كانت حصة النساء الإيرانيات من السفر خلال الفترة القاجارية () وما قبل ذلك (قبل عام 1925م) تقتصر على الزيارات الدينية، والتي كانت تتم بإذن أزواجهن. ومع ذلك، اغتنمت بعضهن هذه الفرص الصغيرة، وكتبن مذكرات عن رحلات طويلة وصعبة في صيغة كتب رحلات، والتي تعتبر وثائق تاريخية مهمة، بالإضافة إلى أهميتها الأدبية.
خلال السنوات الأخيرة، تم تعديل وطباعة ثلاث رحلات سفر لنساء إيرانيات من القرن التاسع عشر، وهي: "ثلاثة أيام حتى نهاية البحر" لأميرة قاجارية كتبتها عام 1885م، و"نصبنا خيمتنا وذهبنا للمشاهدة" كتبتها عالية خانم شيرازي عام 1891م، و"غداً موعد الرحيل يا سيدتي" كتبتها سكينة سلطان الملقبة بـ"وقار الدولة" عام 1899م.
تاريخ كتابة الرحلات في إيران
يعود دخول مجال كتابة الرحلات إلى إيران، إلى العصر الصفوي (1736-1501 م)، والتي لم تكن جميعها منثورة، حيث أول رحلة حج كتبتها امرأة كانت منظومة على شكل قصيدة مزدوجة (مثنوية) طويلة، تتألف من 1200 بيت، كتبتها امرأة تدعى شَهْربانو بيكُم.
بلغت كتابة رحلات السفر ذروتها في الفترة القاجارية، وأصبحت من أهم أساليب النثر الإيراني الحديث، كما أن أولى الروايات الفارسية كُتبت في تلك الفترة بشكل رحلات سفر. أفسحت القصص البطولية الطريق لأدب الواقع، وبدأ الراوي يظهر في النص، على عكس الأعمال الكلاسيكية.
الخصائص المشتركة بين كاتبات رحلات السفر القاجاريات
النثر البسيط والسلِس، والخيال، والتفاصيل، وروح الدعابة والشجاعة للكاتبات الثلاث، واللاتي جميعهن كن من سيدات البلاط القاجاري، ومن الطبقات العليا في المجتمع الإيراني آنذاك، هي السمات المشتركة لهذه الرحلات الثلاث. والملفت للنظر أن نثر هذه الرحلات مشابه للنثر الفارسي الحديث والمستخدم اليوم في إيران، وكان يختلف كثيراً مع النثر المعقد السائد في ذلك الوقت، والذي كان مليئاً بالاستعارات والقوافي والمجازات اللغوية الأخرى.
خلافًا للاعتقاد السائد، لم تكن المرأة خلال الفترة القاجارية منعزلة اجتماعياً، بل بذلت الكثير من الجهود لتكون حرة وأن تكتسب هوية مستقلة
نصوص هؤلاء النساء الثلاث بعيدة عن أي تعقيد، فهي قريبة من اللغة العامية أكثر مما هي قريبة من النثر الأرستقراطي السائد في عصرهن. وتمت كتابة هذه الرحلات بهذا الأسلوب، في ذروة جدل خطير بين الكتابة المعقدة (نثر رجال البلاط والسكرتارية) والكتابة البسيطة (نثر الصحفيين الجمهوريين).
تدل كتابة النساء القاجاريات الثلاث بأسلوب الحداثيين والجمهوريين (الدستوريين) على أنهن كنّ واعيات بتطورات عصرهن ولم يتجاهلن قراءة الصحف التي كانت تطبع آنذاك.
خلافاً للاعتقاد السائد، لم تكن المرأة خلال فترة القاجارية منعزلة اجتماعياً، بل بذلت الكثير من الجهود لتكون حرة وأن تكتسب هوية مستقلة، وحضور النساء في التطورات السياسية كـ"انتفاضة التبغ"، خير دليل على ذلك.
وقد عبرت هؤلاء القاجاريات الثلاث في نصوصهن، عن مشاعرهن وشوقهن وسخريتهن ورغباتهن دون أي خجل. في الحقيقة، لقد تركت هذه النساء تفاصيل الحياة الاجتماعية للمرأة الإيرانية آنذاك. ولغتهن متهورة وبعيدة عن اللغة المصقولة التي ظهرات بعد الثورة الدستورية في إيران.
تخبرنا النساء الثلاث في رحلاتهن، تفاصيل عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للشعب الإيراني والعراق وسوريا في ذلك الوقت، وهي التفاصيل التي عادة ما كانت تغيب عن نظر الرجال.
لا صوت الجمل، ولا أحد ينادي "تعال"
"ثلاثة أيام حتى الوصول إلى نهاية البحر" هي رحلة كتبتها إحدى الأميرات الإيرانيات التي لا نعرف اسمها. يطلب يدها الملك القاجاري ناصر الدين شاه، عندما كانت في سن الخامسة عشرة من عمرها، بعد إعجابه بجمالها. لكن حسد المحيطين به يؤدي إلى إلغاء الخطبة، ویتم زواجها بأمر من الملك من رجل يدعى عماد الملك، حاكم منطقة طبَس، والذي كان يكبر الأميرة بأكثر من ثلاثين عاماً.
عداوة زوجات عماد الملك الأخريات لها وعدم إنجابها الأطفال ومعاناتها من وفاة شقيقين صغيرين لها تضيق المجال أمام الأميرة القاجارية، لدرجة أنها تشك في الدين، وللبحث عن طريقة لاستعادته تبدأ سفراً بإذن من زوجها، رغم أنه لم يكن راضياً بهذا السفر.
هي امرأة دقيقة. واستخدامها السليم للقصائد والأمثال وروح الدعابة في النص وذكر الأحداث التاريخية يدل على معرفتها العالية بالقراءة والكتابة. بدأت رحلتها في الحادي والعشرين من شهر شعبان 1303 هـ، وتم إعادة كتابة النص عام 1899م.
طريق رحلتها شمل كلاً من طبَس وكِرمانشاه، ثمّ الكاظمين، وبغداد، والبصرة، وبوشِهْر، والمحيط الهندي، والمدينة، والنجف، وكربلاء، والسامراء، وقصْر شيرين، وكاشان، وطبس.
ومواجهة قطاع الطرق وغرق السفينة كانت من أصعب مغامرات رحلتها، وسجل قلمها، كالكاميرا، اللحظات المهمة في هذه الرحلة. ذكرت في جزء من رحلتها: "ماذا أكتب عن جمال بغداد وهذا الشط. مجموعات من الشباب اليهود والمسلمين والأرمن يسبحون في الماء. ومجموعة من الرجال والنساء يتجولون بالقوارب في الماء".
مواصفات المدينة التي تكتبها الأميرة تظهر اختلافها عن شکلها ووضعها الحالی بشكل جيد: "المدينة المنورة بها العديد من الحدائق. مرقد النبي ليس له قبة. المنارات ليست مرئية من بعيد بسبب كثافة النخیل".
بعد أن تجتاز مصاعب الرحلة، تشق الأميرة طريقها نحو منطقة الجبل في المدينة، وتعجب بأجواء المنطقة، وتکتب في وصف حسن ضيافة أهالي المنطقة: "إذا دخل ألف شخص إلى مضيف الأمير في يوم واحد، فسيكون بالتأكيد طعام لهم... يطبخون الخروف دون تقطيعه ویضعون صواني كبيرة أمام الضيف وفيها الخروف وإلى جانبه البصل والتمر".
المیاه في كلّ مكان
كُتِبَت رحلة عالية خانُم خلال الفترة الناصرية. ومن بين رحلات السفر في ذلك الوقت، رحلتها هي الوحيدة التي لا يذكر فیها ضرورة إذن الزوج لسفر المرأة.
ورغم أن الحج واجب شرعي ولا يتطلب إذن ولي الأمر، إلا أن الرجال في ذلك الوقت كانوا یعارضون سفر زوجاتهم لتأدية الحج، أو لم يوافقوا على ذلك بسهولة.
وذهاب المرأة بدون المحارم إلى رحلة طويلة، وتولیها قيادة قافلتها بنفسها، لم يكن أمراً يمكن لرجال قاجار التعامل معه بسهولة، لكن عالية خانم قامت بذلك، وذهبت في زيارة بدأتها من مدينة كِرمان باتجاه بومباي.
جزء من كتاب علياء خانم المتعلق بالرحلة البحرية، يوقف أنفاس القراء، حيث تقول فيه: "كانت السفينة تميل كثيراً لدرجة أننا كنا نظن أننا سنغرق... إنها القيامة... إنه يوم الحشر... تميل السفينة لدرجة تمتلئ بالماء".
في البداية، كان من المقرر أن يكتب شخص يُدعى السيد ولي خان، هذه الرحلة، بدلاً من عالية خانم، لكنه توقف عن كتابة الرحلة منذ البداية بسبب الكسل، واستمرت عالية خانم بكتابتها، وهكذا تشرح الموقف: "كان علي أن أكتب سيرة ذاتية بهذا الخط النحس النجس لأجعلها ذكرى".
تخبرنا النساء الثلاث في رحلاتهن، تفاصيل عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للشعب الإيراني والعراق وسوريا في ذلك الوقت
تقدم هذه الملاحظات صورةً شجاعة ومستقلة وجريئة لعالية خانم، التي قطعت رحلة طويلة وصعبة دون زوجها وأطفالها. في بعض الأحيان وللحصول على حقوقها كانت تتشاجر مع الرجال، وأحياناً كانت تتناقش معهم وتدخل معهم في مفاوضات، كما أنها كانت تفصل طريقها عنهم في أحيان أخرى.
في الجزء الثاني من رحلة عالية خانم، والتي تدور أحداثها في طهران، يتغير أسلوب الكتابة.
تبقی عالية خانم في بلاط ناصر الدين شاه لمدة طويلة. فيأتي وصفها للبلاط من وجهة نظر شخص غريب يشرح الوضع السائد في تلك الفترة ونمط الحياة في البلاط، وهذا ما يجعل نص عالية خانم مختلفاٌ عن كتابات أقارب الملك، حيث تكتب في جزء منها: "كانت تأتي زوجات الملك كل يوم. كنت أشاهدهن. في المساء كنا نذهب إلى الحديقة الملكية، كانت جميع زوجات الملك الثمانين يضعن الماكياج... كان يتقدم الملك وتتبعه النساء".
تقدم أوصاف عاليه خانم لناصرالدين شاه صورة مختلفة للنثر الذكوري آنذاك، إذ تكتب عنه: "كان الملك يمشي حتى اقترب مني... خلع نظارته وفتح منديله وقرب رأسه إلى وجهي. نظرت إلى الأرض من الخجل. قال بسرعة ولعدة مرات انظري إليّ، هل أنا شخص مقبول أم لا؟ نظرت إليه وقلت: نعم، ماشاءالله، أنت جيد جداً ومقبول. قال إنك تكذبين، فأنا لست شخصاً مقبولاً... وذهب نحو المطربين".
غداً موعد الرحيل يا سيدتي
كانت وقار الدولة امرأة محظوظة حيث كان بإمکانها السفر إلى مكة بموافقة زوجها، حيث كان يتعين على العديد من النساء في ذلك الوقت إما التنازل عن مهرهن أو ايجاد زوجة شابة لأزواجهن للحصول على إذن السفر منهم.
لكن وقار الدولة تحتج في رحلتها لعدة مرات على سلوك الرجال تجاه النساء. كانت هذه المرأة المتعلمة إحدى زوجات ناصر الدين شاه، والتي أصبحت زوجة ميرزا إسماعيل خان معتصم الملك، أحد رجال الحكومة البارزين، بعد وفاة زوجته.
لم تسمح التعصبات والقيود المفروضة في تلك الفترة للمرأة للسفر إلى الدول الأوروبية حتى يستمتع الجيل القادم بقراءة آراء النساء تجاه تلك الدول
لا تتردد في رحلتها في التعبير عن حبها لزوجها المقتول. تبدأ قصتها في السابع والعشرين من شهر جمادى الأولى (تشرين الأول/أكتوبر 1899) وتستمر لمدة عام ونصف. وشمل طريق رحلتها كلاً من طهران، وكرمانشاه، وكربلاء، والنجف، وحلب، والإسكندرية، وطرابلس، وبيروت، ومكة، والمدينة المنورة، وكاظمين، وسامراء، وكرمانشاه، وبروجرد، وطهران.
يغلق الطريق إلى منطقة الجبل، وتضطر القافلة للذهاب إلى مكة عبر حلب أو الشام: "تم القرار أن يذهب نصف الحجاج عبر طريق الشام ونصفهم عبر طريق حلب. طلبت منهم أن يأخذوني عبر طريق الشام كي أقوم بزيارة السيدة زينب خاتون. شقیقي عارض هذا، ولذلك سيأخذوني عبر طريق حلب. بكيت كثيراً في الليل... مهما كان فإن المرأة المسكينة هي أسيرة الرجل".
عندما تصل القافلة إلى حلب، تكتب وقار الدولة: "حلب مدينة جميلة جداً. لديها أناس نظيفون. فيها أزقة نظيفة للغاية... لكن دعوني أخبركم عن حمام حلب الذي لم أر مثله من قبل... حمام لا يمكن وصفه".
تثیر أجواء بيروت إعجاب وقار الدولة: "یمکن من بعيد رؤية بيروت ومعرفة أنها مدينة مقبولة للغاية... لم نسمع صوت الموسيقى منذ بدء رحلتنا لكن هذه المدينة لديها موسيقى جيدة جداً. ويقال بأنها أكبر من کل مدن الصفحات، بل أكبر وأكثر فخامة من مدينة الشام، وفیها أسواق جيدة وقصر حكومي جيد جداً... يسمع صوت الموسيقى حتى الساعة الواحدة فجراً، وحتى الساعة الخامسة صباحاً كانت تسمع أصوات مطربي المسارح".
للأسف، لم تسمح التعصبات والقيود المفروضة في تلك الفترة للمرأة للسفر إلى الدول الأوروبية حتى يستمتع الجيل القادم بقراءة آراء النساء تجاه تلك الدول. لكن الرحلات الدينية التي تم التطرق إليها في هذا المقال، تلقي الضوء على أفکار النساء الإيرانيات في ذلك الوقت؛ الأمر الذي يعرّفنا إلى حد ما علی أجوائهن الفكرية وخصائصهن الأخلاقية، فبعضُ الشيء أفْضلُ من لاشيء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...