكاء، وتؤمن أن الفن رسالة راقية، كما في دورها العظيم في مسلسل "ذات" المأخوذ من رواية صنع الله إبراهيم.
فاتن أمل حربي هي قدوة للنساء، تغذي ثقتهن بأنفسهن، كما تقول أغنية المسلسل: "أنا مش ضعيفة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...