لا أنكر أبداً شعوري بالحنين إلى الماضي في كل مرة أشاهد فيها فيلم "بين الأطلال". لقد تحوّلت الموسيقى المُصاحِبة لهذا العمل إلى مرادف لمشهد الغروب في مخيلتي. هذا الشعور لم يكن بعيداً أبداً عن حالة الرهبة والترقب والانتظار التي أشعر بها كلّما شاهدت فيلم "دعاء الكروان"، أو حالة الشجن والانقباض التي تدركني كلّما عُرض فيلم "نهر الحب". صحيح أن الأفلام الثلاثة من بطولة سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة؛ التي لا نحتاج إلى مزيد من كلمات الإطراء والثناء للتأكيد على مكانتها وتفردها، إلا أن الموسيقى المُصاحبة فيها أضافت بُعداً شعورياً عجيباً لا يمكن تجاوزه. إن مفتاح اللغز هنا يكمن في مؤلف هذه النغمات التي تردد صداها في آذاننا على مدار عقود. الموسيقار المتميز أندريا رايدر .
للأسف حتى وقت قريب كانت المعلومات المنتشرة حول أندريا رايدار فقيرة وغير دقيقة، فأغلبها إما مرويات من أشخاص أحاطوا به أو كلمات سُطرت عقب وفاته. فكان لا بد من الرجوع إلى كتاب "أندريا رايدر مبدع موسيقى الفيلم" لمؤلفته الناقدة الموسيقية د. رشا طموم، والتي بذلت مجهوداً كبيراً في تضفير سيرته وتدقيق ما جاء بها عبر الوثائق الرسمية أو المصادر الصحفية، وذلك ضمن الاحتفاء به ضمن الدورة السابعة، مارس/ آذار 2019، من مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية.
غلاف الكتاب
تقول د. طموم: "من أكثر الأمور التي اختلفت حولها الكتابات هو زمن ومكان ميلاد أندريا رايدر؛ فكثير من الكتابات تؤكد أن ميلاده كان في العاشر من آب/أغسطس 1908 باليونان، وهناك كتابات أخرى تحدد ميلاده عام 1909 استناداً لما جاء في أرشيف جريدة الأهرام. وهناك من يحدد تاريخ ميلاده 1916 وبالرغم من تعدد هذه الكتابات فان الوثيقة الوحيدة الدامغة وهي وثيقة الإقامة الخاصة به، والتي تشير إلى أن تاريخ ومحل ميلاد أندريا رايدر هو عام 1914 بالقاهرة، وأن إقامته في منتصف الستينيات كانت في شارع بشير عمر بالزيتون، وكذلك سكن شارع محمد حجاج بجوار الانتكخانة في وسط البلد. وبالتالي فإن أندريا رايدر، وإن كان من أصول يونانية، فقد نشأ وترعرع في مصر.
لا نمتلك الكثير من المعلومات حول طفولة الملحن أندريا رايدر، لكن موهبته جعلته واحداً من أبرز الملحنين، سواء كنا نتحدث عن الموسيقا التصويرية للأفلام أو الأغاني أو الأناشيد الوطنية
وللغرابة فإن خانة الجنسية في نفس الوثيقة قد أُشير فيها إلى أن جنسيته غير معينة، وقد يكون هذا، كما هو معروف في التاريخ، أن ما قبل القرن العشرين وحتى 1914 كان كل من يعيش على أرض مصر يُكتب عنه من رعايا الدولة العثمانية. وبانتهاء الحكم العثماني لمصر تم تحديد إما الجنسية الأصلية أو الجنسية المصرية. ومن الأرجح أن أندريا رايدر كان ينحدر من جزر يونانية لم تكن قد انضمت لليونان في ذلك الوقت، والتي كانت في حرب مع الدولة العثمانية، لذا ففي الوثائق الرسمية مذكور أن جنسيته غير محددة أو غير معينة".
أندريا رايدر
طفولة موسيقيّة غامضة
لا تسعفنا المعلومات كذلك بتفاصيل عن أسرته ونشأته وتكوينه أو المناهج الدراسية أو الموسيقية التي تعلّمها، لكن يبدو واضحاً درايته الواسعة بالتوزيع الأوركسترالي وإجادته لقراءة النوتة الموسيقية وعزفه المحترف لآلة الترومبيت. كان رايدر من كبار العازفين في الصالات مع الفرق الصغيرة خلال الأربعينيات، وقد أشار الموسيقار منير مراد في حواره مع الإذاعية أمينة صبري في "حديث الذكريات" أن رايدر ساعده في الالتحاق بمعهد "ماريو زينو" الإيطالي بالإسكندرية، الذي كان يعمل به مدرساً. وقد أفاد مراد منه كثيراً فيما يتعلق بالميلودي وصياغة الألحان، وخصوصاً أنه كان يتحدث اللغة العربية.
بدأ رايدر حياته المهنية مع السينما من خلال الأفلام المصرية اليونانية التي أنتجتها شركة "ميلاس والنحّاس" في مطلع الخمسينيات. كان أولها فيلم "زلطة في البحيرة" عام 1952، والذي وضع موسيقاه، كما ظهر عازفاً مع فرقته في أحد مشاهده، وقد كُتب اسمه اليوناني الأصلي في التتر "أندريا أناجنوستو" قبل أن يعرفه الجمهور باسم شهرته في أفلام لاحقة. أما أول مشاركة له في الأفلام المصرية، كانت عن طريق كتابة تتر فيلم "نشالة هانم" عام 1953، لتتوالى بعد ذلك إبداعاته السينمائية التي ناهزت السبعين عملاً، من بينها "الحياة الحب" عام 1954، و"نهارك سعيد" عام 1955، و"فتي أحلامي" عام 1957، و"بين الأطلال" و"حسن ونعيمة" و"دعاء الكروان" و"الرجل الثاني" عام 1959.
قام رايدر بتوزيع مجموعة من الأناشيد الوطنية الحماسية مثل "على باب مصر" ألحان محمد عبد الوهاب وغناء أم كلثوم، كما وزّع نشيد "زمان يا سلاحي" ألحان كمال الطويل، كما وتعاون مع عبد الوهاب في توزيع أعمال شهيرة، مثل "أنا والعذاب وهواك" و"لأ مش أنا اللي أبكي"
كما أنجز في الستينيات "نهر الحب" عام 1960، و"رسالة من امرأة مجهولة" و"اللص والكلاب" عام 1962، و"الباب المفتوح" 1963، و"أغلى من حياتي" و"المستحيل" عام 1965، لينجز بعدها "السمان والخريف" عام 1967، و"الرجل الذي فقد ظله" عام 1968، قبل أن تتوقف مسيرته في السبعينيات التي أنجز خلالها "غروب وشروق" و"السراب" عام 1970، و"الشحات" عام 1972 المعروض بعد وفاته.
الأغاني والأناشيد الوطنيّة
لم تكن الموسيقى التصويرية المجال الوحيد الذي برع خلاله رايدر، فالرجل قام بتوزيع مجموعة من الأناشيد الوطنية الحماسية التي لا زال صداها يتردد إلى يومنا هذا، مثل "على باب مصر" الذي قدمته أم كلثوم في 23 يوليو/ تمّوز عام 1964، خلال احتفالات الثورة، وقد قاد بنفسه الفرقة الموسيقية بعد أن وضع لحنه الموسيقار محمد عبد الوهاب، كما وزّع نشيد "والله زمان يا سلاحي" الذي لحنّه الموسيقار كمال الطويل عام 1956، وغيرهما من الأناشيد الحماسية. وتعاون مع عبد الوهاب في توزيع أعمال شهيرة، مثل "أنا والعذاب وهواك" عام 1955، و"لأ مش أنا اللي أبكي" عام 1959، وهما من الأغنيات العاطفية التي حاول عبد الوهاب من خلالها أن يأخذ مساراً جديداً في نظرته للتلحين والموسيقى ككل.
نال رايدر العديد من الجوائز والتكريمات على المستويين المحلي والدولي، فقد كرمه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1964، بمنحه وسام العلوم والفنون، كما نال العديد من الجوائز عن الأفلام التي وضع الموسيقى التصويرية لها. اعتاد المشاركة في مهرجانات الموسيقى والغناء الدولية عبر المقطوعات الموسيقية التي قام بتأليفها. في عام 1998؛ خلال الاحتفاء بمئوية السينما المصرية، تم اختياره كأحسن مؤلف موسيقى تصويرية في تاريخ السينما المصرية.
كان محباً للرياضة والفنون القتالية، فقد أتقن لعبة الجودو. في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1970، حصل على الجنسية المصرية قبل أن يشارك في مهرجان طوكيو. قبلها بشهر تقريباً كان قد كُلف بكتابة الموسيقى التصويرية للفيلم التسجيلي "أنشودة الوداع" عقب وفاة الرئيس عبد الناصر، كما تم اعتماده أيضاً قبل ذلك ملحناً في الإذاعة المصرية، حسبما روت طموم في كتابها.
تعرض رايدر لحادث في سانتييجو نقل إثره للمشفى حيث فارق الحياة، ونقل جثمانه في 9 آذار عام 1971 إلى القاهرة، وأقيم له قداس جنائزي في كنيسة القديس قسطنطين بحضور كل من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب
رايدر الذي خانه جسده
فارق رايدر الحياة في دولة تشيلي بأمريكا الجنوبية، بعد أن تمت دعوته للمشاركة في مهرجان ديلمار الثاني عشر عام 1971 بمدينة فيبينا؛ عبر أغنية "قوللي قوللي" التي لحنّها لتغنيها الفنانة منار أبو هيف، زوجة السبّاح العالمي عبد اللطيف أبو هيف. وقد لاقت الأغنية نجاحاً كبيراً بين الحضور عندما تمت ترجمتها وغنائها باللغة الإسبانية. حصلت الأغنية على المركز الرابع من بين 45 دولة مشاركة، لينال رايدر شهادة تقدير وجائزة خاصة. بعدها تمت دعوته مع الفرقة والمطربة إلى الاشتراك في حفل خيري؛ يُخصص دخله للجاليات العربية وفقراء تشيلي بمدينة سانتييجو. فنزلوا جميعاً عند أسرة خوان حزبون ذات الأصول الشامية.
تقول أبو هيف في حوارها مع محمود معروف بجريدة الجمهورية عام 1971، والذي نقلت طموم مقتطفات منه في كتابها: "استأذن رايدر للقيام بجولة مسائية في شوارع سانتييجو، وعند الفجر فوجئنا بجرس التليفون وصوت رايدر الذي طلب اللحاق به؛ لأنه تعرض لحادث، فذهبنا إليه وقد حكى أنه تجوّل لمدة ساعة ونصف، وأراد أن يدخل أحد محلات المشروبات الساخنة، وطلب قهوة ولكنه لم يجدها، ونصحه النادل بالذهاب إلى محل آخر يبيع القهوة التركية، فتطوعت سيدة لمرافقته، ولكنها وقفت أمام بيت في الطريق وتحدثت مع شاب. وبعد فترة وجيزة فوجئ أثناء سيرهما للوصول لمحل القهوة بهجوم خمسة شبان عليه لسرقة ساعته وماله. فلم يرد أن يكون فريسة سهلة وهو بطل الجودو، واستطاع أن يتغلب على ثلاثة منهم، ولكنه لم يتمكن من استرجاع محفظته وساعته، فاتصل بالأسرة العربية والتي أبلغت الشرطة".
عقب ذلك طمأنهم الطبيب على صحته، لكن رايدر أحس بالانكسار والهزيمة في داخله، ومرت الأيام ثقيلة عليه حتى أُصيب بألم شديد في الظهر، نُقل إثره إلى المستشفى، ليفارق الحياة في فجر 5 مارس/ آذار عام 1971، قبل أن ينقل جثمانه في 9 مارس/ آذار إلى القاهرة، ويُقام له قداس جنائزي في كنيسة القديس قسطنطين، بحضور كل من أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وبعض المسؤولين الرسميين. بعد وفاته بعامين منحت الحكومة المصرية زوجته "ماري" الجنسية المصرية، وطُويت صفحة مهمة من مسيرة أحد الموسيقيين الذين رافقت موسيقاهم أجمل اللحظات السينمائية والأعمال الفنية التي نتذكرها إلى يومنا هذا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...