تندرج المادة في سلسلة تعدّها منى وفيق، المحررة الضيفة في صفحة ثقافة لشهر آب/أغسطس
"إنَّ الإنسان الذي يعد حاملًا للنشاط الحلمي هو الذي لديه المَلكة في توطين ذلك الخيال الذي يقع بين الحكمة والإدراك". (الكندي)
يقطن رأسي، طفلٌ. الطفل الذي كنت، الذي سيصير بلا شكٍ ابني، طفل الرأس الجالس أبداً ينتظر. أيام كان لساني بيدراً، يحاول نطق الأشياءِ عبثاً، عبثاً يداريها عن "ذئب أهبان"، ذئب النبوءات، السارق.
حين نفكر في الموت، هناك في الجهة الأخرى من رؤوسنا شخص ما يموت وهو يحاول لفظ كلمة الصوت.
رعبٌ هائل أن يكون العقل مليئاً بالأفكار، ننام فيزداد الأمر سوءاً حتى تعود لنا مغلفة بشريط هدايا على هيئة ثعبان.
الأحلام قسمان؛ الأول: أحلام الأرض. هذا النوع من الأحلام لا يخرج عن دائرة اليومي والعادي، فيه ذات الرغبات، المتع، والهواجس، ولا طيران فيه.
القسم الثاني: أحلام الفردوس. عكس الأول تماماً، حيث غير المتوقع والخرافي، الإنسان فيه لا يبدو كما هو.
أن نرسم هذا (أقصد أحلام الفردوس) يعني أننا نعيش الحلمَ خارج الحلم. نحمل معنا جواباً لسؤال شاكر حسن آل سعيد: "كيف يتسنى للفنان أن يبدأ من جديد؟".
الخط العربي أسهل من الرسم
ثمة تاريخٌ كبيرٌ يربط الخط العربي بمقدرات العمارة الإسلامية، لسببين؛ الأول هو أن لهذا الخط القدرة على الاستدارة، التزوية، التشابك، التداخل، المد والرجع، مما يجعله قابلًا لاكتساب أشكال هندسية. أما الثاني فهو لحُرمة الرسم. وهذا نوع من المغايرة، والأغلب يعلم أن هذا الدين لم ينقطع عن التراث، بل جاء منه. وتكاد آثار القصور لا تشي إلا بعدد قليل من لوحات إيروتيكية وخمرية من هذه الحقبة. وهذا النفور الشعبوي والتمسك بالسلوك الجديد أتلف مهنة الرسم، بل استبعدها من مضمار الخلود، وجدد نوعاً آخرَ من التطرف للحبر دون غيره. الخط العربي، محمي بـ"مقدس".
لم أجد أجمل من رسم حلم اليقظة مع حبيبة متخيلة، ولعدم إيماني بتعبير الرؤيا أو تفسير الحلم إلى لغة محكية أقل براعة من الحلم. حاولت أن أحكي الحلم بأعظم اختراع: القلم
أحسبُ أن الخط العربي أسهل من الرسم، لأسباب واضحة منها سياقات الحروف والقواعد المتصلة بالنسخ والتكرار، أساسيات هذه الحروف على تشكيل أعداد نقط معينة لكل حرف بانسيابية عالية كما في الخط الديواني، الجلي ديواني، والنستعليق، ومشتقاته، والصلابة كما في النسخ، الثلث، والكوفي. أما الابتكار فيه فهذا شأن آخر. كل خلق بشري هو بالضرورة قاصر ولا يصل لأدق التفاصيل الإلهية وجمالها، كما هو الحلم. والحروف لا تعبر صورياً، كما هو الحال في الرسم.
يعزز اورهان باموق في رواية "اسمي أحمر" هذا، فيقول: "يحتاج النَقاش إلى خمسين سنة تدريب متواصل من أجل رسم حصان مثل خلق الله".
رسم المنامات
صار عليَّ أن أجد النافذة التي تطلُّ. لم أجد أجمل من رسم حلم اليقظة مع حبيبة متخيلة، ولعدم إيماني بتعبير الرؤيا أو تفسير الحلم إلى لغة محكية أقل براعة من الحلم، شأن ترجمة الشعر والأغنية، حاولت أن أحكي الحلم بأعظم اختراع: القلم.
الحالم غالباً ما يرى أحلاماً لأشخاص لم يشاهدهم من قبل لكن مع ذلك عند الإفاقة من نهاية الحلم، يضع لكل الأشخاص أسماءً وأوصافاً، مثلاً من شاهدوا النبي في الحلم، كيف تعرفوا عليه؟ كيف لهم أن يقولوا هذا فلان دون غيره بهذه الثقة؟
نحن بحاجة كبيرة لنشتت أنفسنا في أحلامنا وأحلام الآخرين. متعةٌ أن يروي لنا أحدٌ حلمه؛ إنها تشبه متعةَ من كان مسافراً في عصر من العصور أو بلد من البلاد الغريبة، سائحاً يروي العادات والغرائب. حكاية الحلم هي جولة في حجلة طفل على أرض الفضاء الملون.
المنام يجب أن يبقى كما هو، مناماً، لا أن يتحول إلى أوصاف رديئة أو ناقصة، وإلى كلمات قاصرة تُكدر ماء وجه الحلم
نبّهَ أحدهم قصاصةً تجريبيةً منقطعةً إلى مختبرها القصصي، هناك حيثُ ندَوِّن نبوءات المستقبل مِن مُجمل ما نخترعه من أحلام، نبهها ألّا تكتب أي منامٍ خَضعَتْ له أثناء موتها الصغير كي لا يحدث شرخٌ بينها وبين كتاباتها الفانتازية المستقلة، وبمعنى أبعد، كيلا تتخلص من حلم وحيدٍ قادرٍ على تطويعها، ولا... لن أفعل مثلَه، أَلَسْنَا عندما نكتب شيئاً ينخفض الهاتف اللحوح، وكأن مكانه الذي هرب منه هو الورق وعاد إليه أخيراً.
المرء لا يأخذ الرؤيا مأخذ الجدّ إلا إذا ظهرت له مرة أخرى. التراث الصوفي حافل بمنحى تكرار الأحلام. وردت قصة في كتاب "حلية الاولياء" لأبي نعيم الأصفهاني، لما كان رجل من أهل الشام يتجهز للحج، أتاه آتٍ في منامه، وقال: ائتِ البصرةَ، ثم ائتِ فيها أحد الأولياء الصالحين فبشِّره بالجنة. ولم يستجبْ لأمر الرؤيا، على الرغم من مضمونها الحسن إلا بعد أن تكررت ثلاث مرات.
هذا نموذج في تكرار المنام وصدق تحققه. كيف إذاً بتكرار حلم لا وصول فيه، ولا رجعة. البيت هو الكنز والذروة. أنبهُ الصديقة الشاعرة التي يتكرر البيت في مناماتها، أقول لها: "البيت الذي قعدتِ في جوهرة معناه هو ذاتك التي ترفض الخارج وتتمسك بالألم الأول. من سيتذكر الحلم الأول؟ بل نتذكر يا صديقتي دائماً ثاني الأحلام، ثاني الأفلام، ثاني الكتب. لا وجود للرقم واحد في الذاكرة. أنتِ التي في الكنز، لا في الطريق إليه".
المنزل مرتبة أولياء الحكمة، مثالها بناء الكعبة
تحلم الأشجار كما تشاء
وأحلم في الظل الآن، أرسم قصصاً تبدأ من تسنيم الفضة ولا تنتهي بتعرقي أبداً
سأبشِّر هذا العالم بالحلم
متنقلاً على ساق رامبو المبتورة
تَلوَنْ أيها الحلم بدمهِ المجمد
إعطِ القمر سوادَك
ارفع غيمَك
الآن،
فيك،
في الشجرة.
بين الكاليغرافي والرسم -معرضُ المنامات-
مع الأحلام لا أحتاج إلى حبكة، كل ما أحتاج إليه هو الحلم.
تجربة لحسن عائد في المخطوط الخرافي للواسطي
اعتدتُ منذ فترة أن أبحث عن منامات، أرسمها. منامات تخفف عني علةً ما. أقرأ وأسمع العجب العجاب، وأظن أن الخيالات كلها، تبدأ من هناك، منصة اللاوعي، الخوف من الرؤية، النبوءة المحكية.
حاولت أن أتخيل منامات الكاتبة الفلسطينية ريم غنايم. عملت على أكثر من عمل فني لمجموعتها الجديدة التي لم تصدر بعد. و اشتغلتُ على منامٍ للروائي اللبناني عيسى مخلوف، كان قد ذكره في أحد كتبه. أيضاً انصرفتُ بِتوقٍ إبداعي مُتقد إلى عوالم الرسام والخطاط العراقي يحيى بن محمود الواسطي، حتى إنني أكملت عشر مخطوطات كتلويحة محبة له.
حلم متخيل للشاعرة الفلسطينية ريم غنايم
وتحتَ تأثير مرويتها "قماط ناعم"، رسمتُ كذلك مناماً للشاعرة المغربية منى وفيق". كنت سمعتُه بالصدفة في "مدونة النائم" للصحافية والكاتبة التونسية أحلام الطاهر. في ذلك المنام، وجدت أمامي الشاعرة إتيل عدنان. لماذا؟ لا أعرف. ولكن فائدة الحلم على ما أظن استطراد على الدوام.
رسم حسن عائد لمنام منى وفيق: "قماط نائم"
غير أنني أجزم أن أجمل اللوحات التي قمتُ برسمها كانت لمنامات الفنانة م. ق، ملهمةٌ كريمةٌ لا تعرفني سوى مِن بعيد. تعودتُ على سماع مناماتها من صديقة مشتركة. إحدى أحلام تلك النائمة التي لا تعرف شيئاً عن الفنان الصياد اليقظ، رسمتُه على إيقاع قصيدة " فقط لو يدكِ" للشاعر اللبناني بسام حجار.
بالفعل، رسمتُ منامات كثيرة لآخرين، مبدعين وغير مبدعين. كنتُ بين كل عمل و آخر، أعانقهم، وأقول: "أتمنى أن ينام الجميع وألًا يمرضوا أبداً. من السيء أن يمرض البشري حتى لا يقوى على روي نفسه. البشري بوصفه كبريتاً خاماً".
رسم لمنام الفنانة م. ق: الطفل الرضيع وهو يهزم جيشاً
لا أختار أبداً مشاعري تجاه الأحلام، ولا أُبروز هذه الأحلام إلا عندما أكون صادقاً في التعامل معها. كل الأشكال الفنية تستطيع أن تقول شيئاً ما، ولكن هذا الحلم أو ذاك، كيف ينبغي أن يكون هو ذات الحلم؟ لا أفاضل بين الكاليغرافي والرسم، عندما أَهُمّ بتشكيل الحلم وتفسيره فنياً. أنا أترك القول الحقّ للحلم، أدع الحلم يحلم أيضاً على الورق.
المنامات المتكررة
المُتلفتُ إلى مناماته مرتين وأكثر، يصلني أكثر من حالمين غيره. أحرص على اصطياد المنامات المتكررة لدى الآخرين. لِم المتكررة بالضبط؟ لأنني الفنان الحالم الذي يستخدم مهاراته التشكيلية كضغط خارجي مُضافٍ إلى حرارة الحلم. وبعد أن يبرد المنام تماماً يكتسب صلادةً دائمة. حسناً، إنني فنان يأخذ الرؤيا مأخذ الجد المضاعف عندما تظهر للشخص المعني مرة أخرى وأخرى وأخرى.
تمثل الرؤيا بشكلها الورقي عندي رؤية الحال، لا الذات. مع الشيخ الأكبر كانت الالتفاتة الأولى لحلم الفراديس، حيث قرأت مرة أنه رأى الله، هذا الغزل الذي يُرجع القرّاء أو السامعين إلى ولادتهم، صلب أسئلة الوجود
قد ورد في الأثر أن النبي إبراهيم حلم بنحر ابنه إسماعيل، وأيضاً أن الله أمر النبي سليمان في المنام أن يبني قبراً لإبراهيم. لم يفعلا الامر إلا بعد تكرار المنام ثلاث مرات، ولا يقتصر هذا التكرار على التراث الإسلامي فحسب. المنامات المتكررة إذاً إشارة إلهية خاصة، وأمرٌ حكيم يجب الالتفات إليه. أن نتعامل مع ما هو إلهي يعني نوعاً من التطهير الروحي. أنا أتحسس طريق الحلم، أَلْمس الخطر في الأحلام التي تبدو جيدة.
مروياتٌ غير قابلة للشرح
أطلب و أشدد على كل راوٍ لأحلامه على مسامعي ألّا ينتهي إلى شرح حلمه عندما ينتهي من سرده.
تجربة لحسن عائد في المخطوط الخرافي للواسطي
المنام يجب أن يبقى كما هو، مناماً، لا أن يتحول إلى أوصاف رديئة أو ناقصة، وإلى كلمات قاصرة تُكدر ماء وجه الحلم. هذا التجميع من الكلمات خالٍ من الخلق، مع الشرح أيضاً يفقد الرائي مشاعره اتجاهَ واقعية الحلم، بل ولا يركز على ما كان عليه. أغلب الحالمين يظنون بأنهم لا يستطيعون رؤية أنفسهم في الحلم، كيف وهم الرواة العارفون؟
أعتقد أن كل ما يصادفونه من شخوص ليست سوى أحلامهم،ليست سوى أسلاف مشاعرهم.
نوعٌ ثالث للأحلام
الحلم دخان تتشربه الأمكنة، تتذوقه الأنفس. تمثل الرؤيا بشكلها الورقي عندي رؤية الحال، لا الذات. مع الشيخ الأكبر كانت الالتفاتة الأولى لحلم الفراديس، حيث قرأت مرة أنه رأى الله، هذا الغزل الذي يُرجع القرّاء أو السامعين إلى ولادتهم، صلب أسئلة الوجود. من هو واهب الحلم؟ مِن ثم سيبقى الطفل مجروراً بقماش النور إلى باطن الحقيقة. إذاً أنا حين أرسم حلماً ما، أبحث عن الحقائق المتخفية ومراد الغيب، أو النظر إلى الله، بصفتي أصغر المريدين.
والمرحلة الثانية في هذا المضمار كانت ابتداءً من السيد علي القاضي، بودلير، وأجراس باريس في حلم عيسى مخلوف، توثق فعلياً لمعيار الرسم بالكلمة، وصرت من الملمين بجمع أكبر عدد ممكن من أحلام العالم العلوي. المشروع الذي سأخصص له دفتراً كاملاً هذه السنة معنوناً بـ"البرديات، النثر". هذه المرة، سيكون العمل على حقيقة الحلم التبشيري، كنوعٍ ثالث للأحلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع