لم يذكر التاريخ شيئاً كثيراً عن دور النساء في إنشاء الحضارة الإسلامية في بلاد فارس، بل اقتصر على ذكر أسمائهن دون التطرق إلى سجلهن والقليل من نشاطاتهن، فالتاريخ يسجله الرجال كما هو معروف.
في هذه المادة سنتعرف على قصص أشهر الجوامع الإيرانية التي شُيّدت على مدى القرون السبعة الماضية على أيادي السيدات المؤثرات في كلّ حقبة من تلك القرون.
مسجد گُوهَرشاد
لم تكتف الأميرة گُوهَرشاد بيگُم، حفيدة جنگيز خان، وزوجة الإمبراطور شاهرُخ ميرزا بن تَيمور لَنگ ووالدة الفنان بایسُنقر میرزا، بدورها في أروقة سياسة الحكم التَيموري (1370– 1507م)، وهي سلالة تركمانية حكمت في بلاد آسيا الوسطى وأفغانستان وشمال الهند وإيران والعراق والشام وشرق الأناضول وأجزاء من منطقة القفقاس، إذ كان مقرها في سَمَرقَند، ثم مدينة هَرات الأفغانية.
عقب انقلاب حفيدها على الملك، قُتلت گوهرشاد عام 1457، ودفنت في مسجد ومدرسة گوهرشاد في مدينة هرات الأفغانية حيث شيدت هناك أيضاً جامعاً ومدرسة باسمها
أدت گُوهَرشاد بيگم دوراً بارزاً في تشييد الأبنية التراثية على طراز الفن التيموري ومن هذه الصروح، مسجد كبير في مدينة مشهد شمال شرقي إيران، حرصت على إنشائه إلى جوار مرقد هارون الرشيد والإمام علي الرضا ثامن أئمة الشيعة من آل البيت.
أتم المعمار الإيراني الشهير قوام الدين الشيرازي بناء هذا الصرح عام 1418م، وحمل عنوان "مسجد گوهرشاد"، وما زال لليوم يستضيف المئات للعبادة، وهو ضمن مرقد الإمام الرضا الذي يتسع لمليون متر مربع.
يضم الجامع قبة زرقاء كبيرة ومنارتين قصيرتين وشرفة واسعة تبلغ مساحتها 500 متر مربع وارتفاعها 25 متراً، ويعتبر من روائع نمط العمارة الإيرانية في العصر التيموري حيث زينة القرميد القاشاني والأقواس داخل الرواق والنقوش الجدارية إضافة إلى الفسیفساء البديعة.
ونظراً لفن ابنها بايسُنقر ميرزا في كتابة القرآن الكريم، طلبت گوهرشاد منه أن يخلد اسمها في مكانين مختلفين من الجامع، ليخط الفنان لوحة من القاشاني بخط الثلث، تحمل عنوان المسجد وسنة إنشائه.
وخصصت السيدة أوقافاً كثيرة منها أراض زراعية وبساتين وعيون ماء ومبان، في سبيل إدارة وصيانة وترميم مسجد گوهرشاد، بل وحتى لقراء القرآن، وبالنظر إلى الدور البارز للجامع في حياة سكان المدينة، حرص المحسنون على وقف ممتلكاتهم في هذا الصدد، فأصبح هذا الجامع يُعد من أبرز الجوامع التي يملك أموالاً ضخمة لإدارته.
عقب انقلاب حفيدها على الملك، قُتلت گوهرشاد عام 1457، ودفنت في مسجد ومدرسة گوهرشاد، ولكن ليس في مدينة مشهد، بل في مدينة هَرات الأفغانية، حيث شيدت هناك أيضاً جامعاً ومدرسة باسمها.
مسجد پِیرزَن (العجوز)
ابتاعت السيدة گوهرشاد، منازل عدة في جوار مرقد هارون الرشيد والإمام الرضا في سبيل إنشاء مسجدها، غير أن امرأة عجوزاً أبت أن تبيع دارها، فحرصت گوهرشاد على تشييد الجامع دون المساس بمنزل العجوز، وبعد الانتهاء من عملية البناء، وكان قد وقع منزلها في وسط فناء الجامع، قررت أن توقف دارها للعبادة، فأطلق الناس عليه "مسجد پِیرزَن"، ما يعني في الفارسية "العجوز".
وكان يفصل مسجد پيرزن الواقع وسط مسجد گوهرشاد، أعمدة حديدية وحجرية دون جدران وسقف، ومن حوله يقع حوض ماء للوضوء، يُفرَش بالحصير، ويحرص المؤمنون على إقامة الصلوات فيه.
ما ذكر أعلاه حكاية متناقلة عبر الألسن خلدتها الكتب في بداية القرن العشرين دون أن تكون هناك وثائق عنها من القرن الخامس عشر، أي عند بناء مسجد گوهرشاد. ولكن بقي مسجد العجوز قائماً حتى ثلاثينيات القرن الماضي، ثم تحول إلى حوض ماء كبير. ويقول الباحثون إن تداول مثل هذه القصص يأتي تأكيداً على التعاليم الأخلاقية في إنشاء الصروح، إذ لا يجب ظلم الناس حتى أضعفهم كتلك العجوز.
جامع "كَبُود" الأزرق
وبينما كان شرق إيران يخضع لحكم التيموريين، استولت قبيلة القراقویونلو على شمال غربي إيران، وهي قبيلة من التركمان حكمت منذ 1390إلى 1468م في شرق الأناضول وأذربيجان والقوقاز وبعض أجزاء إيران والعراق.
وطلبت جان بیگُم، زوجة الملك أبي المظفر جَهان شاه، تشييد جامع في مدينة تبريز شمال غربي البلاد عاصمة الدولة، وفي روايات أخرى طلبت منه ابنته صالحة خاتون، فوافق الملك وأمر بذلك ليتم بناء مسجد على طراز العمارة الإيرانية المليئة بالتصاميم والزخارف المزينة بالحجر الأزرق الفيروزي.
باحة مربعة الشكل يتوسطها حوض ماء وأروقة حولها صنعت من الرخام، منقوشة بالآيات القرآنية، هو أهم ما في الجامع الذي عرف بأسماء عدة منها: "جَهان شاه"، و"شاه جهان"، و"العمارة المظفرية المباركة "،كما أنه يطلق عليه حديثاً مسجد كَبُود (الأزرق) ومسجد "فیروزة الإسلام".
ورغم ما تقدمت به زوجة الملك أو ابنته لبناء المسجد، إلا أن اللوحة التي تعلو رواقه تروي شيئاً آخر، فقد سجلت أن هذا المكان شُيّد عام 1465م بأمر من أبي المظفر جهان شاه بن قرا يوسف. ولكن بقيت صفحات التاريخ تدل على أن من أراد ذلك هي امرأة، ولربما أرادت أن يعلو شأنها كما گوهرشاد التي أتمت مهمتها قبل ذلك بـ47 سنة.
وحالف جان بيگم وابنتها صالحة خاتون الحظ لتدفنا في مقبرة المسجد إلى جوار الملك جهان شاه، لتكونا علامة بارزة في حرصهما على إنشاء هذا المكان التراثي في مدينة تبريز.
ورغم احتواء جدران الجامع على أسماء أئمة الشيعة، إلا أن أسرة الملك اشترطت في رسالة وقف الجامع، على وجوب أن يكون إمام الجامع شيخاً من المتصوفة ينتمي للمذهب السني. لربما كانت دولة القراقویونلو تعلم ماذا سيجري في تبريز بعد 36 سنة إذ تأسست الدولة الصفوية الشيعية عام 1501.
جامع نَمَكِي
عندما كانت الدولة الصفوية في قمة عزّها في مدينة إصفهان وسط إيران، وخلال حكم سابع ملوك الصفويين، الشاه عباس الثاني (1632 - 1666 م)، بادرت الحاجة شاه خانُم، بنت ميرزا أحمد بيك نَمَكِي، من أكابر الدولة، بتشييد جامع يعرف اليوم باسم "مسجد نَمَكِي".
وأوقفت شاه خانم في سبيل صيانته وحفظه ممتلكات خاصة من أموال وعقارات، ورغم أنه تأسس في زمان أحدث من المساجد السابقة إلا أننا لم نحصل على معلومات كافية تشرح قصة تشييده وإن كان على نفس الاسم في بدايته أم كان له اسم آخر يدل على مؤسستِه.
مسجد إيِلْچِي
عند تولي شاه سليمان (1638 – 1693م)، مقاليد الحكم بعد شاه عباس الثاني، قامت امرأة تدعى صاحب سلطان بيگم، بنت أحد أكابر الحكومة الصفوية بإنشاء مسجد في العاصمة آنذاك إصفهان.
"قد وقفت لبناء هذا المسجد في زمان دولة السلطان الأعظم... أبي مظفر شاه سليمان الحسيني الموسوي الصفوي...، صاحب سلطان بيگم بنت حكيم نظام الدين محمد الملقب حكيم الملك إيِلْچِي"؛ هكذا تقول لوحة المسجد التي تعلو البناية وقد خطت بتاريخ 1686م، وفي لوحة أخرى فوق محراب المسجد: "هو الأعلى. لما سمحت المخدرة الصالحة المقصورة صاحب سلطان بيگم بنت المرحوم المغفور حكيم نظام الدين محمد، شُهره إيلچي و...". فعلى طريقة گوهرشاد التي تمسكت بكتابة اسمها في مكانين مختلفين من الجامع، خطت هذه السيدة الصفوية اسمها على الجدران.
ومما جعل هذا الجامع محل انتباه الباحثين هو عمارته الجميلة والخط المستخدم في كتابة الآيات والأحاديث وأسماء آل البيت، إذ يتشكل من باحة صغيرة و رواق صغير يتوسطه محراب على نمط الفن الصفوي.
مسجد خانُم (السيدة)
في عهد الدولة القاجارية الشيعية (1785 – 1925م)، لعبت المرأة دوراً مهماً في الحياة الاجتماعية، ومن بين هذه الناشطات هي جميلة بنت حسين قُلي خَان سَرداري المشهور بـ"ذوالفقاري" والتي كانت تقطن مدينة زنجان شمال غربي البلاد.
أشرفت جميلة على إنشاء مسجد ومدرسة في عام 1905، ولكن وافتها المنية قبل أن تكمل صرحها، فأخذت ابنتها "قَمر تاج" تشرف على عملية البناء، ومن ثم تولت أمور الجامع والمدرسة، فاشتهر المكان باسم "مسجد خانم"، ربما عرفاناً لدور هاتين السيدتين في تشييده.
الأصفر والبرتقالي والوردي والأبيض والأسود، ألوان زينت جدران الجامع ليكون علامة مميزة لانفراده بين سائر المساجد التي شيدها الرجال. ويضم المسجد وفيه غرف كثيرة لإقامة الصفوف، باحة تضم حوض ماء وأشجاراً تمنح المكان جواً هادئاً مليئاً بالألوان والخضار.
جامع فخر الدولة
ولم تخل طهران عاصمة إيران اليوم، والتي اختارتها الدولة القاجارية مركزاً لحكمها، من أثر السيدات اللاتي شاركن في تشييد بعض المعالم والصروح في تلك الحقبة.
شهدت الأميرة القاجارية أشرف الملوك فخر الدولة، بنت الملك مظفر الدين شاه، انقلابَ رضا بَهْلوي على حكم أحمد شاه آخر ملوك القاجاريين، وقد أسس الملك الجديد (رضا بهلوي أو رضا شاه)، الدولة البهلوية (1979- 1925). فبقيت الأميرة تحرص على إقامة نشاطات خيرية، وكانت الدولة الحديثة تكن لها الاحترام، فدعت المعمار الروسي نيكولاي ماركوف، والذي بادر بإنشاء الكثير من المباني في إيران، وكان محل ثقة الحكومة الإيرانية، لتطلب منه بناء مسجد في وسط طهران.
شيّد المعمار الروسي مسجداً على طراز الفن البيزنطي، يشبه دور العبادة والكنائس الغربية، عام 1945، وبعد أربع سنوات تم العمل، لتأمر أشرف الملوك والتي كانت تشرف على عملية البناء بنفسها حيث كان المسجد أمام منزلها، على أن يكتبوا لوحة الجامع باسم والد زوجها المستشار الأعلى في عهد والدها الملك مظفر الدين شاه.
ساهمت امرأة في بناء مسجد في العقود الأخيرة في محل حسينية في مدينة بوشِهْر المطلة على الخليج، يعود تاريخه إلى فترة الحرب العالمية الأولى
"مسجد أمين الدولة"، هكذا أطلقت الأميرة على الجامع، تقديراً لدور ميرزا علي خان، ولكن نشاطها المستمر في المسجد وتقديم النذورات في شهر محرم وإطعام المساكين، جعل المسجد يشتهر باسم مؤسسته وبات يردد الناس اسمه: "مسجد فخر الدولة".
مسجد پیرزَن أو فاطمة الزهراء
وكيلا يسجل التاريخ أن جنوب إيران كان بلا جامع بنتْه سيدة، ساهمت امرأة في بناء مسجد في العقود الأخيرة، في محل حسينية في مدينة بوشِهر المطلة على الخليج، يعود تاريخه إلى فترة الحرب العالمية الأولى، وكانت هذه المرأة والدة أحد الأبطال المحليين الذين شاركوا في الحرب ضد الغزو البريطاني، يدعى زايِر خضر خان أهْرُمِي.
وتحولت هذه الحسينية بعد مرور فترة على بنائها إلى مسجد، تحيط به محلات تجارية في الجانب الغربي، لتصرف أموال الدكاكين على ترميم وصيانة الجامع الذي بات يطلق عليه "مسجد پيرزن" أي "مسجد العجوز".
وهو ضمن أول مساجد مدينة بوشهر التي شُيّدت فيها مأذنتان في الخمسينيات القرن الماضي. وقد أطلق على الجامع "مسجد فاطمة الزهراء"، بعد انتصار الثورة الإسلامية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم