تحاول إسرائيل منذ سنوات طويلة تفتيت النسيج الاجتماعيّ في المجتمع العربي في الداخل الفلسطينيّ، من خلال اللعب على عدّة مستويات تسعى من خلالها لاختراق الإنسان الفلسطينيّ وإغراقه في الفوضى التي تمكّنها من صناعة مجتمع متخبّط، ممّا يسهّل عليها إدارة أزماته والسيطرة عليه بكلّ الطرق الممكنة، وواحد من هذه الأساليب، هو تدعيم منطق العنف والجريمة المنظّمة التي تضرب بشكل يوميّ، ممّا يشكّل سيناريو لمسلسل طويل الأمد، لا يمرّ يوم إلّا وتعرض إحدى حلقاته خبراً لمقتل فلسطينيّ أو أكثر في جرائم تتعدّد أسبابها، حتّى أصبحت الجريمة المنظّمة في المدن والبلدات العربيّة ظاهرة تدقّ ناقوس الخطر، وتطرح تساؤلات عدّة حول دور الأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة في دعم الجريمة وترسيخها والحفاظ على نموّ العصابات المنظّمة فيها، من خلال أيدي خفيّة تخطّط وتنفّذ بهدوء ورويّة.
الجريمة المنظمة في السياق الإسرائيلي.
الجريمة المنظمة في إسرائيل تتمتع بخصائص معينة مغايرة لما هو متعارف عليه في سائر الدول، حتى أنها تختلف عن ظاهرة الجريمة العادية أو العنف الفردي؛ كون الحديث عن الجريمة المنظمة كما هو الحال في إسرائيل، يعني الحديث عن منظومة اقتصادية واجتماعية مركبة، لها هيكليتها ونظامها الإداري وتسعى بالإضافة إلى جني المكاسب المادية لأن تتغلغل في النسيج الاجتماعي وتكون جزءاً من النظام الاقتصادي لكسب المكانة في كلاهما.
هنري روث قانوني مشارك في برنامج محاربة الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة يقول: "إن مدى انخراط المجرمين في المجتمع يعكس النفوذ الذي يمتلكونه في مراكز القوة للدولة والمجتمع". لذلك عندما نتحدث عن "الجريمة المنظمة" في إسرائيل، فنحن نتحدّث عن منظومة متكاملة لها أذرعها الأمنية والاستخباراتية، لا تقوم على خرق القانون فقط، بل على إلغائه وطرح نفسها كبديل.
بداية وتطور الجريمة المنظمة في إسرائيل
التطور التاريخي للجريمة المنظمة في إسرائيل تحمل أبعاداً سياسية وأمنية واقتصادية، فمنذ عام النكبة 1948 وتأسيس اسرائيل كنموذج استعماريّ، اتّبعت "سياسة التقشّف" لفترة لا تقلّ عن عشر سنوات، بعد الاستنزاف الذي واجهته إسرائيل إثر الحروب والمواجهات التي خاضتها مع الشعب الفلسطيني والدول العربية، بالإضافة إلى موجات الهجرة الجماعية الضخمة، وعلى أثر ذلك يقول بنحاس يزقيلي، وهو مدير المعلومات في كلية الأمن القومي التابعة للشرطة الإسرائيلية، في مقال بعنوان "تاريخ الجريمة المنظمة في إسرائيل" أن هذه السياسة تندرج ضمن الأسباب الرئيسية التي شكلت حافزاً لبروز عملية تشكل الحركات الإجرامية التي تمارس الجريمة المنظمة.
إن مدى انخراط المجرمين في المجتمع يعكس النفوذ الذي يمتلكونه في مراكز القوة للدولة والمجتمع
وفي تصريحات قديمة، يقول الروائي الإسرائيلي، آفي فالنتين، إن الشرطة ساهمت في تثبيت الجريمة المنظمة من خلال عدم القضاء عليها في طور نضوجها كونها قبلت مقايضة "المعلومات الاستخباراتية" بالحصانة التي أعطتها للمجرمين.
حتى أتت المرحلة التطويرية الانتقالية للعصابات المنظمة في العام 1967 التي بدأت فيها إسرائيل بالتمدد الجغرافي بعد احتلال سيناء، وبقية أجزاء فلسطين، الجولان السوري، التي عقب عليها بنحاس يزقيلي: "نتائج الحرب خلقت للمرة الأولى إمكانيات إجرامية جديدة؛ تهريب المخدرات وعلاقة بين المجرمين اليهود والعرب. وتقاطع هذه العلاقات مع اهتمام الجيش والاستخبارات، وشكلت الحاجة إلى المعلومات الاستخباراتية ذريعة لإغلاق العيون، في مجالات التهريب الإجرامي في أحسن الأحوال؛ وللحصول على نصيب من المسروقات في أسوئها".
ونتج عن ذلك بداية تشكّل العلاقة بين العصابات المنظمة وأجهزة الدولة في إسرائيل التي استفادت منها لتشكل حالة إسناد لها في مشروعها الاستعماري من زاوية، لأجل جمع المعلومات الاستخباراتية، وأخرى تتعلق بضرب قوى المقاومة بسبب ارتباطها في بعض الأوساط العربية سواء في الأراضي الفلسطينية أو الجولان أو سيناء.
وعلى الرغم من نفي الشرطة الإسرائيليّة المتكرّر لفكرة وجود الجريمة المنظّمة، بعد سلسلة من المقالات التي نُشرت في الصحف الإسرائيليّة عام 1971، إلّا أنّه في عام 1978 أقرّت لجنة تحقيق حكوميّة "لجنة شمرون"، أنّ هناك جريمة منظّمة في إسرائيل، تلتها مصادقة الكنيست عام 2003 على قانون "مكافحة المنظّمات الإجراميّة"، من أجل محاصرتها وتقويضها وإنهائها، ومن ثمّ في عام 2008، طرح وزير الأمن الداخلي آفي ديختر مبادرة أدّت لتشكيل قسم خاص في شعبة استخبارات الشرطة باسم "لاهف 433"، يحمل في داخله عدّة وحدات تتعلّق بالتحقيق في الجرائم الخطيرة والدوليّة وجرائم الاحتيال والجرائم المنظّمة وغيرها.
عوامل بروز الجريمة المنظمة في البلدات العربية
من خلال قراءة وتتبع آثار الجريمة المنظمة في التجمعات العربية، يتبدى أنها نتجت بفعل محاور متعددة: سياسية، قانونية، أمنية، اقتصادية واجتماعية، تتبلور من خلالهم الدوافع لسريان منهجية الجريمة المنظمة.
أصل الحكاية له منشأ وعقيدة وأدبيات متغلغلة ضمن الثقافة الصهيونية، التي اعتادت صياغة المفاهيم بما يتناسب مع الحركة الطبيعية للأشياء لكي تنفي عن نفسها تهمة العنصرية، فمثلاً من خلال ضرب منظومة التعليم وجعله عقيماًً إذ ما تم مقارنته بالنشاط الدراسي في التجمعات والمدن التي تحتضن اليهود، هذا الانحدار المتعمد ساهم في خلق متعلمين عرب لا يغرون أرباب العمل، حيث تنحصر العمالة العربية في بعض المهن الأولية بسبب تدني الكفاءة، لتنتج إشكاليات البطالة والفقر، وهذا ما يشرحه، د. سامي مرعي، في مقال "التربية والهوية والثقافة في التربية والهوية". هذا بالإضافة إلى السياسات التمييزية التي اتبعتها السلطات الإسرائيلية تجاه السلطات المحلية العربية، وتخفيض موازنتها وتمويلها، لتؤدي هذه العوامل بمجملها إلى خلق ظروف اجتماعية واقتصادية معقدة كانت كفيلة لتصنع من الفقراء ضحايا الإجرام والعنف.
وقالت د. مها كركبي، وهي محاضرة كبيرة في قسم علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، ومديرة مركز دراسات العائلة في جامعة "بن غوريون" لرصيف22: "لا يمكن فصل الجريمة المنظمة عن سياقها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، كونها تطورت في ظل مجتمع يعيش على الهامش بالرغم من مظاهر التطور الاجتماعي في المجتمع الفلسطيني، وخاصة بكل ما يتعلق بمستوى التعليم العالي والتحسين من مستوى الحياة، نعم، هناك تطورات اقتصادية علمية معينة، ولكن بنهاية الأمر، المستوى الاقتصادي للمجتمع الفلسطيني بقي يعيش على هامش الاقتصاد الإسرائيلي، أي أنه قد تطور من داخله، ولأسباب تتعلق بارتفاع سنوات التعليم وبكون المجتمع الفلسطيني يمتاز بخصوصية كثرة العائلات وارتفاع نسبة الولادة فيه، أضف إلى ذلك تأثره بالتغيرات الاقتصادية والعولمة والاستهلاك، هذا بالمجمل ساهم بتطور الاقتصاد المبني على التجارة والاستهلاك اليومي، ولكن الاقتصاد الإسرائيلي تطور بطريقة مختلفة كونه اقتصاد "حضاري عصري تكنولوجي متحضر" وفي داخله تطور للصناعات وتطور علمي من أعلى المستويات بخلاف الاقتصاد الفلسطيني الذي لم يكن له نصيب من هذا التطور، وتم اقصائه من هذه العملية".
لا يمكن فصل الجريمة المنظمة عن سياقها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، كونها تطورت في ظل مجتمع يعيش على الهامش بالرغم من مظاهر التطور الاجتماعي في المجتمع الفلسطيني، وخاصة بكل ما يتعلق بمستوى التعليم العالي والتحسين من مستوى الحياة
وأضافت د. كركبي: "هنا نستذكر أن المجتمع الذي ينال نصيبه من العولمة والتكنولوجيا يستطيع أن ينكشف على ما يدور حول العالم، ولكن بالنهاية التطور الاقتصادي لم يكن من نصيب كثير من الناس، إنما بقي في إطار محدود، يستثنى منها مناطق كالجنوب، بسبب أن هناك نسبة التعليم منخفضة ومتدنية، وهذا ما انعكس على تقلص فرص العمل، لتصبح الجريمة المنظمة نتيجة وعنواناً لها لسد بعض الفجوات والحاجات الفردية".
في السياق ذاته على المستوى القانوني - الأمني، عندما كانت تتطور المنظمات الاجرامية في البلدات العربية، مقارنة بالمجتمع اليهودي التي تم محاصرتها وتقويضها، وتقول الصحافية والمخرجة الفلسطينية سهى عراف في مقابلة عام 2020 أجرتها مع مونت كارلو الدولية: "في أواخر عام 2000 بعد هبة أكتوبر ووقوع 13 شهيداً فلسطينياً، صدم الجانب الاسرائيلي من المظاهرات الضخمة ورفع أعلام فلسطين، ونتيجة لذلك قامت إسرائيل بدعم العصابات الإجرامية الإرهابية في البلدات العربية، لتجسيد حالة من الرعب والإرهاب في المدن والقرى لشل حركتها" وقد وصفت العلاقة بين الشرطة والدولة الإسرائيلية مع العصابات الإجرامية بـ"العلاقة التعاونية المتواطئة".
يتّضح في إطار هذه العلاقة التعاونية أن تنامي العصابات الإجرامية في البلدات العربية غير مرتبط بالإهمال أو التقصير أو عدم القدرة على الضبط من قبل الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الشرطية، بقدر ما يشكل بالنسبة لهم ضرورة اجتماعية واقتصادية وأمنية، ويظهر ذلك من خلال الأدوار التي يتخذونها في الحفاظ على الجريمة ونموها، على سبيل المثال، مراكز الشرطة التي اقتصر دورها على قمع المواطنين الذين يحتجون على سياسة الدولة، متضمناً ذلك تجنيد الفلسطينيين داخل مراكز الشرطة، وغض النظر عن الانتشار المروع للسلاح.
تنامي العصابات الإجرامية في البلدات العربية غير مرتبط بالإهمال أو التقصير أو عدم القدرة على الضبط من قبل الحكومة الإسرائيلية وأجهزتها الشرطية، بقدر ما يشكل بالنسبة لهم ضرورة اجتماعية واقتصادية وأمنية
وتضيف د. كركبي، فيما يتعلّق بالسياق السياسي: "هذا الأمر لا يمكن فصله عن النواحي السياسية، كون المجتمع الفلسطيني مجتمعاً قبلياً، يحمل في داخله صراعات الحمائلية التي لم تختف مع التطور الاجتماعي النسبي وارتفاع سنوات التعليم، حتى أنه تحول ليتم استخدامه من قبل أفراد ذوي مستوى تعليمي عال وهذا ما نشهده في انتخابات السلطات المحلية، وبقيت هذه الصراعات متغلغلة ، وبالطبع للدولة يد في تغذية الأمر كون استمرارية الانتماءات والشروخات القبلية والعائلية لا تكون إلا على حساب تطور الهوية الوطنية، وهذا ما يكون لصالح السلطة والجنوب نموذج على ذلك، واتخذت هذه الصراعات منحى أخر متطوراً حين استخدمت السلاح والجريمة المنظمة لتصفية الحسابات ومواجهة الخلافات، بالإضافة إلى أن انتشار السلاح ليس عملية تمت بين ليلة وضحاها، بل عبر عقود بشكل تراكمي، حتى وصلت الدولة إلى أنها لا تمتلك القوة والتنظيم الكافيين لمواجهة عمق انتشارها، بفعل سياستي غض النظر من جهة، والمواجهة الهامشية التي لا تتعلق بجذور الأزمة".
" يمكننا القول إن الوضع الحالي للجريمة المنظمة من أسوأ الحالات التي عايشها المجتمع الفلسطيني منذ عام 48 حتى اليوم، كونه خلق انشغالاً كاملاً بالأمن اليومي للمواطنين، بالإضافة الى الساسة الفلسطينيين العرب في إسرائيل، الذين انشغلوا بالبحث عنه، وأتى هذا الانشغال على حساب تمتين الهوية الوطنية القومية، وكمثال، القائمة الموحدة، التي انتهجت سياسة التفاوض مع الدولة على أساس توفير الأمن والأمان مقابل فصل المطالب الآنية عن جوهر مكانة الأقلية الفلسطينية في دولة يهودية. وانعكست الأزمة لتطول البيئة السياسة ككل، والتي تبلورت على أسس كارثية يستحيل فيها العمل على تكوين خط سياسي وطني جامع، وهذا ما سينعكس على الانتخابات القادمة والشخصيات التي من الممكن أن تقرر الدخول في العمل السياسي خاصة المحلي، بسبب تغلغل الإجرام المنظم في العمل السياسي المحلي، بالإضافة لانعكاسها على النساء التي لا يوجد لهن تقريباً أي تمثيل، وأن تغلغل الجريمة المنظمة بهذا الحيز لن يوفر لهن بيئة أمنة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون