من نِعَم الموت، أن الموتى لا يسمعون ولا يقرأون، لا حزن الحزانى ولا شماتة الشامتين، ولا صدمة أو حيادية الصامتين. ولا يرون كم أصبح الموت عاديًا هنا؛ خبر قد يفزع له البعض، وقد يتحاشاه البعض، وقد يهلل له البعض اللآخر، يشغلنا لمدّة 48 ساعة، ونمضي في انتظار الحدث القادم الذي قد يجعل للكتابة أو للكلام معنى وسط كل هذا اللا معنى الذي نعيشه. قُتلت آية مصاروة (21 عامًا - من مدينة باقة الغربيّة في الداخل الفلسطيني) في أستراليا، وقامت مدينة ملبورن عن بكرة أبيها لتستنكر قتل الإنسان، لتبكي هذه الغريبة، التي سُلبت حقها في الحياة. تظاهر الآلاف أمام مبنى البرلمان ليعبروا عن صدمتهم، ليواسوا والد آية الثاكل. ليسوا أقرباءه، ولا أبناء بلده، لم يسألوا عن ديانته أو حزبه، ولم يحاولوا زجه في خانة معاييرهم الضيقة البائدة بحثًا عن انتمائه، ليحددوا مدى تعاطفهم معه، ولم يترددوا في إبداء الموقف الساطع خشية الإخلال بتوازنات لا قيمة لها في ميزان الإنسانية والعدل. رفعوا صور آية تضحك وتبتسم، أحضروا آلاف الورود للمكان الذي وُجدت فيه جثتها، التلفزيون الأسترالي عبّر عن حزنه، الجامعة التي كانت تدرس بها أقامت وقفة تضامنيّة مع روحها، والمظاهرات الصامتة بالآلاف تطالب بالقبض على الجاني. تكاتفوا في وجه الجريمة، فلم يمض أكثر من 24 ساعة إلى أن تم القبض على الجاني. مقتل آية حرّك من لا يعرفونها ليعلنوا كم مقدسّة هي حياة الإنسان. قارة كاملة تقف لتكشف مدى عرينا في هذه البلاد المقدّسة. تضعنا أمام المرآة لنرى بشاعة ما وصلنا إليه حين ننعى قتلانا من على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي ونكمل حياتنا بكامل روتينها، بما فيها صور الطعام والموائد العامرة وصور العائلة والأصدقاء يضحكون، لتستمر الحفلة التنكرية التي لا تنتهي أمام ناظري من يعرفنا ومن لا يعرفنا في هذا العالم الافتراضي. ننعاهم وننشر صورهم ونترحم عليهم ولا ننسى أن نجدد إيماننا بالقضاء والقدر، لنتهرب من مسؤوليتنا بضمير يخادع نفسه بالقول أن الحي أبقى من الميت، وليهرب تفكيرنا القذر وسكوتنا المطبق فعليًا، من براثن التهمة. ربما في قرارة أنفسنا نختار أن ننعاهم لننعى أنفسنا بطريقة ما، فمن يدري متى سيأتي دور الضحية القادمة.
رفعوا صور آية تضحك وتبتسم، أحضروا آلاف الورود للمكان الذي وُجدت فيه جثتها، التلفزيون الأسترالي عبّر عن حزنه، الجامعة التي كانت تدرس بها أقامت وقفة تضامنيّة مع روحها، والمظاهرات الصامتة بالآلاف تطالب بالقبض على الجاني.
كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف تغلغل هذا الكم الهائل من العنف والعدائية إلى قلوبنا؟ كيف أصبح القتل عاديًا، والذل عاديًا، وكيف امتهنا المهانة؟ لكن أكثر ما يثير الصدمة، هو تلك الأصوات الشامتة، أصوات منا وفينا.
لا لوم على الاستعمار فهذا دوره أن يقمعنا ويمزقنا ويسلب أرضنا ويسحق قيمتنا، ولكن يبقى السؤال أين نحن من كل ذاك؟ لماذا ننساق فيما يريده لنا المستعمر؟ ثنائية الخوف والاستقواء أصبحت صديقتنا، لنتعلّم من جيل صغير كيف نحسب الكلمات أمام القوي وننفلت أمام الضعيف.كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف تغلغل هذا الكم الهائل من العنف والعدائية إلى قلوبنا؟ كيف أصبح القتل عاديًا، والذل عاديًا، وكيف امتهنا المهانة؟ لكن أكثر ما يثير الصدمة، هو تلك الأصوات الشامتة، أصوات منا وفينا… لا أعني تجاهل الإعلام الإسرائيلي للخبر مع معرفة هوية المغدورة، فلا خير نتوخاه من المستعمرين. لكن أصواتًا منا نحن، من أبناء جلدتنا؛ أعني من يكتب ويعقب ليس ضد الجاني وإنما ضد الضحية! كيف أصبح طلب العلم من صبية في عمر الورد تهمة لها؟ كيف أصبح القتل عقابًا عادلًا لبناتنا عندما يخترن أن يعشن حياتهن كما يردن، حينما يخترن العلم والحياة، حينما يوسعن مساحاتهن، ويطوّرن أنفسهن؟ وكيف أصبحت هذه الأصوات تنمو وتكبر كالفطر ما بعد أيام الشتاء بلا رادع ولا حسيب؟ واقع الاستعمار الإسرائيلي الذي نعيشه صعب ومرير مرارة العلقم. فلا أمل لحياة محبة وتسامح معه لأن الاستعمار بحد ذاته هو عنف، عدائية وآلة كذب لا تتوقف، ومصدر لا أمان، وقهر وقمع واستعلاء يعكس نفسه علينا. الاستعمار آلة سحق، سحقت قيّمنا وتركت لنا بعض المظاهر الكاذبة البائسة. لا قانون يحمينا ولا شرطة تطبّق القانون في بلداتنا، لا عدالة، وأحيانًا لا تتوفّر حتى شروط الحد الأدنى لحياة كريمة، يضغطوننا في ضيق المكان وضيق الحال، يزرعون فينا العجز، والانكسار، والجريمة ويستخرجون منا أسوأ ما فينا. لا لوم على الاستعمار فهذا دوره أن يقمعنا ويمزقنا ويسلب أرضنا ويسحق قيمتنا، ولكن يبقى السؤال أين نحن من كل ذاك؟ لماذا ننساق فيما يريده لنا المستعمر؟ ثنائية الخوف والاستقواء أصبحت صديقتنا، لنتعلّم من جيل صغير كيف نحسب الكلمات أمام القوي وننفلت أمام الضعيف، ونتعلّم أحيانًا كيف نبتلع المذلّة ونصمت أمام مُحاضر صهيوني عنصري، وأمام جندي عند الحاجز يمارس عمله واعتداءه على الناس بمنتهى الروتينية له ولهم، ولا ننسى أن نشكره عندما يعيد لنا بطاقة الهًويّة ويسمح لنا بالدخول إلى بلادنا. نصمت، لأننا اعتدنا الصمت والقهر أمام الطاغية مهما تغير شكله أو موقعه او مكانته أو اسمه. نصمت أمام الطاغية ونستعلي أمام أبناء شعبنا، نستقوي على أنفسنا، ونفتي بسفح دماء بَعضنا وهدر حقوق بَعضنا البعض، وجواز استعبادنا، وتجريم بناتنا وضحايانا، ونستميت (النساء ليس أقل من الرجال) في تبرير قتل المرأة. لقد رأى أهالي ملبورن في آية مصاورة صورة الإنسان، وهذا كان كافيًا لكي يهزهم حادث قتلها ويجعلهم يقفون أمام الحقيقة الأولى للحياة، أن الإنسان قيمة بذاته، يولد ليحيا، لا ليًقتَل. لأن لا حق لأي كان أن يقتل أحدًا. لم يحاولوا تبرير الجريمة رغم أن القاتل أسترالي والمغدورة غريبة. لم يتظاهروا لأنها طالبة جامعية، أو لأنها تحمل جنسية معينة. كان كافيًا أن آية إنسانًا ليتركوا بيوتهم ويجتمعوا في عزاء عفوي تحت الهواء الطلق، يعزون أنفسهم ووالدها، يعزون أبناءهم وبناتهم، يجندون الإعلام والشرطة والبرلمان، كي تكون الرسالة واضحة وبصوتٍ عالٍ: "سنمنع الجريمة القادمة"، "never again".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...