تندرج المادة في سلسلة تعدّها منى وفيق، المحررة الضيفة في صفحة ثقافة لشهر آب/أغسطس
تُخبر الكاتبة تود ديتليفسون في "ثلاثية كوبنهاجن" أن كلمة Gift في اللغة الدنماركية تعني الزواج، وهي مرادف للسمّ كذلك، لتُصوِّر أعقد حالة قد تعيشها المرأة كزوجة ومبدعة يضنيها الشوق الجارف إلى أمّها، فتنهض لتحقن نفسها بجرعة من المخدر حتى تجبر نفسها على قبول الحياة كما هي.
يمكن تخيل عدد المبدعات العربيات اللائي ضغطن على أنفسهن حتى تقبل بهن الحياة، وكم تخلين بذلك عن أحلام تُشكل هويتهن الأساسية. تقرأ الشاعرة ذلك فيتغضن وجهها، وتدرك أن الزواج حتماً ليس سوى قطرة السمّ التي ستقتل موهبتها، وفي قفزة مفاجئة لذاكرتها تغرق في تأمل لحظة غير مؤلوفة يندمج فيها المكان والزمان بتعبير ميخائيل باختين، تتذكر نفسها طفلة تركض وتقفز من لعبة لأخرى إلى امرأة غير قادرة على النبس بكلمة للإجابة عن الأسئلة التي لا تتوقف من مجتمع يطالبها بالصعود إلى المنصة لتقديم شروحات واضحة عن سبب مقنع يجعلها ترفض الزواج والإنجاب، ولِم هي لا تصبغ بياض شعرها الأبيض وتصففه، لِم هي نحيفة إلى هذا الحدّ، وكيف تترك نفسها فريسة للشحوم التي تتسلق جسدها وتلتف حوله مثل لبلاب.
تنصت المبدعة إلى هذا الشلال الهادر من الأسئلة وهي في العمق تريد أن تصرخ في وجه الجميع بأنها تعيش الحياة وقفيرٌ من الكلمات والأفكار يطنّ دون توقف داخل عقلها مُحاوِلةً جمع شتاتها بعد الانفصال التام الذي حدث لها قبل لحظات، حين بدا أنها لا تتعرف على المكان الذي تتواجد فيه، ولا تتذكر أي شيء عن حياتها. يحدث ذلك خلال دقائق قليلة تنفصل فيها بالكامل عن العالم كما لو أنها مزقت تذكرة العودة إليه. والثواني القليلة من هذا الصمت المدوي يجعل عقلها شبيهاً بغرفة خلاء تمّ حشوها بالعدم.
"إذا أنا أتيت بفكرة عبقرية فلن يقال سوى إنني سرقتها أو أتت على سبيل الصدفة"... الهبة المسمومة، مساهمة عن النساء والكتابة للقاصة المغربية سلوى ياسين
لطالما كان المجتمع عبر أغلب الثقافات أعمى أو يتظاهر بالعمى عن الخصوصية التي تميز عمل المبدعة في شتى صنوف الفنون. ولعل المرأة الشاعرة والكاتبة نالت أقسى أنواع اللامبالاة تجاه طبيعة اشتغالها وما يشغلها. من آن برادستريت حتى فيرجينيا وولف، مروراً بأجيال من المبدعات اللواتي، عند كل نصّ أو قصيدة، حاولن بصوت خافت خجول أو عبر الكتابة بصخب وغرابة، لفتَ الانتباه إلى حقّهن المشروع في اختيار حياة مختلفة تمنحهن الوقت والحرية لتحقيق ما يتقن إليه، رافضات الزواج والأمومة، متمسكات بانطلاقهن ووحدتهن دون اهتمام بما ينتظرهن عند نهاية النفق الذي اخترن المرور منه.
فحين تشاهد امرأة ساهمة تحدق في الفراغ لا تحسبنها مثل الشاعرة الخنساء تتأمل النجوم والأكوان كما في قولها:
"فبتُّ ساهرةً للنجمِ أرقُبُه
حتى أتى دون غورِ النجمِ أستارُ"
لقد تغير الشعر كثيراً منذئذ. هناك تحول هائل في وعي المرأة المبدعة يجعل تأمل الشاعرة ليس حدثاً جمالياً أو تجميلياً وحسب، بل هو إدراك حاد لفظاعة ما يحدث حولها وبداخلها، ويجعل من التحديق في الفراغ شيئاً شبيهاً بالاستغاثة. إنه الشعور الفادح بالإحباط والحسرة للفرق الهائل بين ما قُدّم لها من مباهج طيلة فترة طفولتها لتجد نفسها مطالبة بأن ترد الجميل. درجة الإحباط تقاس بمقدار الأمل الذي تلقته في تلك الفترة من حياتها.
قطع الإبداع النسائي من "صافو" حتى "آدا ليمون" مسافةً هائلة تبدو لنا من موقعنا هذا موجزة كالتماعِ نجم بعيد يعبر المجرات. لم تتوقف فيها الشاعرات والكاتبات ولو بطريقة خجولة عن إبراق المجتمع بوضعهن الخاص وبالظلم والحيف الذي يتعرضن له ومن تبخيس لمجهوداتهن. ألم تقل آن برادستريت مرة: "إذا أنا أتيت بفكرة عبقرية فلن يقال سوى إنني سرقتُها أو أتت على سبيل الصدفة".
الكاتبة تتوغل في الحياة داخل قوقعة متنقلة وهي تحاول كلّ يوم تقريب وجهات النظر بينها وبين الذين يطالبونها بالالتزام بدفتر التحملات الذي جاءت تحمله إلى الحياة من الزواج الى الإنجاب وحتى الأمومة، وكأنها مجرد نوعٍ عليه العمل كماكينة لإنتاج البشر، وقد تكون حينها تقرأ كتاب ديفيد بناتار "من الأفضل ألا تكون موجوداً"، الذي يتساءل فيه عن جدوى الإنجاب والإتيان بالمزيد من المعذبين إلى الحياة.
ويحدث أن تتزوج المبدعة تحت وطأة الضغط أو العادة، وحتى على سبيل الحب أوالصدفة أوالخطأ، وقد تنجب، ولكن لا أحد يلتفت الى دوائر الدخان التي تطلقها من حين لآخر، مثل الهندي الأحمر الذي كان يستنجد بالعالم داخل غابته وهو يُباد ببطء. لا أحد يقرأ كلماتها بالجدية والعمق المطلوبين إلى أن تحدث المأساة.
لقد كانت الشاعرة الأمريكية ذات الأصول الهندية ريتيكا فازيراتي سائرةً في حياتها تكتب الشعر حتى حسبتْ بأنها وجدت الترياق المناسب لاندماجها التام داخل الأعراف المجتمعية إلى اليوم الذي وجهت فيه لرضيعها ولنفسها طعنات قاتلة. هل قامت بذلك لأنها تكتب الشعر؟ أو بسبب عجزها عن كتابته؟ وعن إيجاد الكلمات المناسبة لوصف ما يحدث داخل عقلها. ألم ينتبه أحد الى أبياتها المرعبة والتي هي بمثابة هدهدة لطفلها؟
"أنا لن أغني لك لتنام
سأضغط بشفتيّ على أذنيْك
وآمل أن يهزَّك الرعبَ الذي بقلبي"
العجز عن العثور على الكلمة المناسبة التي تصف دون غموض ما يغلي بالنفس هو أقسى ما يمكن أن يتعرض له أي مبدع/ة، وقد وصفت سوزان سونتاغ صعوبة إطلاق تسميات دقيقة على المعاني والأشياء قائلة: "لم تتم تسمية الكثير من الأشياء في هذا العالم، وحتى تلك الأشياء التي تمت تسميتها لا يوجد لها وصف دقيق".
أمام صدمة المجتمع الأدبي الأمريكي حينها، خرجت أستاذتها لتدافع عن الشاعرة: "تلك ليست ريزيكا ڤازيراتي التي نعرف". لا أحد انتبه إلى أنها كانت قد وصلت إلى الجنون وتحتاج إلى رعاية ومشفى. كان وجهها الصبوح يخفي ببراعة حجم الألم والانفصال الكامل عن الواقع الذي تشعر به جراء ضغط الحياة والأمومة التي يبدو أنها كانت عاجزة عن القيام بها بكفاءة.
هل تزوجت ولادة بنت المستكفي قبل ألف سنة تقريباً أوأنجبت؟ أم تلك رخصة شعرية مُنحت لابنة خليفة دون غيرها من النساء مع كل الإشاعات التي حامت حولها بأنها خنثى أو كائن منزوع الجنس لا شهوة له؟ فلا أحد وجد سبباً كافياً ليبرر به اختياراً مشروعاً لامرأة جميلة فتنت رجال عصرها مُؤْثرةً اللعبَ بالكلمات والرّجال على الزواج والإنجاب، فاردةً ثوبها الذي كتب على طرفيه بيتيها الشهيرين:
"أنا والله أصلح للمعالي
وأَمشي مشيتي وأتيهُ تيها
وَأمكنُ عاشقي من صحنِ خدّي
وأعطي قُبلتي مَن يشتهيها"
عندما كتبت فيرجينيا وولف مقالها الشهير "حجرة للمرء وحده"، الذي اعتُبر نوعاً متفرداً من الكتابة النسائية، دافعتْ فيه عن الخصوصية التي تميز الإبداع الذي تحتاج فيه المرأة إلى مالٍ قار ) حتى لا تضطر للعمل وتخصص كل وقتها للكتابة (وإلى غرفة بمفتاح) كي لا يندفع الفضوليون لقطع خيط تفكيرها واشتغالها (. لكن مهلا، لقد توفر المال والغرفة لصديقتنا فيرجينيا وولف ولم يثنها ذلك عن ملء جيوبها بالحجارة والغوص ببطء أسفل النهر منتحرة.
لا أحد وجد سبباً كافياً ليبرر به اختياراً مشروعاً لامرأة جميلة كولادة بنت المستكفي، فتنت رجال عصرها مُؤْثرةً اللعبَ بالكلمات والرّجال على الزواج والإنجاب
في الضفة الأخرى من حياة وولف كانت مواطنتها في جمهورية الدومينيكان جين ريس تكتب روايتها "رباعية" وهي تقاوم ضغوط أسرتها الرامية إلى إقناعها بالزواج والإنجاب وضرورة ابتعادها عن مرافقة داكني البشرة من السكان الأصليين الذين على أكتافهم بنَتْ أسرتها ثروة من مصانع السكر. كانت مثل وولف تكتب وتتأمل أن يكون كل حرف تضعه على الورقة البيضاء طوق نجاتها. لم تلتزم بأي زواج، واختارت ألا تنجب حتى أنها كتبت عن الإجهاضات المتكررة التي قامت بها لتضمن صكّ حريتها دون أدنى شعور بالندم أو الحسرة.
كان الألم الجسدي هو كل ما تتذكره. لقد آمنتْ أن الاختيار الحرّ لشكل الحياة التي نريد هو ما يجعلنا جديرين بها. لم تساهم جين رييس، على ما يبدو، في استمرار الجنس البشري، لكنها أهدت للعالم روايتها العظيمة "بحر سارگاسو الواسع"، التي تعتبر أهمّ عمل في حقل الأدب النسائي لحقبة ما بعد الكولونيالية. تُعادل تلك الرواية إنجاب جيل كامل من البشر، حيث بذكاء وهدوء تأخذ رييس بأيدينا نحو الفهم المتزن والعميق لفظاعات وميكانيزمات عمل الإمبريالية.
لعل أسباب انسحاب المرأة المبدعة من الالتزام بالزواج ومتعلقاته كان دائماً محطّ تساؤل واستغراب بسبب العجز القديم عن تفهم طبيعة الكتابة وحساسيتها الشديدة تجاه إزعاج ومقاطعة المسؤوليات الأسرية والمجتمعية. أحياناً يحلو للبعض التندر على المرأة المبدعة بكونها غالباً غير جذابة، ولا تنصاع للقالب الجمالي المشتهى، التندر مستمر حتى بعد الاصطدام مثلاً بانتحار الشاعرة والكاتبة سيلفيا بلاث، بشعرها الأشقر وقسمات وجهها التي تجعلها الشبيهة الشرعية لمارلين مونرو الشقراء الأصلية.
كتبت سيلفيا بلاث ونالت الإعجاب لترتبط بعدها بالشاعر تيد هيوز. كانت حياتها لامعة مثل الماسة مانحةً بنات جيلها أملاً براقاً في إمكانية التعايش السلمي والآمن بين الشعر والحياة، إلى اليوم الذي أدخلت فيه بلاث رأسها داخل فرن الغاز منتحرةً، مخلفة وراءها ابناً وابنة، ليتجدد القلق القديم: لم يفشل زواج الإبداع بالحياة على الدوام؟
لم تساهم جين رييس، على ما يبدو، في استمرار الجنس البشري، لكنها أهدت للعالم روايتها العظيمة "بحر سارگاسو الواسع"
يبدو ممكنناً للمرء حتى هذه النقطة أن يتأمل أن لا المال، ولا الغرفة المستقلة، ولا الزوج المحبّ المتفهم، ولا حتى الأمومة، يمكنها أن تخفي الحقيقة العارية في أن الإبداع يحتاج إلى أكثر من ذلك؛ إلى جرعات متدفقة لا تنضب من الحرية غير المشروطة والتحرّر وتكسير جدار الخوف. ولا أحد باستطاعته التكهن بالنهايات المأساوية والحواف الخطرة التي تحوم حولها الشاعرات والكاتبات اللواتي لم يتوصلن بعد إلى التعويذة السحرية للنجاة من الانفصال الكلي أو الجزئي عن الواقع، ومن ثم الكتابة بجرأة وحرية. عند كل نص جديد نكتشف أن الخوف مازال يسكنهن ويمنعهن من تقليب المآسي الحقيقية التي تقبع تحتها المرأة. وحتى لو كتبن عن ذلك فبشكل سطحي خجول يتستر تحت المفردات الناعمة.
لكنني أُقدر أن تجربة الشاعرة المغربية منى وفيق في ديوانها "حافة حادة لنصف صحن مكسور" ستمنح أملاً متجدداً في إمكانية عقد هدنة ممكنة بين الحياة والإبداع، على أنها ظهرت فيه كالغاضبة التي لا تفتح الباب بإدارة مقبضه، بل بركله بقوة، مؤمنة أن الكيّ هو أفضل علاج للهموم القديمة. فلم تتوانَ في شعرها عن تمرير مشرط الجراح على الدمامل المتقيحة.
أما في ديوانها المرتقب "من أنثى شامبانزي إلى داروين"، فيبدو جلياً أنها اختارت تمزيق ستار الموسلين الذي كان يجمل القبح. اختارت أن تتطابق حياتها مع عملها الفني؛ أن تشبهها كتاباتها، واعيةً بأن هناك ثمناً يجب أن يُدفع دون خوف أو وجل من تأفف الجمهور، مندفعةً نحو عوالم غير مكتشفة، مثلما قامت بذلك الشاعرة الأمريكية آدريان ريتش بشجاعة خرافية بعد أن لمعت كمبدعة شابة ما زالت نظرات إعجاب أساتذتها ووالديها تسكن مخيلتها، إلى اليوم الذي تزوجت وأنجبت فيه لتكتشف أن حياتها مجرد سلسلة متكررة من التنظيف والكنس والتنقل من غرفة إلى أخرى. توقفت للحظة قبل أن تقرر تنفيذ نصف دورة بالاتجاه المعاكس تحولت فيها إلى مثلية الجنس تعيش رفقة حبيبة تتقاسمان سوياً المهمات اليومية المضنية، مانحةً شعرها قبلة النجاة والتحرر. لم يثنها عن ذلك الهجوم وانقلاب المجتمع الأدبي عليها. وظل شعرها يتقدم بخطوات شجاعة، دافعت فيه عن حق المبدعة في أن تهب حياتها للإبداع مثلما يفعل الرجل.
كما هاجمت أنانية الرجل واعتداده بنفسه حين وصفت ببلاغةٍ زيارة شاعر لها، حيث لم يتوقف للحظة عن التحدث عن شِعره وأناه المتضخمة. كانت منهمكة في تجهيز القهوة وإعطاء الدواء لرضيعها العليل، ومن ثم أوصلته إلى وجهته على متن سيارتها لينفذ بنزين السيارة في الأثناء و تتجه نحو محطة الوقود لتملأ الخزان، وطيلة ذلك الوقت بأكمله لم يتوقف الشاعر عن الحديث ولو للحظة.
لقد كشفت لنا أن المرأة قد وُجدت في هذا العالم لتظل حياة الرجل هانئة لا تكدرها منغصات. لم تقصد أدريان ريتش إحداث أي قرقعة بعبورها الجنسي، بل توالت أعمالها المختلفة التي دفعت ثمنها من الإهمال والعدائية، وبعد عمر طويل من العطاء الشعري المذهل نكتشف أنها شاعرة حقيقية حرة ومتحررة، ارتدى كلٌّ من شِعرها وحياتها نفس الزيّ حتى آخر بيت شعري، حتى آخر نفس غادر جسدها الصغير. تقول في نصّها "دلتا":
"إذا كنتَ أخذتَ هذا الرّكام من ماضيَّ
تنبشه بغيةَ كِسراتٍ قد يقيّض لك بيعها
فاعلمْ بأنني قد أوغلتُ منذ زمنٍ طويل
في الانتقال عمقاً إلى جوهر السؤال
إذا كنتَ تحسب أنه يمكنك الإحاطةَ بي، فكِّرْ بالأمر أكثر:
حكايتي تتدفّقُ في أكثرَ من اتّجاه
تنهضُ دلتا من حوضِ النّهر
وهي تفردُ أصابعها الخمس"
يبدو واضحاً في تجربة آدرين ريتش التحول الهائل في وعي المبدعات بالظروف التي صنعتْهن، وما يحتجنه من شروط ليكتبن. هذه الشجاعة لا يُعثر عليها إلا نادراً في الإنتاج الشعري النسائي العربي، ولعل الشاعرة منى وفيق وبرفقة القليلات، رفضن القيود الأكثر شدة وشراسة. لا تكتب منى وفيق عن صورة الألم بل عن حقيقته وفيزيائه في حالته الخام. لم تحاول تجميله أو وضع مساحيق عليه، ولم تكتب رباعيات مقفاة ثقيلة بالمفردات "تنعّم بالديباج والحلي والحلل"، بل وضعت اصبعها في فوهة الجرح المتقيح وضغطت غير آبهة بأن هذا الفعل ليس من عادات النساء. منى وفيق شاعرة تعيش الشعر وتجبر الكتابة والحب على الجلوس إلى طاولة تفاهم، حتى وإن لم يحدث التفهم المرتجى، مُجبرةً حياتها على طاعة شعرها وقد جعلت ذلك افتتاحية لديوانها:
الشّعر بالنسبة إليّ دائماً هو ذلك الحبّ الذي لم أتمكّن من تجاوزه
والحبّ بالنسبة إليّ دائماً هو ذلك الشّعر الذي تمكن من تجاوزي"
"أنا لن أغني لك لتنام
سأضغط بشفتيّ على أذنيْك
وآمل أن يهزَّك الرعبَ الذي بقلبي"... ريزيكا فازيراتي
الشعر في نظرها هو الغوص داخل الحطام وتقليب رفاة الذكريات دون اشمئزاز مفتعل، حيث بين الحروب والانهيارات والعوائق هناك جوع وفقر، مثلما هناك ترف ولذة، لا يمكن القفز على ذلك أو تفاديه أو إهالة التراب عليه وتجميله.
هل ستتزوجين أيتها الشاعرة؟ عليك أن تنجبي وتجربي الأمومة. فتفزع وتهرب إلى الغوص في اللغة لتجلب التسميات المناسبة لما تودّ قوله آملةً أن تلتصق الكلمة بمعناها مثل التصاق طفلة بأمها. شعر منى مصاب بداء الفايبرومايالجيا، يسيل منه الألم الذي لا عنوان لنهتدي به إليه. ربما كان ألماً يقبع في جيناتها عَبَر إليها من آلاف السنين:
يَفْتِنُني الشّعراء
ينجِبون في كلّ مكان،
ويبقون بلا عائلة
أرى وبإعجاب كبير أن منى وفيق لا تكذب على نفسها ولا علينا في قول إن لا جدوى أو معنى للحياة من دون ما نمنحه نحن البشر لها، ولما نعتبره مهماً وأهم من المهم، حيث لا تمضغ كلماتها ولا تتلعثم في قول حقيقتنا، في حين كون الحسرة والإحباط الوجبةَ اليومية والأساسية لأغلب نساء مجتمعاتنا، في حين أننا نرث ألم أمهاتنا أثناء الحيض والمخاض، وأن بين سيقاننا المشتهاة بؤرة أبدية من المعاناة، وأن النهود النافرة التي يتغنى بها الشاعر هي منبع نوبات قلق وموطن خوف أبدي. فلا تتوانى عن القول علناً ما نتمتم به نحن النساء تحت ألسنتنا الحادة الأشد قسوة من منشار. كلماتُ منى تصدر صوتاً مكتوماً وقاسياً شبيهاً بضربة فأس على جذع شجرة فهي:
كَـمَنْ قَتَل ظبيةً وجَلس يَتصوّر بِجانبِها
هذا ما فَعلْتُه أخيراً بالحياة
ليس الزواج والارتباط فقط ما يشكل للمبدعة في مجتماعاتنا مصدر قلق وتخوف، بل حظي الطلاق باشتغال فنّي من طرف شارون أولدز؛ فبعد تسع وعشرين سنة من الزواج جلس زوج الشاعرة على سرير غرفة النوم ناظراً إلى الجدار الذي عُلقت عليه صور كثيرة توثق للحظات ذلك الزواج الطويل الهانئ قبل أن يستدير نحو زوجته قائلاً: "أرغب في الطلاق".
ثم بعد خمسة عشر عاماً من ذلك أصدرتْ الشاعرة شارون أولدز ديوانها المذهل "قفزة الأيل"، نالت عنه جائزتي البوليتزر و تي إس إليوت. كان ذلك الديوان بمثابة مرثية طويلة للزواج والطلاق وإلحاح الذاكرة والذكريات ومكر الأقدار. لم تحاول فيه الشاعرة المكابرة تقديم وصفات للنسيان، فالشعر ليس جلسة تنمية بشرية، ولا تحايل بالكلمات على الحقيقة؛ إنه موقف جدي وحضاري تجاه العالم ومتعلقاته.
ردّ الكاتب الأسترالي جيرالد مورنيم عن سؤال "متى تكتب؟": "أنا أعتبر نفسي ربّ بيت أكتب خلال الأوقات التي لا أكون فيها مشغولاً بأعمال المنزل أو العناية بأبنائي الثلاثة"، قرأت هذه الكلمات وشعرت برغبة في التصفيق
التزمت أولدز على الدوام بالاشتغال شعرياً بموضوعات نسوية خالصة، لكنها كانت تقوم بذلك وهي واعية بأن الدفاع عن حقوق المرأة هو جزء من مشروع المجتمع، وليس قضية معزولة. خاضت شارون أولدز في شتى الموضوعات في شعرها متأملة مآل البشر والعذابات والعنف والجريمة والفساد السياسي. رفضت دعوة السيدة الأولى حينذاك، لورابوش، للعشاء الذي أقيم على هامش فعاليات مهرجان الكتاب الوطني في واشنطن معللة ذلك بقولها: "إن الكثير من الأمريكيين الذين كانو يفتخرون ببلدهم يشعرون الآن بالخزي والعار تجاه النظام الحالي القائم على الدم والجروح والنار. فكرتُ في المناديل النظيفة على طاولتك، و السكاكين اللامعة، ولهيب الشموع ولم تتحمل معدتي ذلك".
ما نحتاجه ملياً اليوم هو جرأة المبدعات اللائي أنجحن مشروع الكتابة والزواج للحديث عن تجاربهن بصراحة؛ فليست كل الكاتبات والشاعرات فاشلات في إقامة علاقات، أو أنهن لم يستطعن النجاة بالأمومة نحو برّ آمن. على النساء توجيه طاقاتهن نحو تنمية أنفسهن، وليس ضد بعضهن بعضاً، أو في خدمة الخطاب الذكوري، وإعادة تركيب ماضي الإبداع لتصحيح المسارات الخاطئة، ولتفادي امتصاص نبوغهن لذكائهن الاجتماعي، والسقوط في فوهة الانتحار والإدمان.
أصعب ما نُمنح في الحب والزواج والإبداع هو الأمل والتطلعات الكبيرة والآمال العريضة ناسين أو متناسين أن جلّها كيانات هشة تحتاج الكثير من الوعي والحرية لإنجاحها وإحداث التوازن في الجهد والوقت الممنوح لكل واحد منها على حدة. تَعايُش الحياة الاجتماعية والإبداع ليس مستحيلاً مع قليل من العمل الجاد في توفير الاستقلال المادي المطلوب الذي يجعل العمل في حقل الإبداع اختياراً آمناً.
في إجابةٍ للكاتب الأسترالي جيرالد مورنين عن سؤال "متى تكتب؟" قال: "أنا أعتبر نفسي ربّ بيت أكتب خلال الأوقات التي لا أكون فيها مشغولاً بأعمال المنزل أو العناية بأبنائي الثلاثة"، قرأت هذه الكلمات وشعرت برغبة في التصفيق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...